تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في الجرود معمّدٌ بالدماء منذ أن رُفِعت راية العقاب فوق جبال القلمون بعد انسحاب المسلحين المنهزمين في القصير عام ٢٠١٣. سيف الذبح أمعن قتلاً في أمراء التنظيم قبل مناوئيه، قبل أن يتمكن أميره الحالي موفق الجربان من توحيد الصف. طبول الحرب تُقرع، ورغم أن المعلومات تتحدث عن وسيطين للتفاوض، يُصرّ مقاتلو التنظيم على أنهم سيقاتلون «حتى آخر جندي»
لم يكن موفّق عبدالله الجربان، الملقّب بـ«أبو السوس»، يعلم أنّ سنين الحرب الست ستحوّله من «متظاهر يُطالب بالحرية» إلى «أمير» على رأس أكثر الجماعات تشدداً في العالم، تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي يعتبر الحرية مطلباً فاسداً (بحسب تصريح وزير حربه السابق طرخان باتيرشفيلي، المشهور بـ«أبو عمر الشيشاني»، لمجلة دابق).
الشاب الأربعيني كان لحّاماً، ثم عمِل في تربية الدواجن (الجدير ذكره أن شقيق الجربان يدير مزرعة دواجن في لبنان منذ سنوات)، قبل أن يفتح دكان سمانة في بلدة القصير يوم نزل مع المتظاهرين للمطالبة بإسقاط النظام. لكنه لم يلبث أن شكّل فصيلاً مسلّحاً لقتال الجيش السوري. الجربان كان أحد مؤسّسي «كتيبة الوادي» التي نشطت بين وادي خالد والقصير، لكنه تركها لاحقاً ليلتحق بأقوى فصيل في المنطقة: كتائب الفاروق، فصيل سلفي بوجهٍ معتدل. يقول عارفوه لـ«الأخبار» إنّه كان ملتزماً دينياً، لجهة تأديته الصلوات الخمس والصوم فقط، لكنه لم يكن يوماً متشدداً. وبقي كذلك إلى أن بايع «أبا بكر البغدادي». أما تسمية «أبو السوس»، فقد ورثها عن جدّه الذي كان يعمل فوّالاً. يروي أحد جيرانه في القصير لـ«الأخبار» أنّ زبائن جدّه كانوا يقولون إنّ الفول الذي يبيعه فيه سوس أو «مسوّس»، ومن هنا خرج اللقب ليصبغ أبناءه من بعده.
في القصير، لم يمرّ وقت طويل حتى تسلّم الجربان زمام قيادة كتائب الفاروق. شارك «أبو السوس» مع الشيخ عبد السلام حربة الملقب بـ«أبو علي حربة» في محاولة تهجير المسيحيين من قرية ربلة في ريف القصير. كذلك هاجما معاً القرى التي يقطنها لبنانيون في حوض العاصي (داخل الأراضي السورية، قبالة الهرمل). وقبل معارك قرى غرب العاصي، اختطف الجربان شاباً من مدينة الهرمل كان يقيم في قرية سورية، متّهماً إياه بالعمل لـ«صالح الشيعة». و«ثبّت» التهمة بحقه بعدما وجد في منزله بندقية صيد! يومها عُذِّب الشاب بوحشية، ساوم لأيام من أجل الحصول على مبلغ فدية لإطلاق سراحه، قبل أن يُعطي «أبو السوس» نفسه الأمر بقتل الشاب اللبناني. كذلك اختطف صحافيتين أجنبيتين، وأفرج عنهما بعد حصوله على مبلغ أربعة ملايين دولار. الخطف مقابل فدية مكّن الجربان من جمع ثروة طائلة، ساعدته لاحقاً على تقوية تنظيمه، من خلال دفع رواتب مقاتليه بصورة منتظمة.
وتواجَه الجربان، في القصير، مع حزب الله والجيش السوري. تلك كانت أولى المعارك التي يُهزم فيها الرجل، لتكرّ من بعدها سبحة الهزائم. وتكشف المصادر لـ«الأخبار» أنّ تاجر التبغ المعروف بعبد السلام عيّوش أجرى مفاوضات غير مباشرة بين جماعة «أبو السوس» وحزب الله أثناء معركة القصير، مشيرةً إلى أن التفاوض الأول مع حزب الله كان لتحرير جثماني شهيدين له سقطا خلال معركة القصير، مقابل نقل 40 جريحاً لكتائب الفاروق من بساتين القصير إلى مستشفيات طرابلس. بعدها، وإثر فرض الحزب حصاراً على مسلّحي القصير من كافة الجهات، جرى التفاوض على وقف إطلاق النار للانسحاب من القصير. فانسحب «أبو السوس» مع باقي الفصائل باتجاه يبرود، علماً بأنّه بعد هزيمة القصير، وبسبب تفاوضه مع الحزب، اتُّهِم «أبو السوس» من قِبل الفصائل المعارضة بخيانة «الثورة» وبيع القصير لحزب الله!
مكث القيادي القصيراوي في يبرود طويلاً، قبل أن تتكرر فيها الهزيمة مجدداً بمواجهة حزب الله. كان الجربان لا يزال حينها يقود كتائب الفاروق، التي بدأت تتآكل. بعد معركة يبرود، انكفأ مسلّحو المعارضة السورية باتجاه جرود القلمون. كان نجم تنظيم الدولة الإسلامية قد بدأ بالصعود، وكانت جبهة النصرة قد أصبحت الفصيل الأقوى في هذه البقعة الجغرافية. في موازاة تعيين «أبو مالك التلّي» على رأس «النصرة»، كان «أبو عبدالله العراقي» يقود «الدولة الإسلامية» في القلمون. وكان التعاون بين الفصيلين قائماً، رغم الصراع الذي اشتعل في كل سوريا بين «إخوة الجهاد»، بسبب محافظة التلّي على خصوصية العلاقة بين التنظيمين في القلمون.
لم يمر وقت طويل قبل أن يُستبدل «أبو عبدالله العراقي» بابن مخيم برج البراجنة، الفلسطيني أحمد طه، بناءً على أوامر «والي الشام» أبو ثابت الأنصاري. أعاد الرجل «دولة الخلافة الإسلامية» إلى جرود القلمون بثقلٍ أكبر، وانتزع بيعة أكثر من مجموعة مسلّحة أساسية تنشط في ريف دمشق الشمالي، التي أسلمت زمام قيادتها إلى «أبو حسن الفلسطيني»، الرجل الأربعيني ذي الباع «الجهادي» الطويل، الذي ترك صفوف فتح الانتفاضة في مخيم اليرموك وسُجن غير مرة قبل أن يلتحق بركب «الدولة الإسلامية». كان من بين هؤلاء لواء «فجر الإسلام»، المؤلّف من نحو 500 مسلّح، يقودهم ابن القصير «أبو أحمد جمعة»، الذي أعلن تبرّؤه من «المجالس العسكرية الديمقراطية العلمانية»، ومبايعته ومن معه لـ«خليفة المسلمين إبراهيم بن عواد على السمع والطاعة في العسر واليسر». هكذا اشتدّ عود تنظيم الدولة الإسلامية في الجرود، علماً بأنّ معظم المسلّحين الذين بايعوه هم من أبناء بلدة القصير وريفها.
بدأ أبو حسن الفلسطيني، رفيق درب نعيم عباس، عمليات تصفية طالت لبنانيين وسوريين بتهمة «الكفر أو العمالة». ونفّذ عدة عمليات خطف للحصول على فدية مالية، وكان يُصرّ على رفض أيّ وساطة من أيّ جهة أتت. بعد توقيف الجيش لـ«أبو أحمد جمعة»، نفّذ عناصر التنظيم بقيادة أميره «أبو حسن الفلسطيني» ما عُرِف بـ«غزوة عرسال» واحتلوا البلدة اللبنانية بالتعاون مع مقاتلي جبهة النصرة. كان ذلك في 2 آب 2014، تاريخ اختطاف العسكريين اللبنانيين.
أثناء مهاجمة عرسال، أُصيب «أمير» التنظيم الفلسطيني إصابة قاتلة، ما لبث بعدها أن فارق الحياة. خلَف الأمير الراحل المدعو أبو طلال الحمد، الذي شهد بداية التفاوض مع الدولة اللبنانية بشأن العسكريين المخطوفين. لم يطل الوقت حتى دبّ الشقاق بين قيادات «الدولة الإسلامية» في جرود القلمون. فُصِل «لواء فجر الإسلام» من الصفوف بشبهة ممارسات تُخرِجه من المنهج، و«نُفي» عناصره من القلمون إلى حمص. استُدعي الحمد إلى الرقة حيث قُتل لاحقاً، وتولّى شؤون التنظيم من بعده، مرحلياً، «أبو عبد السلام التونسي»، قبل أن تصدر الأوامر بتولية زمام قيادة تنظيم «الدولة» في الجرود للشيخ «أبو عبدالله الأردني»، المشهور بـ«أبو الوليد المقدسي». تمكّن الشرعي الأردني من إعادة تنظيم شؤون التنظيم، وبدأ تشكيلات جديدة. الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين من العمر، تمكّن في فترة قصيرة من رفع عديد التنظيم من 96 شاباً إلى 800، بعد استمالته عدداً من الفصائل التي كانت محسوبة، اسمياً، على «الجيش الحر». والمعروف عن «المقدسي»، بحسب قيادات جهادية، أنّه «صاحب غلوّ كبير وحاقد على النصرة»، رغم أنه كان في صفوفها قبل انشقاقه عنها. وقد أفتى بقتل أحد قادة «الدولة» لأنّه رفض تكفير مسلّحي «الجبهة». ورغم ذلك، لم يلبث مقاتلوه أن انقلبوا عليه واتهموه بالردة. أُجهِز عليه مع زوجته ذبحاً بوصفه «مرتداً لا يُستتاب». كذلك قُتل في الاشتباكات بين أبناء التنظيم نفسه الأمير العسكري في التنظيم «أبو بلقيس العراقي». وشهدت صفوف التنظيم من بعدها انشقاقات عديدة وبدأت حروب الأجنحة. قسّم الصراع الداخلي تنظيم «الدولة» إلى فروع. هنا برز دور «أبو السوس» الذي عُيّن أميراً مرحلياً للتنظيم، ليقود الجناح العسكري الأقوى في القلمون. أحكم «أبو السوس» سيطرته على تنظيم الدولة في القلمون، مثلما فعل في القصير مع كتائب الفاروق. وقاد حملة تصفية كي لا يبقى قيادي قوي غيره، فقضى على كافة مناوئيه.
اتّخذ «أبو السوس» من وادي ميرا مركزاً له. من هناك، شنّ الهجمات ضد تنظيم «جبهة النصرة»، واختطف أشخاصاً من عرسال بتهمة التعامل مع حزب الله والدولة اللبنانية، عامداً إلى تصفيتهم. واستمال أيضاً مجموعات من فصائل أخرى، في أوج تقدّم «تنظيم الدولة» في سوريا.
اليوم، وبحسب المصادر الميدانية، يُقاتل تحت راية «أبو السوس مئات المسلحين (تراوح التقديرات بين 400 و750) يُسيطرون على مساحة تعادل أكثر من ضعفي المساحة التي كانت تسيطر عليها جبهة النصرة. يُنقل عنه رفضه للتفاوض، وأنه سيقاتل حتى آخر مسلّحيه من أتباعه.