المشهد اللبناني فاقد للتوازن، أشبه بحلبة متأرجحة من ثقل مجموعة من الملفات الدقيقة، الجامع بينها أنّها جميعها مجهولة الاحتمالات والتداعيات والارتدادات. وما هو أثقل منها وأسوأ، ما يستوطن حولها من كائنات سياسية أثبتت بممارساتها أنّها لا تعدو أكثر من مجموعة قذارات ناطقة بالكفر، نصّبت نفسها فوق البلد، ولوّثته بأوساخ مصالحها وحساباتها وارتهاناتها، وعاثت فيه تخريباً وتهشيماً لأسسه، وتسميماً لأبنائه، وضخّاً شعبوياً وفئوياً لكلّ ما يفرّق ما بين اللبنانيين، وإعداماً لنقاط الجمع بينهم، وتضييعاً متعمّداً لفرص إعادة انتظام البلد سياسياً ورئاسياً وحكومياً، ووضع مؤسّساته المشلولة على سكّة النهوض من جديد. كما هو الحال في الملف الرئاسي الذي يوشك أن يُتمّ السنة الثانية من الفراغ في سدّة الرئاسة الاولى، فيما ديوك التعطيل تخادع اللبنانيين بالتباكي على رئاسة الجمهورية، لكن في حقيقتها وممارساتها تواظب على زرع العبوات الناسفة في طريق التوافق لإتمام هذا الملف.
مخاوف ومخاطر
في المقدّمة، يتموضع الملف الجنوبي وما فيه من مخاطر، حيث أنّ الأعمال الحربية بين “حزب الله والجيش الاسرائيلي أخذت تنحى في الأيّام الاخيرة إلى مواجهات بوتيرة نارية عالية التصعيد. المستويان السياسي والعسكري في اسرائيل يتناوبان على الترويج لاقتراب حرب اسرائيلية على لبنان لضرب “حزب الله”، وتغيير الواقع القائم في الشمال. واما الحزب، فيتوعّد إسرائيل، ويلخّص أحد قيادييه موقفه بقوله لـ”الجمهورية”: “نحن جاهزون لكلّ الاحتمالات، ولكن ما نسمعه من تهديدات تناقضه تحذيراتهم من الحرب، وآخرها ما صدر عن وزير الدفاع الاسرائيلي ورئيس اركان جيش العدو من تحذيرات مباشرة من مخاطر العدوان على لبنان. وفي اي حال، ليجربوا.. وكما قال سماحة الامين العام بيننا وبينهم الميدان”.
لا حلّ آنياً
هذا الوضع، وكما تؤكّد الوقائع، مستمر إلى أن يحين أوان الحل السياسي، الذي يبدو مؤجّلاً. وفي هذا السياق، نفى مرجع كبير ما تردّد في بعض الأروقة السياسية عن حراك غير معلن لإنضاج حل سياسي على جبهة جنوب لبنان. وقال لـ”الجمهورية”: “لا يوجد على الإطلاق أي حل سياسي او ديبلوماسي لا في الداخل ولا في الخارج”.
وأشار الى أنّ موقف لبنان معلوم من قبل الجميع، وعلى وجه الخصوص من قبل الولايات المتحدة الاميركية، بأن لا كلام بأي حل او اي إجراءات مرتبط بالوضع في الجنوب، قبل وقف العدوان الاسرائيلي على غزة.
ولفت المرجع عينه، إلى انّ فرص وقف الحرب معدومة حتى الآن، والحديث عن صفقة تبادل بات خارج التداول، جراء التفشيل الاسرائيلي المتعمّد لها. وتبعاً لذلك، أعتقد أنّ المسألة ستطول ربما إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية.
قبرص: جزء من الحل
وتزامناً مع ذلك، أكّدت قبرص “أنّها جزء من الحل”. وفق ما اكّده مصدر ديبلوماسي رفيع في نيقوسيا لـ”الجمهورية”، حيث نقل عن الرئيس القبرصي نيكوس غريستودوليدس انّه إذ يعرب عن قلق بلاده من احتمال تصاعد التوترات في المنطقة، ينفي بشدة ان تكون قبرص جزءاً او طرفاً في المشكلة الراهنة في الشرق الاوسط، وبالأخص في لبنان”.
كما نقل المصدر عن الرئيس القبرصي تأكيده انّ قبرص جزءٌ من الحل لحلّ الأزمة، مشيراً الى انّه لم يتمّ استخدام اي ميناء او أي مطار قبرصي، ولن يتمّ استخدام أي منها لاستراتيجية حرب من اي طرف. وقال: “نحن لسنا متورطين بهذه المسألة، بل نعمل مع عدد من الدول، ولاسيما مع فرنسا، لإيصال رسائل محدّدة جداً إلى الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله وأعوانه بشأن دور قبرص”.
الملف الرئاسي: لا شيء
وفي المرتبة الثانية يأتي الملف الرئاسي في ظل ما أُعلن عن تحرّك جديد مجهول المعالم حتى الآن. في انتظار ما سيقرّره سفراء دول الخماسية في اجتماعهم المقرّر السبت المقبل، ربما في دارة السفير السعودي في لبنان وليد البخاري. الذي لم تستبعد مصادر واسعة الاطلاع احتمال قيامه بزيارة وشيكة الى رئيس المجلس النيابي نبيه بري. الّا إذا تقّرر في اجتماع السفراء المفترض السبت المقبل أن يستهلوا حراكهم الجديد بزيارة الرئيس بري.
ما بعد أميركا
في هذه الأجواء، قال مسؤول كبير لـ”الجمهورية”: “لست اشارك المتشائمين بانسداد الأفق الرئاسي، بل ما زلت ارى نافذة لإنجاز الملف الرئاسي وانتخاب رئيس قبل نهاية السنة الحالية، وحراك السفراء الى جانب مبادرة بري يشكّلان مفتاح الحل الرئاسي. وهذه الفرصة متاحة بقوة الآن، واخشى من أن يؤدي تفويتها الى الدفع بالملف الرئاسي الى فراغ اضافي، وترحيل رئاسة الجمهورية اشهراً اضافية، ليس فقط الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، بل الى ما بعد تسلّم الرئيس الاميركي الجديد لمهامه في كانون الثاني المقبل، وربما ابعد من ذلك بكثير”.
وفي سياق متصل، كان لافتاً الاجتماع الديبلوماسي الموسّع الذي عقده رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في السراي الحكومي، وحضره ممثلو البعثات الديبلوماسية للدول الاعضاء في مجلس الامن الدولي. حيث اكّد ميقاتي “وجوب اتخاذ مجلس الأمن إجراءات أكثر فاعلية وحسماً في معالجة الانتهاكات والهجمات الاسرائيلية على المدنيين اللبنانيين”.
مغريات
الى ذلك، كشف سفير عربي بارز لـ”الجمهورية”، انّ الحراك الجديد، ينطلق بتغطية اكيدة من الولايات المتحدة الاميركية، واطراف اللجنة الخماسية منخرطون جميعاً في جهد صادق لمساعدة اللبنانيين على بلورة حل رئاسي.
ولفت السفير عينه إلى أنّ السفراء يقومون بما اوتوا من جهد لتوفير المساعدة المطلوبة، انما القرار في نهاية الأمر هو في يد اللبنانيين، لاختيار رئيس لبلدهم. وقرارنا معلوم أنّ اللجنة لن تتبنّى أي مرشح، ولن تطرح اي اسم، ولن تشارك في الاختيارات، كما انّها ملتزمة بكل اطرافها بعدم وضع اي “فيتو” على اي مرشح رئاسي يتمّ التوافق عليه. ودعوتنا المتكررة للبنانيين هي ان يستفيدوا من التجارب السابقة، ويسارعوا الى طرح مرشحيهم او سلة من الاسماء، والجلوس معاً على الطاولة للاتفاق على واحد من بينهم لا يشكّل تحدّياً لأحد ولا يستفز اي طرف، ولا يدخل في خصومات او عداوات مع هذه الدولة او تلك، بل يقف على علاقة صداقة مع الجميع من دون استثناء، وهذا هو المطلوب للبنان، ليس في هذه المرحلة فحسب، بل في كل المراحل.
على أن أهم ما قاله السفير عينه هو أنّ انتخاب رئيس للجمهورية، يشكّل المدخل لإعادة انتظام الدولة في لبنان، ولإطلاق خطوات تفتح باب الانتعاش لهذا البلد وتعزيز الاستقرار فيه. وهذا من شأنه أن يعيد فتح باب الانفراج العربي والخليجي تحديداً في اتجاهه، وخصوصاً من قبل المملكة العربية السعودية. ليس عبر دفع الاموال مباشرة، بل عبر مجموعة كبيرة من المشاريع الحيوية والاستثمارية، حيث انّ جزءاً كبيراً منها بات جاهزاً للتنفيذ الفوري في العديد من المناطق اللبنانية. ومنها على سبيل المثال مشروع الفراولة وتحسين انتاج البطاطس في عكار، ومشروع حول التفاح في بشري وكسروان، ومشروع للمنتجات العطرية في الجنوب، ومشروع تطوير صناعات البرمجيات في بيروت الكبرى”.
وخلص السفير عينه الى التأكيد بأنّ التجربة التي شهدناها مع لبنان تؤكّد أنّ أصل المشكلة فيه داخلية، حيث انّ اللبنانيين لا يثقون بدولتهم، ولا يثقون بأحزابهم. والاحزاب السياسية لا تثق ببعضها البعض. هناك انعدام للثقة بكل شيء، وهو امر غير مسبوق في اي دولة في العالم. واعادة ترميم هذه الثقة تتطلّب جهوداً خارقة. ولكن وفق ما نرى الواقع، فإنّ هذا الترميم ضرب من المستحيلات.
مذكرة توقيف وجاهية
واما الملف الثالث، فيتعلق بالحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، الذي أصدر قاضي التحقيق الاول بلال حلاوي مذكرة توقيف وجاهية بحقه وحدّد جلسة ثانية الخميس المقبل وطلب استماع الشهود.