بيروت – وليد شقير
مع الوداع المؤثر للبطريرك الماروني الراحل الكاردينال نصر الله بطرس صفير تكثر الصفات والأوصاف التي ستطلق عليه وتتراكض في الذاكرة أحداث ترك “بصمته العميقة” فيها كما جاء في نعي الرئاسة الفرنسية له.
من “أيقونة” البطريركية المارونية، إلى “بطل الاستقلال الثاني” حسب إجماع رموز “ثورة الأرز” عام 2005 ، إلى “القائد الصلب” و”البطريرك المقاوم” و”الثاقب النظرة” وصولا إلى “رجل العيش المشترك والمصالحة”، اختط الراحل منهجا وتوجهات طبعت إحدى أكثر المراحل خطورة ودقة من التاريخ اللبناني، وكان لها تأثيرها الأكيد في صناعة التحولات الكبرى في خضم الحروب اللبنانية والتدخلات الخارجية فيها. وبرهن الرجل القصير القامة عن هامة عالية رفدها العمل بصمت والثبات على مبادئ وحنكة تتيح الليونة، بقدر الصلابة التي مارسها بذكاء حاد وعناد لا يساوم.
فالمنصب الذي قيل منذ القدم أن “مجد لبنان أعطي له”، نظرا إلى الدور الذي صنعته الطائفة المارونية وكنيستها، للبطريركية في المحطات المفصلية من تاريخ لبنان الحافل بالاضطرابات السياسية والحروب التي كانت تنتهي بالتسويات، لم يكن ليتحول إلى حاجة حاسمة لولا اختلاف القادة السياسيين للموارنة حينا، ولولا اضطرار البطاركة الذين لمع إسمهم في القيادة الدينية والسياسية، لإقحام موقعهم المعنوي، في جهود ترجيح تلك التسويات، حينا آخر. وهي التسويات التي ساعدت على استمرار البلد الصغير الفريد في تنوعه وتعدديته الطائفية والسياسية، وتشعب علاقات مجموعاته، وولاءاتها الخارجية. وكان من الطبيعي أن يرفد هذا الدور احتضان الفاتيكان للموقع البطريركي، ما أعطى بعدا يتعدى لبنان لموقعه السياسي، يشهد عليه الحضور الخارجي الذي سيميز مأتم صفير اليوم الخميس.
في الحرب التي عصفت بلبنان منتصف سبعينات القرن الماضي حجب تصدر المشهد السياسي والعسكري من قبل زعماء وأقطاب موارنة لهم ثقلهم، مثل الرئيسين الراحلين كميل شمعون وسليمان فرنجية ورئيس حزب “الكتائب بيار الجميل، والعميد ريمون إده، على ما بينهم من اختلافات وتباينات، دور البطريركية المارونية، التي وقعت مرتبكة بين دعم بعض الرهبانيات المارونية للقتال الذي خاضته ميليشيات الأحزاب المسيحية ضد التمدد الفلسطيني المسلح في مناطق لبنانية عدة، وميليشيات إسلامية وأحزاب الحركة الوطنية الحليفة للفصائل الفلسطينية… وبين السعي إلى وقف الحرب التي كان يعود القرار في لجمها إلى أقطاب السياسة، والأدوار العربية والدولية.
لم يكن الدور الذي حاوله سلف البطريرك صفير، البطريرك أنطونيوس بطرس خريش في السعي إلى وقف القتال مسموعا. بل جرى تهديده من الميليشيات واغتيل إبن شقيقه المونسنيور ألبير خريش، ولم يفلح في توحيد الصف الماروني لا سيما بعد مجزرة إهدن التي قتل فيها طوني سليمان فرنجية نتيجة هجوم كتائبي… إلى أن استقال عام 1986 لبلوغه السن القانونية، فخلفه صفير، الذي عايش تفاصيل معاناته مع أمراء الحرب، لا سيما المسيحيين، في محاولته وضع حد للقتال بالحوار.
بعد سنتين على توليه المسؤولية، توالت المحطات التي فرضت الأحداث على البطريرك صفير أن يدمغ نهجه عليها:
فراغ الرئاسة
1- عام 1988 ، حملته الوساطات الأجنبية على تسمية خمسة أسماء لرئاسة الجمهورية، للحؤول دون الفراغ في الموقع الأول المخصص للموارنة في السلطة، والذي وقع بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق أمين الجميل، قبل أن يسلم الأخير سلطات الرئاسة إلى حكومة برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون آنذاك الذي كان طامحا للرئاسة. أصيب صفير بالخيبة وهو يحاول تجنيب لبنان تسمية الرئيس من قبل سورية، التي خاضت الميليشيات المسيحية مواجهات دموية مع قواتها في السنوات السابقة على الاستحقاق الرئاسي. فقد أبلغه الوسيط الأميركي ريتشارد مورفي بالخيار بين مخايل الضاهر، مرشح دمشق، أو الفوضى، التي ما لبثت أن وقعت بإعلان عون الحرب على الوجود السوري، ثم اصطدامه مع ميليشيا “القوات اللبنانية”. أخذ صفير على نفسه عدم الدخول في لعبة الأسماء لاحقا نتيجة التجربة، تاركا الأمر للسياسيين. لكنه كان معروفا عنه تحبيذه رجالا من طينة الراحلين ريمون إده ونسيب لحود، هو الذي ردد عبارته الشهيرة بالقول إنه يرغب برئيس “لا يخجل مستقبله من ماضيه”…وهي واحدة من عباراته، التي اشتهر بها، تختزل المعنى وتختزن الكثير من المقاصد.
صياغة “الطائف”
2- أيقن صفير أن إنهاء النزف المسيحي واللبناني، وتجنيب المسيحيين استمرار التآكل في دورهم في السلطة، وهجرتهم، غير ممكن بلا تسوية كانت ملامحها أخذت تتبلور في أوراق ومسودات شاركت فيها دول عربية وأجنبية، لم تفلح في إنهاء جولات الحروب المتعاقبة. كان آخر هذه المسودات ما سمي في حينها ورقة الموفدة الأميركية آبريل غلاسبي للإصلاحات الدستورية. أعطى صفير مظلته إلى مجموعة من السياسيين العاملين في الظل، في طليعتهم الراحل سمير فرنجية، الذي أطلق في لقاء مع البطريرك في روما حيث كان يحضر سينودوس في الفاتيكان، بعد التشاور مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عملا دؤوبا للمساهمة في صوغ وثيقة إنهاء العنف المدمر. استندت تلك الجهود إلى المعادلة التالية في التسوية المطلوبة: المسلمون يريدون المشاركة في الحكم، والمسيحيون مطلبهم السيادة. وهو ما ترجمه اتفاق الطائف حينها بالإصلاحات الدستورية مقابل النص على الانسحاب السوري خلال سنتين، بضمانة عربية.
بين الذين انضموا إلى المجموعة، ممن سبقوا صفير في الرحيل: نسيب لحود، وكان الحريري يواكب المداولات، ومعهم شخصيات مسيحية أخرى مثل فارس سعيد وسيمون كرم، وفريق من المقربين إلى رئيس البرلمان السابق السيد حسين الحسيني مثل شقيقه طلال ومحمد مطر بغطاء من رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وآخرون . تنقل بعضهم بين بكركي وبعلبك حيث أقام الحسيني مع اشتداد القصف، لتبادل الأفكار. قلة عرفت أن الخطوط العريضة لما سمي لاحقا “وثيقة الوفاق الوطني” التي خرجت عن مؤتمر النواب اللبنانيين في مدينة الطائف السعودية بعد أشهر، ساهم البطريرك في رسمها مسبقا. ولم تكن تغطيته لانتقال النواب، لا سيما المسيحيين إلى المملكة العربية السعودية من بعدها، عن عبث، ما أغضب عون في حينها، إلى درجة أن أنصاره توجهوا إلى بكركي للاحتجاج وأهانوا البطريرك، فاضطر للمغادرة إلى الديمان. لكنه كان أمّن موافقة قائد “القوات” سمير جعجع وحزب “الكتائب” والعديد من النواب المسيحيين المستقلين على مسار الطائف.
الانسحاب السوري ومصالحة الجبل
3- مطلع التسعينات أصيب المسيحيون بالصدمة والإحباط: اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض الذي أعقبه انتخاب الرئيس الياس الهراوي، إخراج القوات السورية عون من قصر بعبدا بالقوة بتغطية من السلطة ثم نفيه إلى فرنسا، تفرد سورية بإدارة الشأن اللبناني، مع انكفاء اللجنة الثلاثية العربية التي كلفتها القمة العربية رعاية الحل السياسي، والتي تألفت من المغرب، المملكة العربية السعودية والجزائر. تجريد الميليشيات من السلاح وخصوصا “القوات اللبنانية”، بدء تطبيق اتفاق الطائف الذي ينزع بعض صلاحيات الرئاسة المارونية لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعا، تدخل دمشق بتفاصيل تأليف الحكومة والتمثيل المسيحي… تحولت الصدمة إلى إحباط مع مقاطعة الانتخابات عام 1992 لعدم تلبية الرغبة المسيحية في تغيير قانون الانتخاب. من هنا نشأت فكرته عن وجوب تحقيق العدالة بأن يحصل المسيحيون على حق انتخابهم ال64 نائبا بدل أن ينتخب جزء منهم بأصوات المسيحيين، التي تبناها قادة الأحزاب المسيحية لاحقا ولا سيما الرئيس عون. تعمق الإحباط بعد سجن سمير جعجع عام 94، مضافا إلى نفي عون، وتهجير الجميل، ثم غياب القادة التاريخيين، في ظل تجاهل بند إعادة الانتشار السوري نحو البقاع وفق الطائف، بعد سنتين على تطبيق الإصلاحات الدستورية. تراكمت النقمة على انكفاء الدور المسيحي في السلطة وعلى وضع اليد السورية، التي دفعت صفير إلى إطلاق المواقف المطالبة بالسيادة والاستقلال وبحقوق المسيحيين في عظاته، وصولا إلى عام 2000، حين جرت الدورة الثالثة من الانتخابات النيابية بعد الطائف، في ظل تدخل سورية في تركيب اللوائح وازدياد النقمة على هيمنتها على القرار اللبناني حيث أدرك أن الإطباق السوري على مفاصل السلطة يحول دون وصول نواب لديهم حد أدنى من الاستقلالية. رفض البطريرك الإغراءات لزيارة دمشق، وكان يسأل في كل مرة فوتح بهذا الخيار بعد أن يستمع إلى محدثيه بعينين شاردتين: “ماذا سيعطونني (لمصلحة السيادة والاستقلال) في المقابل”؟ حاول رئيس البرلمان نبيه بري تدوير الزوايا بعد تشاور مع السوريين وأطلق تصريحه الشهير عن إمكان إعادة انتشار الجيش السوري، الذي عادت دمشق فنقضته. فقد صفير الأمل بإمكان تعديل المسار الذي سلكته الأحداث عبر الوساطات ومنها من قبل بعض الدول الكبرى، ومن الحريري نفسه، في منتصف التسعينات، وفيما لاح في الأفق نزوع الأخير، بعد عام 1998 (انتخاب الرئيس إميل لحود) مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، بعد تثبيتهما قوتهما الانتخابية بمواجهة حلفاء سورية، نحو قدر من التفلت من هيمنة الأجهزة الأمنية السورية واللبنانية. وجاء الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب في أيار (مايو) عام 2000 فتبنى صفير مقولة أن حجة بقاء القوات السورية في انتظار الانسحاب الإسرائيلي سقطت. أطلق نداء مجلس المطارنة الرقم واحد، الشهير، في أيلول من العام نفسه مطالبا بانسحابها، وأفرج جنبلاط عن عبارة “إعادة تموضع” الجيش السوري في البقاع. ورعى “لقاء قرنة شهوان” للقيادات المسيحية المعارضة للهيمنة السورية بعمل دؤوب ونفس طويل، وصمد أمام ضغوط قيادات مسيحية خالفته الرأي على رغم تعرضه لحملات ومقاطعة منها، على رغم اعترافها بدوره الوطني. أقبل مع جنبلاط على مصالحة الجبل، لإعادة الاعتبار للتسوية اللبنانية، ما أغضب القيادة السورية وجماعتها في الداخل. لكنه واصل دوره القيادي باحتراف عالي المستوى، فأعطى الغطاء لمشاركة “قرنة شهوان” في اجتماعات المعارضة التي تنامت بعد التمديد للرئيس لحود، في “اجتماعات البريستول”.
ثورة الأرز
4- أدرك البطريرك صفير أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 ضربة قاصمة للاجتماع السياسي اللبناني، فاشترك في حملة استنهاض الجمهور اللبناني الناقم، مع الأحزاب المسيحية، والإسلامية المعارضة للهيمنة السورية، وصولا إلى تظاهرة 14 آذار (مارس) المليونية التي اشترك فيها بكلمة مسجلة بالصوت والصورة، دعت إلى الوحدة الوطنية ومحاكمة القتلة. وساهم على طريقته في “ثورة الأرز” التي أفضت، مع عوامل خارجية، إلى تحقيق مطلبه بالانسحاب السوري، ما سمح بإضافة لقب قائد تلك الثورة، إلى الألقاب التي أسبغت عليه.
انسحب صفير من المسؤولية البطريركية عام 2011 ، لا لكبر سنه، فهو بقي متوقد الذهن وواضح البصيرة، بل ليفسح المجال لغير نهجه. ولهذه الخطوة وقائعها أيضا.
رحيله يضيء على الشخصية الفذة والصابرة بحكمة وقدرة على الاحتمال وبعد النظر، قل نظيرها في الحقبة الصعبة التي عايشها.
تلاحق الرمزية صفير بعد وفاته. فهو من مواليد 15 أيار (مايو) 1920، اليوم نفسه الذي أعلن فيه الانتداب الفرنسي دولة لبنان الكبير. وأمس الأربعاء 15 أيار 2019 نقل جثمانه إلى البطريركية في بكركي، كي يدفن في اليوم التالي، بمأتم رسمي وشعبي كبير، قبل سنة تحديدا من الاحتفال بمئوية إعلان لبنان الكبير.