المناخ بصورة عامة تلفحه إيجابيات نظرية حول مشروع التسوية الذي طرحته واشنطن على الجانب اللبناني، واما على صعيد الترجمة على الأرض، فلا تبدو هذه الإيجابيات ملموسة حتى الآن. ما يعني أنّ للبحث حوله صلة. والأيام القليلة المقبلة، وكما يُجمع كل المعنيين بحراكات التسوية، حاسمة لجهة تحديد وجهة التسوية، أكان في مسار تفاؤلي يقترن بترجمة ميدانية سريعة لها، او في مسار تشاؤمي يدفع الامور إلى مزيد من التعقيد والتصعيد، وخصوصاً أنّ المرحلة الراهنة حبلى بالاحتمالات المجهولة، ولاسيما في الميدان العسكري الذي تتفاقم وقائعه ومجرياته بوتيرة متسارعة يوماً بعد يوم.
بري: الجوّ إيجابي
وفي انتظار ما سيؤول إليه هذا المشروع، غلّب رئيس مجلس النواب نبيه بري الإيجابية على السلبية والتشاؤم، بإعطاء نفحة تفاؤل، حيث قارب المقترح الذي تسلّمه من السفيرة الأميركية ليز جونسون بإيجابية وأكد لـ”الجمهورية” أنّ “الجو إيجابي والشغل ماشي. وإن شاء الله تصل الأمور إلى خواتيم طيبة”. من دون أن يخوض في تفاصيل أخرى، تاركاً ذلك للنقاشات داخل الغرف المغلقة.
إلّا أنّ بري، لم يُخرج من حسبانه وجوب التزام الحيطة والحذر بتأكيده “أنّ العبرة تبقى في الخواتيم”، وخصوصاً أنّ “التجربة مع الإسرائيلي لم تخلُ يوماً من ألغام إسرائيلية ومماطلات متتالية من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تنسف كل جهد يُبذل، على غرار ما جرى في غزة على مدى أكثر من سنة، ومن هنا يبقى الحذر واجباً”.
وأكّد بري رداً على سؤال: “أنّ مقترح التسوية إيجابي بشكل عام، وفيه ما يُبنى عليه، لكن في كل الأحوال تبقى العبرة في الخواتيم”.
وإذ أشار بري إلى أنّ مقترح التسوية لا ينصّ من قريب أو بعيد على منح إسرائيل حرية الحركة للجيش الإسرائيلي في لبنان، لفت إلى أنّ “هذا الأمر مرفوض من قِبلنا جملةً وتفصيلاً، وغير قابل للنقاش معنا حوله، وكل الناس تعرف والأميركيّون وغير الأميركيّين يعرفون أنّ هذا الأمر بالنسبة لنا يستحيل أن نقبل به. فما من شأنه أن يمسّ بسيادتنا حتى مجرّد النقاش فيه مرفوض”.
ولفت بري إلى أنّ المقترح لم يلحظ نشر قوات أطلسية أو غيرها، وأكّد أنّه في موازاة الإيجابيات التي يتضمّنها المقترح، ثمة بند غير مقبول من قِبلنا يتعلق تأليف لجنة إشراف على تنفيذ القرار 1701، تضم عدداً من الدول الغربية. مشيراً في هذا السياق إلى نقاش يجري الآن حول الآلية البديلة المقترحة، ونحن لن نسير فيها، فهناك آلية واضحة موجودة منذ العام 2006 حيث لا مانع من تفعيلها.
وعمّا إذا كان هوكشتاين سيزور بيروت قال: هذه الزيارة رهن بتطور المفاوضات وتقدّمها. وردا على سؤال عمّا إذا كانت ثمة مهلة زمنية للبنان لتقديم رده على مقترح التسوية، قال بري: “لا أحد يلزمني بمهل أو مواعيد”.
والأكيد في رأي بري أنّ التصعيد الإسرائيلي الذي تفاقم في الفترة الأخيرة، محاولة من قِبل إسرائيل لفرض تسوية لمصلحتها، وهو ما يحول الميدان العسكري واستبسال المقاومين في مواجهتها من دون تمكينها من ذلك.
وفي هذا السياق قال رداً على سؤال عن استهداف بلدته تبنيّن بالإضافة إلى الغبيري والشياح وبرج البراجنة وقرى وبلدات تُعدّ مؤيّدة له: “يبدو أنّ نتنياهو لا يعرف مع من يتعامل، هذه الأمور ما بتمشي معنا”.
الموقف اللبناني ثابت
إلى ذلك، اكّدت مصادر عين التينة لـ«الجمهورية»، أنّ موقف الرئيس بري حازم لناحية التمسك بالتطبيق الكلي للقرار 1701، وعدم القبول من قريب أو بعيد بأيّ مشاريع او مقترحات تسويات خارج ما تمّ الاتفاق عليه مع الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين، وتتعارض مع مصلحة لبنان وسيادته».
ولفتت المصادر، الى أنّ «هذا الموقف ثابت، ولا تراجع عنه تحت أي ظرف، وعلى أساس هذا الموقف يتواصل الرئيس بري مع الموفدين لبلوغ تسوية. والسفيرة الاميركية ليز جونسون سمعت منه بالأمس، ما يجب أن يُقال في هذا المجال، والكرة في ملعبهم».
وعُلم في هذا السياق أنّ المقاربة اللبنانية لمقترح التسوية تتمّ بتمهّلٍ وتأنٍ وجدّيةٍ، وعلى قاعدة التعاطي المسؤول والإيجابي مع كل ما من شأنه أنّ يسرّع في وقف العدوان.
فجوة إسرائيلية عميقة
إلى ذلك، وطالما أنّ التسوية لم تتبلور بصورتها النهائية بعد، فإنّ مصادر معنية بالاتصالات الجارية حول المقترح المعروض على لبنان تُبقي هذا المقترح في مسار صعب، حتى يثبت العكس، وخصوصاً انّ التجارب دلّت إلى أنّه لا يُؤمن لحظة لإسرائيل، التي لا يوجد حتى الآن ما يؤكّد التزامها بأي تسوية وإزاحة ما هو قائم في طريقها من تعقيدات جوهرية تعزّز الإنسداد القائم في أفقها.
وعلى ما تؤكّد مصادر موثوقة لـ«الجمهورية»، فإنّ «حسم الامور يتطلّب نقاشاً عميقاً وربما طويلًا وجولات من الأخذ والردّ، ونأمل أن تكون الايام المقبلة كفيلة بتظهير امر ما. الّا إذا عمد الإسرائيليون، وهذا ليس مستبعداً، إلى حفر فجوة عميقة جداً في مقترح التسوية تمنع بلوغها».
بداية تفاوض
على أنّ مصدراً مسؤولاً أبلغ إلى «الجمهورية» قوله، انّ «الأمور ليست مقفلة، وهي تبدو انّها انتقلت من مرحلة إعداد ما ُسمّي مشروع تسوية بين الأميركيين والإسرائيليين إلى مرحلة التفاوض مع لبنان. ومقترح التسوية بالشكل الذي عرضه فيه الاميركيون يشكّل بداية تفاوض غير محدّد بسقف زمني، له بالتأكيد تتمة لاحقة وفق صياغات جديدة لهذا المقترح بناءً على مواقف الاطراف منها».
ورداً على سؤال قال المصدر عينه: «نحن مدركون أنّ اسرائيل ستحاول فرض مشيئتها والإبقاء على السقف العالي لشروطها، وابتزاز لبنان بالنار ورفع مستوى التصعيد التدميري لتحقيقها وإلزام لبنان بها وإخضاعه لها. ومدركون أيضاً أن لا تسوية من دون كسر هذا السقف، وهذا يتحقق بثبات الموقف اللبناني الرسمي على حل سياسي على قاعدة القرار 1701 دون زيادة او نقصان، وكذلك بصمود المقاومين في الميدان العسكري ومنع اسرائيل من تحقيق أهدافها».
مسؤولية الأميركيين
وأبلغت مصادر رسمية إلى «الجمهورية» قولها، إنّ «لبنان في موازاة الشروط الاسرائيلية المعلنة لم يتأخّر في ردّ الكرة إلى الجانب الاسرائيلي، بإعلان رفضه القاطع لأيّ تجاوز للقرار 1701 او تعديل مندرجاته، عبر تعهّدات أو ملحقات سريّة او علنيّة تنسف هذا القرار، وتمنح اسرائيل حقّ استباحة لبنان وانتهاك سيادته براً وبحراً وجواً».
ومن هنا، تضيف المصادر «فإنّه يمكن القول بأنّ الأمور تقتضي إخراجها من حلقة التعقيد الإسرائيلي ذاتها. والاميركيون أكّدوا لنا جازمين عزمهم القوي على إنضاج تسوية عاجلة. ومن هنا فإنّ المسؤولية الأساس في هذا السياق تقع على الوساطة الأميركية في إثبات صدقية توجّه ادارة الرئيس جو بايدن، وما قيل عن مباركة للرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب، إلى وقف الحرب، في إخراج تسوية يقبل بها لبنان خارج إطار الشروط التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها بالضغط التدميري في الضاحية الجنوبية وسائر المناطق اللبنانية، وتريد من خلالها أن تحقق في السياسة ما لم تتمكن من تحقيقه في عدوانها البري وغاراتها التدميرية للمناطق اللبنانية».
وكشفت المصادر، انّ لبنان أكّد للوسطاء أنّ سقف التسوية التي يريدها، هي تحت سقف القرار 1701 من دون إضافات او تعديلات، وتحت سقف التزامه بتطبيق مندرجاته كاملة.
ورداً على سؤال، فضّلت المصادر عينها عدم الدخول في تفاصيل بنود المقترح المعروض على لبنان، الّا انّها أوجزت الموقف اللبناني كما يلي: «وقف فوري لإطلاق النار، انسحاب اسرائيل الى خلف الحدود الدولية، عودة النازحين الى بلداتهم، التطبيق الكلي للقرار 1701، عدم ممانعة وجود آلية دولية للإشراف على التنفيذ على غرار اللجنة التي تشكّلت غداة صدور القرار في العام 2006، والتزام لبنان بنشر الجيش اللبناني في منطقة عمل قوات «اليونيفيل» كحافظ للأمن والاستقرار في تلك المنطقة بالتعاون والتنسيق الكاملين مع قوات حفظ السلام». وقالت: «هذا هو موقفنا وأبلغناه للأميركيين، واكّدنا انّ لبنان لا يمكن له أن يقبل بتسوية مجحفة له، أو تتعارض مع سيادته».
«حزب الله»: الميدان
في موازاة ذلك، وفيما يتجنّب «حزب الله» المقاربة العلنية لمشروع التسوية وما يُطرح حول القرار 1701، لخّصت مصادر واسعة الاطلاع لـ«الجمهورية» موقف الحزب كما يلي:
– الأولوية قبل أي شيء آخر، هي لوقف العدوان. هذا ما يجب ان يحصل، وسيحصل مهما طال الزمن.
– لا يمكن للإسرائيلي أن يأخذ في السياسة ما عجز عن أخذه في الميدان.
– عدم ثقة بالولايات المتحدة الاميركية بوصفها الشريكة في العدوان الاسرائيلي والراعية له.
– يجب الّا نستعجل ونتسرّع إزاء اي طرح لوقف اطلاق النار كيفما كان.
– الميدان حول حلبة الفصل والحسم، والمقاومة ثابتة، ومع كل يوم صمود وثبات للمقاومة في هذا الميدان، سيخفّض الإسرائيلي سقف مطالبه، وواقع الميدان كما هو عليه منذ بداية العدوان هو لمصلحة المقاومة ولبنان، وسيصل الإسرائيلي في نهاية المطاف إلى أن يستجدي هو وقف اطلاق النار.
خطة التسوية
إلى ذلك، أفادت هيئة البث الإسرائيلية، أنّ مشروع الاتفاق بين لبنان وإسرائيل يتضمن إقرار الطرفين بأهمية قرار الأمم المتحدة رقم 1701، ويعطي للطرفين حق الدفاع عن النفس إذا لزم الأمر».
وتابعت: «وفق مشروع الاتفاق فإنّ الجيش اللبناني هو القوة المسلّحة الوحيدة في الجنوب مع اليونيفيل»، مضيفة أنّ «أي بيع للأسلحة إلى لبنان أو إنتاجها داخله ستشرف عليه الحكومة». كما انّه وفق مشروع الاتفاق سيتعيّن على إسرائيل سحب قواتها من جنوب لبنان خلال 7 أيام».
وفي سياق متصل، ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، انّ الخطوط العريضة لمقترح التسوية في لبنان تنصّ على نقل «حزب الله» قواته وأسلحته إلى شمال نهر الليطاني، وأنّ الجيش اللبناني وقوات «اليونيفيل» ستعمل وفقاً للخطة على منع عودة «حزب الله» لجنوب لبنان ومنع تجديد مخزون أسلحته». مشيرة إلى أنّ النقطة الرئيسية العالقة هي ضمان قدرة إسرائيل على فرض اتفاق وقف إطلاق النار في حال فشلت الأمم المتحدة والجيش اللبناني في القيام بذلك.
تبادل أدوار: جزرة وعصا!
اللافت في موازاة حراك التسوية جو معاكس للإيجابية. حيث لفت مسؤول وسطي عبر «الجمهورية»، إلى القراءة التشاؤمية التي أبداها الرئيس السابق للحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وقوله «إنّ الحرب طويلة، وتسريبات التسوية مجرد شائعات»، معرباً عن تخوّفه مما سمّاها محاولات لإيقاع لبنان في فخ.
وقال المسؤول عينه: «قبل أن نتحمّس لمقترح التسوية ونغرق في إيجابيات خادعة، هل هذا المقترح عادل للبنان ولمصلحة لبنان؟. أنا أشك بذلك، فالمشهد كما نراه واضح لا لبس فيه، حيث انّ هذا المقترح معدّ بصياغة اميركية- اسرائيلية تفتح الباب امام نتنياهو للقول للإسرائيليين انّه حقق إنجازاً في لبنان».
وتبعاً لذلك، يضيف المسؤول الوسطي، فإنّ «ما نراه هو تبادل أدوار، وفق معادلة يظهر فيها الأميركيون في موقع أنّهم يدفعون بالمسار السياسي وكأنّهم يحملون الجزرة، فيما اسرائيل تحمل العصا بتصعيد العمليات العسكرية في البرّ، والإضرار بالداخل اللبناني وتدمير بناه السكنيّة والمدنيّة. وكما هو واضح فإنّ القصف التدميري للضاحية وغيرها من المناطق يندرج في سياق دفع اسرائيل بهذا المسار إلى تسوية وفق شروطها».
من هنا، يخلص المسؤول عينه إلى القول، «إنّ من الغباء الرهان على ان تطرح واشنطن تسوية لمصلحة لبنان تتجاوز فيها مصلحة إسرائيل. وتبعاً لذلك، فإنّ بلوغ تسوية في المدى المنظور أمر مستبعد، والأقرب الى الواقع هو استمرار العدوان ربما بوتيرة أكثر قساوة وعنفاً».
دعم إيراني
في هذه الأجواء، قام كبير مستشاري المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الإيرانية علي لاريجاني بزيارة إلى بيروت، والتقى رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي. وفي تصريحات له، أكّد دعم ايران للبنان حكومة وشعباً في كافة الظروف، ودعم اي قرار تتخذه المقاومة اللبنانية وأي قرار تتخذه الحكومة اللبنانية، في اشارة الى القرار 1701.
ورداً على سؤال قال: «حزب الله» هو تيار صلب ورشيد، والشعب اللبناني هو شعب عظيم، وحزب الله بأنفسهم يعرفون كيف يتصرفون».