النتيجة الساطعة لزيارة الموفد الفرنسي جان ايف لودريان ليست عودته إلى بلاده حاملاً في جعبته فشلاً سادساً في فتح باب القصر الجمهوري في بعبدا امام رئيس جديد للبلاد، بقدر ما هي انتكاسة موصوفة لفرنسا، وجهودها المتتالية منذ بدء الأزمة الرئاسية، سواءً الأحادية الجانب بسلسلة المبادرات التي طرحتها، او عبر شراكتها في اللجنة الخماسية، لإحداث خرق ايجابي في ملف معقّد لطالما اكّد الرئيس ايمانويل ماكرون انّه يضعه في صدارة اولوياته. وهذه الانتكاسة لا تبدو منعزلة عن الانتكاسة التي مُني بها المسعى الفرنسي في ما خصّ ما سُمّي بالحل السياسي لمنطقة حدود لبنان الجنوبية.
على انّ هذه النتيجة السلبية، تتموضع في موازاة ما يبدو انّه انكفاء غير معلن للجنة الخماسية عن الملف الرئاسي، بعدما قدّمت اللجنة خلاصة مساعيها في بيان بدا «ختامياً»، حدّدت فيه مسار الحل الرئاسي، وألقت كرة التشاور والتوافق في ملعب مكونات سياسية لم تتلقفها، بل خذلت اللجنة الخماسية بإدمانها المتعمّد منذ بداية الأزمة الرئاسية، على تعميق الإنقسام الداخلي، وتعطيل فرص إنهاء الوضع الشاذ في رئاسة الجمهورية.
ترحيل مديد!
السؤال الذي يطرح نفسه في موازاة هذا الفشل: ماذا بعد؟
في تقييم مستويات سياسية معنية بالملف الرئاسي والحراكات التي احاطت به، تتبدّى حقيقة أنّ «الأفق الرئاسي بات مسدوداً بالكامل، لا بل أنّ الفشل الأخير في جذب اطراف الانقسام الرئاسي إلى حلبة التوافق، أعاد هذا الملف الى ما قبل نقطة الصفر، ما يعني والحالة هذه، ترحيلاً تلقائياً لانتخابات رئاسة الجمهورية، ولفترة مديدة؛ على الأقل أشهراً إلى الأمام، في انتظار أن تحصل معجزة تغلب منطق التعطيل وتُخضع الجميع لمنطق التوافق».
في سياق هذا الجو «المعوكر»، يقول مسؤول كبير لـ»الجمهورية»، انّه أخرج نفسه من دائرة الرهان على ايجابيات في المدى المنظور. وبات يحضّر نفسه لفترة طويلة من المراوحة السلبية، وخصوصاً انّ المسار التعطيلي الذي يسلكه الملف الرئاسي يقترب من أن يؤدي به إلى الغرق لفترة طويلة، في كوما الاستحقاقات الخارجية، التي تشكّل في نظر العالم محطات مفصلية، وفي مقدّمها الانتخابات الرئاسية الاميركية، فيما يبدو الاستحقاق الرئاسي في موازاة هذه الاستحقاقات مجرد أمر ثانوي ليس موجوداً حتى على هامش الاهتمامات».
سقط الوهم
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، هو انّ سيل التساؤلات لم يتوقف حول الحكمة من زيارة جديدة للودريان الى بيروت، معروفة نتائجها سلفاً، برغم تجنيد بعض المنصات السياسية والاعلامية لاختلاق ايجابيات وضخّ ما بدا انّه وهمٌ – سقط في نهاية الأمر- أوحى وكأنّ قطار الانفراج الرئاسي قد انطلق.
ضمن هذا السياق، تكشف مصادر واسعة الاطلاع لـ»الجمهورية» عن «أنّ زيارة لودريان الى بيروت لم تكن مقرّرة اساساً. وعندما قرّرها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وصلت اشارات الى بيروت تؤكّد خلوّ جعبة لودريان من أي طرح نوعي، وانّ الغاية الأساس هي اعداد تقرير حول الملف الرئاسي (وهو ما اشار اليه لودريان في محادثاته)، لتغذية ملف الرئيس الفرنسي الذي سيحمله معه الى لقائه المقرّر بعد ايام قليلة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، بصورة الواقع اللبناني. علماً، والكلام للمصادر عينها، انّ هذه الصورة في حوزة باريس بتفاصيلها، إن عبر مواكبتها المباشرة، او عبر شراكتها في اللجنة الخماسية، ولا تحتاج بالنسبة اليها، الى تجميع جديد.
وبحسب المصادر عينها، فإنّها جهات سياسية لبنانية، انطلقت من قراءة الفشل المسبق لزيارة لودريان قبل حصولها، وخصوصاً انّه لا يحمل ما من شأنه ان يفتح مساراً لانفراج رئاسي، ووجّهت إلى الجانب الفرنسي نصيحة مفادها انّ لودريان بزيارته في الوقت الراهن الى بيروت، لم يحقق شيئاً، فالأجدى لو يتمّ تأجيلها الى ما بعد حصول لقاء ماكرون – بايدن، التي يُقال انّها ستتناول الملف اللبناني، فعندها يمكن أن يأتي الى بيروت لأي مهمّة، مدعماً بما قد يصدر عن الرئيسين الفرنسي والاميركي حول لبنان.
سنة على الأقل
إزاء ما استجد، يؤكّد مرجع مسؤول لـ»الجمهورية» رداً على سؤال حول مصير انتخابات رئاسة الجمهورية: «ما من شك انّ فشل مهمّة لودريان يشكّل خسارة معنوية للفرنسيين، واما خسارتنا نحن فمسلسل متواصل. فالملف الرئاسي كان قبل الزيارة، وما زال بعد الزيارة، ثابتاً خارج مسار الحل والتوافق. هناك تعطيل واضح، وهناك «فيتوات» من قبل دول «الخماسية» على مرشحين معيّنين. هي تنفي ذلك في العلن، اما في داخل الغرف المغلقة وفي الممارسة فتؤكّد على ذلك بصراحة مطلقة، ولودريان تحرّك في مهّمته الأخيرة تحت سقف هذه الفيتوات، في اتجاه ما سمّاه «تشاوراً» يؤدي الى ما وصفه امام بعض النواب «الخيار الثالث».
يُشار هنا الى انّ لودريان، ووفق معلومات موثوقة، عقد لقاء وصف بغير المريح مع رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، حاول فيه إقناع فرنجية بالانسحاب من المعركة الرئاسية، وهو الأمر الذي رفضه فرنجية مؤكّداً مضيه فيها. كما انّ «حزب الله» قطع الطريق على أي خيار ثالث، بتأكيد رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد امام لودريان، اولاً على ما مفاده أن لا رابط على الاطلاق بين الملف الرئاسي والملف الجنوبي، حيث أننا مع اجراء الانتخابات الرئاسية اليوم قبل الغد وتحت سقف التوافق. وثانياً على أننا، إزاء ما نراه في غزة، بتنا أكثر تمسكاً واصراراً على دعم المرشح الذي ندعمه. وخصوصاً انّ المرحلة المقبلة تتطلّب رئيساً للجمهورية لا يجامل الاسرائيليين، ولا من يدعم الاسرائيليين».
لودريان طوى صفحته
في هذا الواقع المعقّد والمضبوط على إيقاع التعطيل ورفض التوافق، وفق ما يؤكّد مصدر رسمي رفيع لـ»الجمهورية»، من الطبيعي جداً الّا تنفع كل الحراكات التي حصلت في فتح المسار الرئاسي، وخصوصاً انّها جميعها تحركت – ومن ضمنها مهمة لودريان- ضمن مسار يلبّي فقط ما ترمي اليه اطراف رافضة للتوافق على رئيس للجمهورية. ومن هنا، وبناءً على النتيجة التي شهدناها جميعاً، أجزم بأنّ لودريان في زيارته الأخيرة طوى صفحته، لا عودة جديدة له الى بيروت، ومعلوماتي نقلاً عن أحد سفراء اللجنة الخماسية، أنّ جدول اعمال اللجنة، بات خالياً من أيّ حراك او لقاءات جديدة مع الأطراف اللبنانيين، يعني عملياً أنّ اللجنة جمّدت مسعاها من دون ان تعلن عن ذلك. ويعني ذلك ايضاً انّ الملف الرئاسي بات متروكاً في مهبّ التعطيل ورفض التوافق، لفترة غير محدّدة بسقف زمني، يعني تعطيلاً مفتوحاً، لا شيء يمنع، والحالة هذه، أن يمتد الى سنة على الاقل، وربما الى ما بعد نهاية ولاية المجلس النيابي الحالي».
بري: طريق الحل معروف
واللافت في هذا السياق، انّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري يتجنّب مقاربة الالتباسات التي رافقت زيارة لودريان، وما نُقل عنه حول «الخيار الثالث»، بل يشير الى انّ اجواء اللقاء بينه وبين لودريان كانت جيدة. (لم يطرح لودريان اي شيء متصل بـ»الخيار الثالث» خلال لقائه بالرئيس بري).
ورداً على سؤال، أعاد بري التأكيد عبر «الجمهورية» انّ طريق الحل الرئاسي معروف، وهو محدّد في المبادرة التي اطلقتها لجمع الأطراف على طاولة حوار او نقاش او اي مرادف لهما للتوافق على مرشح او مرشحين، لفترة سقفها اسبوع، ويمكن ان نتوافق في يوم واحد، ومن ثم النزول الى مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية في جلسات بدورات متتالية.
ويشير بري الى انّ الدعوة الى اجتماع الاطراف يمكن ان تحصل اليوم قبل الغد، إذا ما لاحظ قبولاً منها للجلوس على الطاولة، هذا الامر سيحصل في نهاية المطاف، وخصوصاً ان لا طريق لحسم الأزمة الرئاسية سوى بالجلوس على طاولة التوافق.
للتهدئة قبل آب
في الجانب الآخر من الأزمة الداخلية، علمت «الجمهورية» انّ مستويات رسمية تلقّت اشارات خارجية تفيد بسعي لدى بعض الدول لإعادة تحريك ملف الحل السياسي لمنطقة الحدود الجنوبية في المستقبل القريب.
وأذا كانت الدول المعنية ببلوغ هذا الحل، وتحديداً الولايات المتحدة الاميركية، باتت مقتنعة باستحالة بلوغه قبل توقف العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة، الّا انّ مصادر المعلومات تلفت الى انّ الهدف الاساس من هذا التحريك، هو بلوغ هذا الحل إن امكن ذلك، او حسم بعض الاجراءات المرتبطة به، وذلك استباقاً للاستحقاق الأممي في شهر آب المقبل، على اعتبار انّ هذا الشهر هو شهر التمديد السنوي لعمل قوات «اليونيفيل» في الجنوب.
معلومات موثوقة لـ»الجمهورية» اكّدت انّ لودريان أثار في لقائه ملف الحل السياسي لمنطقة الجنوب، حيث قال ما مفاده: «صحيح انّ إمكانية الوصول الى هذا الحل صعبة قبل وقف حرب غزة، ولقد وَصَلنا جوابكم على ورقة الحل الفرنسية، ولكن مع ذلك فعلى الأقل، يجب ان نفكر في وضع آليات معيّنة لهذا الحل، لأننا امام استحقاق في شهر آب».
يُشار هنا الى أنّ التباساً وإرباكاً حصلا في التمديد السابق، حينما عدّل مجلس الامن الدولي مهام «اليونيفيل» وأجاز لها القيام بدوريات دون الحاجة الى تنسيق مع الجيش اللبناني.
الوضع الميداني
ميدانياً، على الوتيرة ذاتها من التصعيد، عاشت امس، المنطقة الجنوبية الممتدة من الناقورة الى جبل الشيخ، في ظل تصاعد الاعتداءات الاسرائيلية على المناطق والبلدات اللبنانية. فيما تقدّم لبنان بشكوى الى مجلس الامن ضدّ اسرائيل لاستهدافها سيارة وحافلة مدرسية في شوكين – كفردجال.
وافيد امس عن سلسلة من الغارات الجوية استهدفت عدداً من البلدات القريبة من الحدود، وكذلك استهدفت المؤسسات الصحية، ما ادّى الى اصابات بين افرادها بين شهيد وجريح، حيث نعى «حزب الله» المسعف الشهيد حيدر محمود جهير «أمير» من بلدة الناقورة. وتزامنت الاعتداءات الجوية، مع قصف مدفعي عنيف طال العديد من البلدات الحدودية، ولاسيما طير حرفا، علما الشعب، الضهيرة، يارون، وقرى وبلدات العرقوب والقطاع الشرقي.
وفي موازاة ذلك، اعلن «حزب الله» انّ المقاومة الاسلامية ردّت على تلك الاعتداءات بسلسلة عمليات استهدفت موقع البغدادي بصواريخ «بركان»، وثكنة برانيت (مقر الفرقة 91) بصواريخ «بركان»، ومستوطنة راموت نفتالي بصلية صاروخية، ومبنى يستخدمه جنود العدو في مستعمرة شوميرا (طربيخا اللبنانية). كما شنّت هجوماً جوياً بمسيّرات انقضاضية استهدفت منصات القبة الحديدية في مربض الزاعورة واطقمها واماكن استقرارهم وعملهم، وموقع زبدين في مزارع شبعا، ومواقع الرمتا والسماقة وجل العلام، ومستوطنات جعتون وعين يعقوب ويحيعام، بعشرات صواريخ الكاتيوشا.
ولاحظ الإعلام الاسرائيلي انّ رشقات الصواريخ تكثفت من لبنان في اتجاه المواقع الاسرائيلية والمستوطنات بعد خطاب امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بعد ظهر امس.
نصرالله
الى ذلك، قال السيد نصرالله في كلمة القاها في تأبين الشيخ علي كوراني:» هذه المعركة هي معركة مصير لنا جميعاً، ونحن موجودون فيها». اضاف: «ان انتصار اسرائيل في هذه المعركة سيترك آثاراً كبيرة وخطيرة جداً على كل شعوب وبلدان المنطقة، اما هزيمتها فستكون لها الكثير من الآثار العظيمة في مختلف المجالات على كل المنطقة»، وقال: «هذه المعركة تعني مستقبل لبنان وسيادته ومياهه وثرواته في البحر التي يُمنع حتى الآن على اللبنانيين الاستفادة منها».
وفي الملف الرئاسي قال انّه لا توجد اي علاقة بين المعركة في الجنوب وغزة وبين انتخاب رئيس الجمهورية. وسأل «هل يوجد سبيل غير سبيل الحوار والتشاور للوصول الى نتيجة؟».
وإذ اكّد انّ المعركة في الجنوب ليست هي ما يعطّل انتخابات رئاسة الجمهورية، قال: «الذي عطّل انتخابات الرئاسة مدة سنة قبل «طوفان الاقصى» هي الخلافات الداخلية والفيتوات الخارجية».
لن يعودوا
إلى ذلك، كشف الإعلام الاسرائيلي النقاب عن دراسة اعدّها «مركز المعرفة» في الكلية الأكاديمية الإسرائيلية «تل حاي»، أظهرت أنّ نحو 40% ممن أُخلوا من المستوطنات الشمالية يفكّرون في عدم العودة، حتى في نهاية الحرب.
ووجدت الدراسة، التي شملت 2000 مستوطن في الجليل، ونشرت نتائجها صحيفة «ماكور ريشون» الإسرائيلية، أنّ الوضع مشابه في صفوف الذين أُخلوا بصورة مستقلة، حيث يفكّر 38% منهم بعدم العودة أيضاً.
وعرضت الدراسة أيضاً ما وصفته بـ»معطياتٍ مثيرةً للقلق» تتعلّق بالوضع الاقتصادي لمستوطني الشمال، وهو «عامل حاسم في اتخاذ قرار بشأن البقاء في الشمال بعد انتهاء الحرب»، بحسب ما أوردت الصحيفة.
وفي هذا الإطار، بيّنت الدراسة أنّ 73% من المستوطنين العاملين لحسابهم الخاص، و39% من الموظفين بأجر، يؤكّدون وجود «وضع اقتصادي أسوأ مما كان عليه قبل 7 تشرين الأول.
وأفاد 47% من العاملين لحسابهم الخاص بحصول «مستوى عالٍ من الضرر، إذ انخفض دخلهم بأكثر من نصف إجمالي المبيعات السنوية.
وكشفت الدراسة أيضاً أنّ نحو ثلث العاملين لحسابهم الخاص، وقرابة خُمس الموظفين بأجر، يفكّرون في نقل عملهم من الشمال «بصورة دائمة».
وأكّدت «ماكور ريشون» أنّ «واقع الحياة القاسي» بالنسبة لمستوطني الشمال هو السبب الرئيسي لمعطيات الدراسة، حيث أُطلقت آلاف القذائف الصاروخية والمضادة للدروع والمسيّرات من «حزب الله» في لبنان على مستوطنات الجليل الأعلى، منذ بداية الحرب.
وأكّدت الصحيفة أنّ إطلاق الصواريخ يومياً أضرّ بشعور الكثيرين من مستوطني الجليل بالأمن، إلى جانب ما ألحقه من أضرار بالغة في منازل ومبانٍ وبنية تحتية.
ولدى تعليقها على النتائج، أكّدت رئيسة «مركز المعرفة» في كلية «تل حاي»، أيالا كوهِن، أنّ مستوطني الشمال يعيشون «حالةً من عدم اليقين من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية.