المناخ السابق لمفاوضات وقف اطلاق النار في غزة، المقررة في الخامس عشر من الشهر الجاري، أي بعد يومين، يشي بضعف احتمال حصول تقدم فيها؛ حركة “حماس” اكدت تمسكها بما تمّ الاتفاق عليه في 2 تموز الماضي واشترطت وضع اطر تنفيذية له بدل الدخول في مفاوضات جديدة. فيما لم تقدم اسرائيل ما يوحي باستعدادها لإنجاح صفقة تنهي الحرب، بل على العكس من ذلك، تنحى في اتجاه الاستمرار في الحرب، وهو ما اكدت عليه مستويات سياسية وامنية واعلامية اسرائيلية أجمعت على التاكيد بأن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو لا يريد اتمام هذه الصفقة، بل يدفع الى حرب واسعة النطاق.
وضُعفُ احتمال بلوغ تقدم في 15 آب، يعززه صرير الأسنان الذي ينذر بنهش المنطقة برمّتها؛ اسرائيل ماضية في مجازرها وتهدّد، إيران تتوعّد، “حزب الله” يتجهّز، العالم يترقب، الولايات المتحدة الاميركية تحذر، وتصاحب ذلك سيول من التخمينات والتكهنات والسيناريوهات الكارثية التي تضرب دول الشرق الأوسط من كلّ اتجاه، وتوحي بأنّ هذه المنطقة باتت قاب قوسين أو ادنى من أن تزحل من مكانها.. إلا أذا حصلت مفاجآة في اللحظات الاخيرة، قلبت المناخ السلبي رأسا على عقب.
لبنان على خط النار
المناخ العام حربي، في ظله تبدو المنطقة تتدحرج بسرعة، أو يُدفع بها الى حرب لم يعد في الامكان تفاديها. حيث انّ المجريات المتسارعة – استنفارات واستعدادات واحتياطات وتهديدات وحشودات – تشي بأنّ صمام الأمان قد نزع، وأنّ لحظة التفجير مُعيّرة على ساعة رملية توشك أن تلفظ آخر حبّة رمل فيها.
واما لبنان في هذا المناخ، فيقع على خط النار، ويعيش أكثر لحظاته قلقاً وارباكا، داخله مفكك، مخلّع، منقسم على ذاته، وبمعنى ادق داخله مُنهار بالكامل. وحظّه عاثر بنوعيّة كريهة من السياسيين المصلحيّين صدّعت أسسه، واخضعته لأهوائها، وافقدته توازنه وقطعت عليه كل سبل تحصين ذاته والصمود امام ما يتهدده من عواصف، وأثبتت للقاصي والداني انحرافها وفقدانها لمعنى الرجولة والإقدام والشعور بالمسؤولية الوطنية في الأزمات. واما اللبنانيون ففي أعلى درجات الخوف مما تخبئه الأيام، لا بل الساعات المقبلة من مخاطر على وجودهم ومصير بلدهم.
الرئاسة منسية
المسلم به أنّ رئاسة الجمهوريّة تشكل المدخل لإعادة الانتظام الى الدولة ومؤسساتها، والباب لإعادة تجميع عناصر التحصين الداخلي، ولكن يبدو أن اولويتها سقطت بـ”مرور الزمن”، بحيث أصبح الملف الرئاسي ملفا هامشيّا بل صار ملفاُ منسيّاً، وبات الحديث عنه في الاجواء الحالية مجرّد كلام فارغ بلا أيّ معنى، وخصوصا أن الوقائع الحربية المتواصلة منذ عشرة أشهر، إضافة الى يخبئه “بنك المخاطر” من نكبات وويلات على المنطقة كما على لبنان، لم تغيّر ما هو طافح في نفوس المعطلين، من شهوات وطموحات هدامة.
الأوساط السياسية على اختلافها مسلمة أن رئاسة الجمهورية رحّلت الى ما بعد انتهاء الحرب، ولكن أفق هذه الحرب مفتوح ربما الى مديات بعيدة ليس معلوما علامَ سيرسو عليه حال المنطقة، واي خرائط جديدة سترسم، وأي تحولات او تغييرات طفيفة كانت أو جذرية ستطرأ عليها.
لا يخفي رئيس مجلس النواب نبيه بري قلقه من التفسّخ الداخلي، ويقول انه حدد طريق الانفراج الرئاسي عبر المبادرة التي اطلقها، والوقت يمرّ وظروف البلد تصبح أقسى، والحاجة باتت أكثر من ملحة وواجبة لكي نوفر لبلدنا فرصة انقاذ وتحصين بالتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية.
جنبلاط: حذار الفتنة
وابلغ مصدر قريب من الرئيس السابق الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الى “الجمهورية” قوله “ان ظروف لبنان والمنطقة خطيرة جدا، وهو الامر الذي يؤكد الضرورة القصوى للتحصين الداخلي، ولإحباط اي محاولة خبيثة أيا كان مصدرها للعبث بأمن البلد وزرع الفتنة والفرقة بين اللبنانيين. والرهان ولو كان صعبا في الواقع الذي نحن فيه، الا أنه يبقى على وعي القيادات السياسية وغير السياسية لمنع خراب البلد”.
ولفت المصدر الى انّ وليد جنبلاط كان أول من تحرّك في هذا الاتجاه واطلق تحذيرات متتالية، وقام بسلسلة من الخطوات في كل الاتجاهات لتجنّب سقوط البلد في ما يخطط له أعداء لبنان، إدراكا منه أن الخطر كبير جدا، يهدد الجميع ولا يستثني أحدا.
وردا على سؤال اعتبر المصدر ان الامور لا تبدو مشجعة في ما خص الملف الرئاسي. فهناك من ربط قصدا او عن غير قصد هذا الملف بالظروف التي تشهدها المنطقة، وبات يقاربه بكونه ملفا مؤجلا الى ما انتهاء الحرب. ولكن نحن نرى ان الافق ليس مسدودا، حيث لا شيء يمنع على الاطلاق في أن نبادر الى انتخاب رئيس للجمهورية، بما يمنح اللبنانيين فرصة للتلاقي في هذا الظرف الصعب. ونحن أيدنا مبادرة الرئيس بري، كسبيل لانتخاب رئيس للجمهورية، بما يمهد لاعادة انتظام البلد سياسيا وحكوميا واداريا، ونكرر تأكيدنا على أننا نؤمن بالحوار سبيلا لتجاوز كل المشكلات والتعقيدات، ونرى انه حان الوقت لتتوقف المزايدات من هنا وهناك، والكف عن رفع السقوف وزرع العوائق وافتعال المطبات.
الخماسية .. توقف مؤقت
في هذا السياق، أبلغ احد سفراء اللجنة الخماسية إلى “الجمهورية” قوله: من حيث المبدأ فإن مهمة اللجنة قائمة ولم يتم تعليقها كما سبق لبعض الاعلاميين ان روجوا لذلك، فاللجنة موجودة والمشاورات لم تتوقف بين اعضائها، بل تحصل بين وقت وآخر. واودّ أن انوّه هنا الى أنه من الطبيعي أن تتأثر مهمّة اللجنة الخماسية بما استجد من ظروف صعبة في المنطقة، وهذا أمر خارج عن اراداتها، ونأمل أن يكون ذلك لفترة قصيرة مؤقتة”.
ردا على سؤال قال السفير المذكور إنه لا يستطيع ان يحدد موعدا لاستئناف مهمة اللجنة، ولكن في مطلق الاحوال، فإن اللجنة ملتزمة بالمسار الذي انتهجته في مساعدة اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية. ولسنا متشائمين في تحقيق هذه الغاية، وخصوصا اننا قطعنا اشواطا مهمة جدا يمكن البناء عليها من قبل القيادات والمسؤولين في لبنان الذي يبقى الرهان في نهاية الامر على وطنيتها ومسؤوليتها في التفاهم بصورة عاجلة على انتخاب رئيس للجمهورية”.
الخاصرة الجنوبية متورّمة
على ان الوضع المعطوب في الداخل سياسيا ورئاسيا وعلى كل المستويات الاخرى، يفاقمه التورّم المتزايد في الخاصرة الجنوبية، التي تشهد ما يبدو انه دفع يومي الى السقوط في آتون حرب قاسية. فالجبهة العسكرية شهدت في الساعات الاخيرة تدحرجا خطيرا، تكثفت فيه الاعتداءات الاسرائيلية على مختلف المناطق اللبنانية المحاذية لخط الحدود، قابلها تصعيد ملحوظ لعمليات “حزب الله” ضدّ مواقع الجيش الإسرائيلي والمستوطنات والقواعد العسكرية في العمق الإسرائيلي.
على خطين
في هذه الاجواء، قالت مصادر حكومية لـ”الجمهورية” إن لبنان يتحرّك على خطين؛ الأول من خلال اتصالات حكومية مكثفة مع جهات دولية مختلفة لوقف الاعتداءات الاسرائيلية على لبنان، والثاني في اتجاه تأكيد العلاقة الطيبة مع قوات اليونيفيل العاملة في الجنوب وكذلك تأكيد التمسك بمهمتها في سياق التزام لبنان الكلي بمندرجات القرار 1701.
في ما خص الخط الأول، قال رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي “إنّ الاتصالات الديبلوماسية ناشطة في أكثر من اتجاه لوقف التهديدات الاسرائيلية ضدّ لبنان، وعلى خط آخر للتوصل الى وقف لاطلاق النار في غزة”. وأوضح أنّ “ورقة الحكومة اللبنانية التي تظهر القواعد الهادفة إلى تحقيق الاستقرار على المدى الطويل في جنوب لبنان والتي اعلناها نهاية الاسبوع، تحدد الأسس الواضحة للحل وابرزها خفض التصعيد لتجنب دوامة العنف المدمرة وان يقوم المجتمع الدولي بدور حاسم وفوري في تهدئة التوترات وكبح العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان”. وشدد على أن “الرسالة الأبلغ التي يشدد عليها في كل لقاءاته واتصالاته الديبلوماسية هي تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1701 هو حجر الزاوية لضمان الإستقرار والأمن في جنوب لبنان”.
وفي ما خص الخط الثاني، أكد ميقاتي أن “لبنان متمسكٌ بمهام اليونيفيل”. وفي السياق ذاته جاء بيان قيادة الجيش امس، التي نفت ما ما قيل عن توقف الدوريات المشتركة بين الجيش واليونيفيل، مؤكدة على “أن الوحدات العسكرية تُواصل تنفيذ المهمات المشتركة مع اليونيفيل، والتعاون والتنسيق الوثيق معها، وذلك ضمن إطار القرار 1701، في ظل الظروف الاستثنائية والتطورات التي تشهدها البلاد ولا سيما الاعتداءات المستمرة من جانب العدو الإسرائيلي”.
تمديد بلا تغيير
واذا كان المتوخى من الاتصالات الحكومية هو وقف العدوانية الاسرائيلية تجاه لبنان، التي يعبر عنها بكثافة الاعتداءات على المناطق اللبنانية، والتهديدات المتتالية بعمل عدواني ضد لبنان، إلّا أن الحراك المرتبط بقوات “اليونيفيل”، فرضه الاشكال الاخير الذي حصل في بلدة كفر حمام واحدث التباسا بين وحدة من الجيش اللبناني خلال مواكبتها دورية للكتيبة الفرنسية، امكن حله على مستوى قيادتي الجيش واليونيفيل.
الا ان ما جرى في كفر حمام، قاربه مسؤول كبير باستغرب وريبة، وخصوصا انه، كما قال لـ”الجمهورية”، يأتي في الوقت الذي بدأت فيه المناقشات على مستوى الدول للتمديد السنوي لقوات اليونيفيل في الجنوب، الذي ينتظر صدوره في 31 آب الجاري.
وكشف المسؤول عينه “ان لبنان، وانطلاقا من التزامه بالقرار 1701، وحرصه على بقاء قوات اليونيفيل في الجنوب، قام بالإجراء الروتيني في
أواخر حزيران الماضي عبر توجيه رسالة من وزارة الخارجية الى الامين العام للامم المتحدة طلب فيها تمديد ولاية اليونيفيل سنة اضافية. وبالفعل تم توزيع نسخات من مسودة لقرار التمديد اعدتها فرنسا، على الدول المعنية، ومن ضمنها لبنان، حيث تسلمنا بعد فترة قصيرة نسخة من هذه المسودة، وقمنا بدراستها، ووضع بعض الملاحظات عليها، ويمكن تسميتها تعديلات بسيطة لا تمس جوهر مهمة اليونيفيل. كما نص عليها القرار 1701.
واوضح المسؤول عينه الى أن المسودة الفرنسية تكاد تكون صورة طبق الاصل عن صيغة التمديد السابق لليونيفيل في 31 آب 2023. وفضل الا يكشف عن مضمون الملاحظات او ما سماها التعديلات البسيطة، الا أنه اكد ان لبنان يتمسك بالتنسيق الكامل بين اليونيفيل والجيش اللبناني في المناطق المشمولة بالقرار 1701.
وامل الا تحصل مداخلات او طروحات بقواعد جديدة تعيق صدور قرار التمديد، او تخلق اشكالات والتباسات، على نحو ما جرى خلال فترة التمديد السابق، وقال: حتى الآن لا شيء يوحي بذلك، والجو العام يميل الى تمديد سلس.
وردا على سؤال ذكّر المسؤول عينه بالالتباس الذي حصل خلال التمديد السابق في العام الماضي، الذي انتهى الى تعديلات عارضناها، حيث منح التمديد آنذاك اليونيفيل حق القيام بمهامها بصورة مستقلة بمعزل عن الجيش اللبناني. وتسيير الدوريات المعلن وغير المعلن عنها دون مؤازرة او ابلاغ الجيش اللبناني. والنتيجة التي تبدت على أرض الواثع، تجلت في أن هذا التعديل لم يتم تطبيقه بصورة حرفية حيث استمر الحال على ما كان عليه وفق تمديد من 31 آب 2022 الى 31 آب 2023، جراء “تفاهم أدبي” بيننا وبين اليونيفيل وبين الجيش واليونيفيل، حتى لا تحصل اي اشكالات بين اليونيفيل واهالي المناطق الجنوبية، حيث استمرت الدوريات بالتنسيق مع الجيش اللبناني. والمحاولات القليلة التي جرت فيها دوريات مستقلة لليونيفيل بمعزل عن الجيش تسببت باشكالات ومواجهات مع الاهالي كما حصل في بعض القرى.
ويشير المسؤول عينه الى ان المسودة الفرنسية تلحظ التطورات الامنية المستجدة منذ تشرين الاول من العام الماضي، وتدعو جميع الاطراف الى الالتزام بالقرار 1701، وتؤكد على الحاجة في المنطقة الى حل ديبلوماسي يُعيد اليها الأمن والإستقرار. وكذلك على الحاجة الملحة الى حل سياسي يثبت الامن والاستقرار بصورة مستدامة على جانبي الحدود الجنوبية.
المشهد في إسرائيل
الى ذلك، يعيش الداخل ما وصفها الاعلام الاسرائيلي ” فترة انتظار مرهقة للأعصاب كجزء من استراتيجية الاستنزاف التي تقودها إيران ضد إسرائيل”، وعكست الصحافة والقنوات الاسرائيلية استعدادات في كل القطاعات تحسبا لرد ايران و”حزب الله”.
على أن اللافت للانتباه في هذا السياق ما نقل عن وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت بأنه لا ينصح بحرب ضد لبنان، وقال في الجزء المغلق من اجتماع لجنة الخارجية والأمن إن إسرائيل في مفترق طرق أمني وأمام خيارين إما التسوية وإما التصعيد، وموقفي أنا والأجهزة الأمنية الذهاب نحو تسوية تشمل صفقة لاستعادة المختطفين وإبعاد قوات الرضوان عن الحدود. وتابع: اردت في 11 أكتوبر الماضي مهاجمة لبنان لكن الكابينت لم يصدق على الطلب والآن لا أنصح بذلك لأن شن حرب على لبنان يعتبر مغامرة والظروف الموجودة اليوم في لبنان هي عكس ما كانت عليه في بداية الحرب.
وانتقد غالانت نتنياهو وقال: أنا أسمع قارعي طبول الحرب وثرثرة النصر المطلق وخسارة أنه في الغرفة المغلقة لم يظهروا نفس الشجاعة.
وذكرت محلة “فورين أفيرز” أن إسرائيل أمام خطر انهيار حقيقي”، فيما نقل موقع “والاه” العبري عن ضباط في القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي أن “حزب الله “لم يتسلل إلى المستوطنات لأنه لم يقرر ذلك بعد، لكن من يعتقد أن “حزب الله” لا يتدرب على إدخال مجموعة من المقاتلين إلى الأراضي الإسرائيلية فهو مخطئ ومُضلل. ويجب أن يكون الافتراض العملي للجميع هو أن “حزب الله” قادر على التسلل ورفع العلم في مستوطنة أو موقع للجيش الإسرائيلي على الحدود وحرق العديد من المباني وهذا سيعطيه صورة نصر.