يبقى ملف المفاوضات الرامية الى بلورة صفقة تنهي الحرب في قطاع غزة وتتمدد الى جبهة جنوب لبنان، في صُلب الاولويات والمتابعات. وعلى ما هو واضح فإنها ما زالت تسير بين المطبات والالغام، وسط ما يبدو انه مماطلة مستمرة من قبل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي اتهمته مستويات سياسية واعلامية اسرائيلية بأنّه يطيل أمد الحرب ويضيف شروطاً ومقترحات جديدة من شأنها أن تعيق إتمام الصفقة، وتوسّع مساحة المواجهات. في وقت ما زالت فيه التقديرات الاميركية ترجّح بلوغ الصفقة في المدى المنظور.
امّا في المشهد اللبناني المُربك بتعقيداته ومطباته، فإنّ السؤال الذي يبحث عن جواب ولا يجده «متى سيتوقف العبث بمصير هذا البلد؟ هو السؤال نفسه الذي توخّى منه اللبنانيون جواباً مُلحاً منذ بداية الازمة، لا سيما في زمن ما سُمّيت ثورة تشرين» في العام 2019، ثم توخّى جواباً اكثر إلحاحاً مع الازمة الرئاسية وتفاقم الانقسامات حولها. وها هو اليوم يتوخّى جواباً ما فوق الضرورة والالحاح في الظرف الراهن الذي تداخلت فيه كل الازمات، وبات لبنان معها يقف على حافة احتمالات مجهولة.
تعميم الشلل والمعاناة
ولكن على ما تؤشّر حلبة الاشتباك الداخلي المحتدمة منذ سنوات طويلة، فإنّ اللبنانيين بسؤالهم هذا يطلبون المستحيل، ذلك أنّ لعبة العبث مستمرة ومن يديرها ماض فيها الى احتدام اكبر وأوسع يبقي اللبنانيين محكوماً عليهم بالإقامة الجبرية في واقع سياسي مرير، خاضع لكائنات سياسية مبتدؤها وخبرها الارتزاق السياسي وغير السياسي من الأزمات، وافتعال الاشكالات والسجالات وتعميق الفرقة والانقسام، ومقابلة حاجة البلد الملحة الى اعادة انتظام حياته السياسية ومؤسساته الدستورية والاقتصادية والاجتماعية والادارية، بتعميم الشلل والمعاناة في كل أرجائه، وزرع العوائق والمطبّات والالغام في كلّ طريق او مفترق يمكن ان يوصِل إلى حسم إيجابي لأيّ من الملفات الداخلية.
هذا الواقع كما شهده كل اللبنانيين، تفاقمَ الى حدٍّ وَرّمَ الخاصرة الرئاسية بخصومات سياسيّة واصطفافات فشّلت كل المبادرات والوساطات لتنفيسها، وأكدت استحالة بناء مساحات مشتركة او نقاط التقاء او تفاهم او توافق، في ما بينها، على انتخاب رئيس للجمهورية. الا ان الادهى منه هو ورم الخاصرة الجنوبية، وما أفرزه تماديه وتفاقمه من «عداوات داخلية»، تُنذر بما هو اخطر على مصير البلد، حيث يُعبّر عنها بنبرة صداميّة وهجوميّة وتحريضيّة حيال موجبات إشعال هذه الجبهة وتصاعد المواجهات بين «حزب الله» والجيش الاسرائيلي.
ملء الفراغ بفراغ أكبر
رئاسياً، التشاؤم هو الطاغي في المجالس والأوساط السياسية، ومصير الملف الرئاسي يحدده مرجع سياسي بقوله رداً على سؤال لـ«الجمهورية»: للمرة المئة اقول ان لا حل رئاسياً في المدى المنظور. ولا انتخاب لرئيس للجمهورية من دون توافق، وهذا التوافق كما ترون يهربون منه لأنهم لا يريدون انتخاب رئيس، ولا شيء لديّ أضيفه».
ورداً على سؤال عما اذا كانت مبادرة نواب المعارضة تشكّل فرصة لانفراج رئاسي، قال: الفرصة الوحيدة لهذا الانفراج كانت وما تزال محددة في مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري التي تَبنّتها اللجنة الخماسية شكلا ومضمونا وهدفا، فيما ما يُحكى عن طروحات او افكار كمثل ما سمّيت «خريطة المعارضة»، لا يَعدو اكثر من هروب من تهمة التعطيل، الى محاولة ملء الفراغ بفراغ أكبر، وبإشعال سجالات متتالية كمثل التي سبقت وتواكبت وأعقبت تقديم نواب المعارضة لطرحهم المُلتبس».
لا مبادرات خارجية
على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق، ما استخلصته مصادر ديبلوماسية من اجواء اللجنة الخماسية، حيث اكدت انّها لا تتبنّى طرح نواب المعارضة الذي قدّم اليها، خلافاً لما تَمّ ترويجه عقب لقاء النواب بسفراء اللجنة الخماسية، بل ان اللجنة استمعت اليهم، وتسلّمت طرحهم على قاعدة أخذ العلم به لا اكثر.
وبحسب الاجواء التي نقلتها المصادر الديبلوماسية فلا توجد أي مبادرة خارجية جديدة لا من اللجنة الخماسية او غيرها، كما لا يوجد في برنامج عملها اي خطة لتحرّك لاحق، بل ان اللجنة تنتظر مبادرة الاطراف اللبنانيين الى تَلقّف دعوتها الى التوافق، التي اطلقتها في بيانها الاخير، والتي تتناغم بشكل كلّي مع مبادرة الرئيس بري لبلورة توافق على انتخاب رئيس.
الفرنسيون منشغلون بأنفسهم
وفي سياق متصل، لحظت المصادر الديبلوماسية عينها إرباكاً في الموقف الفرنسي حيال كل المسائل والقضايا الخارجية، ومن ضمنها لبنان، وذلك كنتيجة للانتخابات الاخيرة، وفرضت توازنات سياسية جديدة أشبَه ما تكون بواقع لبنان. ومن هنا لا يعوّل في هذه المرحلة على حضور فرنسي او دور فرنسي فاعل سواء على الخط الرئاسي، او على الخط الجنوبي، خصوصاً ان الاولويات الفرنسية انكفأت كلها الى الداخل الفرنسي، ما يعني ان الفرنسيين منشغلون بأنفسهم وترتيب شؤونهم الداخلية قبل اي مكان آخر».
المعارضة: رهانات «حزب الله»
واذا كانت خريطة المعارضة قد سلكت طريقها لعرض تفاصيلها في اتجاه اللجنة الخماسية وكذلك في اتجاهات نيابية مختلفة، فإنها قوبِلت بما بَدا انه تجاوب شكلي من قبل التيار الوطني الحر، الذي يَتشارك من حيث المصلحة مع توجّه المعارضة التي تقوده «القوات اللبنانية» نحو إخراج رئيس تيار المردة سليمان فرنجية من السباق الرئاسي. الا انها لم تتأخر في الدخول في دائرة التعثّر من جهتين، الاولى من الصفعة السلبية التي تَلقّتها من اللقاء الديموقراطي الذي اكد بصراحة ووضوح انه لم يلمس جديداً في خريطة المعارضة. والثانية من جهة ثنائي حركة «امل» و»حزب الله» حيث لا تبدو طريق الخريطة ميَسّرة في اتجاههما.
وفي هذا الاطار، أبلغت مصادر في المعارضة الى «الجمهورية» قولها: انّ الاقتراحين اللذين تقدمت بهما المعارضة يشكلان أفضل المخارج للأزمة القائمة، ويُيَسّران انتخاب رئيس الجمهورية في غضون ايام قليلة. الا انّ «حزب الله» يرفض ان يرفع يده عن لبنان ويصرّ على مصادرة الاستحقاق الرئاسي ورَهن البلد لخياراته وجَعله ساحة نفوذ ايرانية في مواجهة كل العالم.
وفي موازاة تأكيد المعارضة على «انّ الرئيس بري امام مسؤولية التجاوب مع الاقتراحين للتعجيل بانتخاب رئيس للجمهورية»، أعلنت الدائرة الاعلامية في حزب «القوات اللبنانية» في بيان «انّ المعبر الوحيد لانتخاب رئيس هو الدستور، وأقصر الطرق لانتخاب رئيس هو الدستور. والذين يدّعون انّ الطريق الازلية الى الرئاسة تمر في عين التينة يتخطّون الدستور ويُمعنون في الشغور».
الثنائي: ردّ مُحبط
وفي السياق، يبرز رد الفعل الأولي من قبل ثنائي «أمل» و«حزب الله» على خريطة المعارضة، حيث جاء هذا الرد محبطاً لأصحابها. فعين التينة قرأت فيها خطوة فولكلورية واستعراضية تنطوي على خلاصة لموقف «القوات اللبنانية» الرافض للتوافق الذي لا بد منه على باب الاستحقاق الرئاسي، فيما وجدها «حزب الله» غير صالحة حتى للقراءة على حد تعبير أوساطه.
وقالت مصادر الثنائي لـ«الجمهورية»: نحن مع كل جهد يسعى الى التوافق الجدي على انتخاب رئيس للجمهورية، ومع أي مزاحمة تهدف الى تحقيق مصلحة لبنان، وهذه المصلحة محددة بالتفاهم والتوافق بين مكونات البلد. ومن هنا لا بديل عن مبادرة الرئيس بري، وفي نهاية المطاف سيعود الجميع اليها.
كتلة بري
الى ذلك، أعلنت كتلة التنمية والتحرير، بعد اجتماعها برئاسة الرئيس بري أمس، «انها بالقدر الذي تدين فيه أيّ تَطاول أو تَجنّ أو استخفاف بالمواقع الرئاسية وصلاحياتها وادوارها، فهي لن تعير أيّ اهتمام لحملات التجني والإفتراء التي تطاول رئيس المجلس النيابي ودوره وصلاحياته، وهي حملات حتماً مَمجوجة ومكشوفة الأهداف، وهي لن تغيّر من قناعاتنا وإيماننا بأنّ لبنان في أساس وجوده وتركيبته الروحية والسياسية الفريدة هو وطن حوار وتَلاقٍ يومي بين مختلف ألوان طيفه الروحي والسياسي، فلماذا خشية هذا البعض من علّة وجود لبنان وهو الحوار؟ ولماذا تصوير الحوار أو التشاور على أنه فزّاعة وتجاوز للنظام والدستور؟.
ورحّبت الكتلة بأيّ مسعى أو جهد عربي شقيق، أو دولي صديق، يرمي لمساعدة لبنان بإنجاز استحقاق رئاسة الجمهورية. وهو جهد يجب أن يقابَل من كافة الكتل النيابية والقوى السياسية بجهد وطني جامِع يقتنع فيه الجميع بوجوب الإبتعاد عن الكيد والمكابرة والإلغاء، وبالإقتناع بأنّ طبيعة التعقيدات والتوازنات في المجلس النيابي والإستعصاء الحاصل يفرضان بأن يكون هناك تشاور وحوار جدي، بمناخ منفتح تحت قبة البرلمان وتحت سقف الدستور، لإيام معدودات يُفضي الى توافق على مرشح أو اثنين أو ثلاثة، حوار من أجل انتخاب رئيس لجمهورية لبنان يكون انتخابه مدخلاً لانتظام عمل المؤسسات الدستورية وانقياداً لمنطق الدولة والمؤسسات والحؤول دون اندثارها».
ومن جهة ثانية، اكدت الكتلة على الالتزام بالقرار 1701، ورحّبت بأي جهد دولي يلزم «إسرائيل» بوقف عدوانها على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وحكماً بوقف العدوان على لبنان ووقف انتهاكاتها لبنود هذا القرار والضغط عليها لتطبيقه بحرفيته، مع التأكيد على الرفض المطلق لأي نقاش أو بحث، بإنشاء مناطق عازلة فوق أي بقعة من التراب السيادي اللبناني، لا في جنوب الليطاني ولا في شماله».
الوضع الميداني
ميدانياً، يوم جديد من العنف والمواجهات شهدته المنطقة الجنوبية، تكثفت فيه الاعتداءات الاسرائيلية على مختلف المناطق القريبة من خط الحدود، حيث سجّل شريط الاعتداءات للطيران الحربي الاسرائيلي على بلدة كفر كلا، وغارة على بلدة طيرحرفا، وبلدة الجبين. وغارة بطائرة مسيرة استهدفت دراجة نارية على طريق راشيا الفخار – الماري في قضاء حاصبيا ما أدى الى سقوط جريح.
وترافقَ ذلك مع قصفٍ مدفعي طالَ الوزاني ما ادى الى جرح شخص من التابعية البنغلاديشية. كما طالَ القصف كفر كلا، تل النحاس، هورا، العديسة، واطراف بليدا ومحيبيب وعيناتا وصولاً الى عيترون، ما أدى الى اشتعال العديد من الحرائق. وقد تقدمت وزارة الخارجية بشكوى الى مجلس الامن الدولي ضد اسرائيل على خلفية اعتداءاتها على القطاع الزراعي والمزارعين ومربي المواشي في القرى الحدودية واستخدام الفوسفور الابيض الذي أدى الى مئات الحرائق.
في المقابل اعلن «حزب الله» ان المقاومة الاسلامية استهدفت موقد رويسة القرن في مزارع شبعا بالاسلحة الصاروخية، ومجموعة من جنود العدو أثناء قيامها بأعمال التحصين والتدشيم في محيط موقع حانيتا بالاسلحة الصاروخية، وانتشاراً لجنود العدو في محيط مستعمرة ادميت بصاروخ بركان، وموقع العدو في مستعمرة المطلة، حيث ذكرت وسائل الاعلام الاسرائيلية انّ القصف ادى الى انقطاع التيار الكهربائي في المستوطنة. ومقر قيادة كتيبة المشاة التابعة للواء الشرقي 768 في ثكنة راميم بقذائف المدفعية.
رعد: نصرنا سيكون مدوّياً
وقال رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد: عندما يتوقف العدوان على غزة سنبدأ فوراً بوقف إطلاق النار على جبهتنا. وأكد في كلمة له: العدو في مرحلة لا يستطيع فيها أن يشنّ حرباً على لبنان، وهذه ليست آمالاً ولا توقعات هذه معطيات نعرفها مما نحضّره للعدو ومما نستشعره ونراقبه في أدائه، ونحن جاهزون لكل الخيارات.
وخَلص الى القول: لن نُمكّن عدونا من أن ينال منّا وسنخرج منتصرين إن شاء الله، وانتصارُنا سيكون مدوياً لأن فشل «الإسرائيلي» سيكون مدوياً أيضاً.
الموقف الاسرائيلي
الى ذلك، وفيما ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية «أن المسيّرات التي يطلقها «حزب الله» وتستهدف المستوطنات في الشمال تخلق مشكلة صعبة وخطيرة بالنسبة لإسرائيل»، كشف رئيس وزراء اسرائيل السابق ايهود اولمرت «أنّ وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش، و«الأمن القومي» إيتمار بن غفير، يدعمان استيطاناً إسرائيلياً في قطاع غزة وجنوب لبنان». وقال: «قريباً، سيتم العثور على عالم دين يحدد في الكتب المقدسة القديمة آية أو اثنتين تُثبتان أن جنوب لبنان كان دائماً وأبداً جزءاً من وطننا المقدس والتاريخي».
واشار أولمرت، في مقال له في صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية، الى «أنّهما من أجل هذا الهدف الملموس، يدفعان إلى حرب شاملة في الشمال، وهو أمر غير ضروري وغير مبرر»، مؤكداً أنه بدلاً من ذلك، يجب التوصل إلى اتفاق مع الحكومة اللبنانية، ولو أدى ذلك إلى الموافقة على «تعديلات حدودية» طفيفة لا تشكل تهديداً أمنياً حقيقياً لإسرائيل».