لاحت في الأفق أمس مؤشّرات عدة على احتمال دخول الحكومة الجديدة في مخاض الولادة في وقتٍ ليس ببعيد، كان أبرزها مسوّدة أولى للتشكيلة الوزارية أبلغَها الرئيس المكلّف سعد الحريري إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وجاءَت متضمّنةً توزيعةً للحصص الوزارية على مختلف الأفرقاء الذين سيمثلون في الحكومة، ولم يرِد فيها أيّ إسمٍ في اعتبار أنّ الأسماء تُسقَط على الحقائب بعد الاتفاق على الحصص وتوزيعة الحقائب الوزارية، السيادية منها والأساسية وغيرها. وتوقّعت مصادر مطّلعة أن يزور الحريري قصر بعبدا في عطلة نهاية الأسبوع ليُجري وعون تقويماً للتطوّرات وحصيلة المشاورات المتعلقة بالتأليف.
بعد أسبوعين على تكليفه تأليفَ الحكومة، أخرَج من جيبه المسوّدة الحكومية الأولى، وهي تشكيلة وزارية ثلاثينية موزّعة بين القوى السياسية مع عدد الوزراء على النحو التالي:
– حصّة رئيس الجمهورية مع تكتل «لبنان القوي» 9 وزراء مع هامش تفاوض على تخفيض العدد إلى 8 ليعطى الوزير التاسع لحزب الكتائب.
– «حزب الله» وحركة «أمل»: 6 وزراء
– تيار «المستقبل»: 6 وزراء يمكن تخفيضهم إلى 5
– «القوات اللبنانية»: 4 وزراء من بينهم نائب رئيس الحكومة.
– الدروز: 3 وزراء
– «المردة» : وزير
– الأرمن: وزير
ولم يعتمد الحريري في عملية التوزيع على معادلة «وزير لكلّ 4 نواب»، لأنّ هذا الأمر خلقَ إشكالية لجهة توسيع حجم الحكومة إلى أكثر من 30 وزيراً، وهذا ما يرفضه قطعياً، بالإضافة الى الكسور.
وأكّدت مصادر مطّلعة على اتّصالات التأليف لـ«الجمهورية» أنّ حركة اللقاءات والمشاورات حول تأليف الحكومة بدأت تنشط بقوّة وجدّية بعد وضعِ القواعد التي سترُكّب الحكومة على أساسها، وهي لن تختلف كثيراً عن تركيبة الحكومة الحاليّة لجهة الثوابت والحقائب السيادية وبعض الأسماء. وبمعنى آخر ستكون صورةً عن حكومة تصريف الأعمال مقرونةً ببعض التعديلات».
وكشَفت هذه المصادر أنّ «حركة الموفدين تنشط، وخصوصاً اللقاءات التي يعقدها الوزير غطاس خوري الذي كلّفه الحريري رسمياً التفاوضَ في هذا الملف. وكان منها لقاءات عدة عَقدها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزيرين علي حسن خليل وملحم رياشي، كذلك انعَقد لقاء بين الحريري وخليل» .
وعلمت «الجمهورية» أنّ الحريري يتجه للإبقاء على حقيبتي الخارجية والطاقة لـ«التيار الوطني الحر»، المال للطائفة الشيعية، و«الاتصالات» لتيار «المستقبل»، ويرشّح لها المهندس حسن قباني، فيما تتأرجح حقيبة وزارة الداخلية التي ستبقى مع «المستقبل» بين الوزير جمال الجرّاح ومسؤول الماكينة الانتخابية «المستقبلية» سليم دياب. فيما لن تبقى وزارة الصحة مع «القوات اللبنانية»، أمّا الحقائب الأخرى فسيجري خلطها وتوزيعها مجدّداً. وتردَّد في الأوساط المعنية أنّ حقيبة وزارة الأشغال ستكون من حصّة «حزب الله».
العقدة الدرزية
إلى ذلك، علمت «الجمهورية» أنّ لقاء الرئيس ميشال عون مع الوزير طلال أرسلان تناوَل العقدة الدرزية بعدما تبلّغَ جميع الأطراف المعنيين بالتشكيلة الحكومية بتمسّكِ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بالحقائب الدرزية الثلاث في حال كانت التشكيلة تضمّ 30 وزيراً، طالما إنّ التمثيل سيكرّس نتائج الانتخابات النيابية التي وضَعت جنبلاط في موقعٍ يتيح له القول إنه «الممثل الوحيد للطائفة الدرزية» لمجرّد أنه يَحظى بدعم 7 نوّاب دروز من أصل ثمانية، بعدما لقيَ دعم النائبِ أنور الخليل الذي سمّيَ على لائحة «الوفاء والأمل» بدعم جنبلاط المباشر وترشيح النائب فيصل الصايغ على لائحة «المستقبل» في بيروت الثانية وفق المعادلة عينها.
ولذلك أكّد أرسلان بعد لقائه عون إصرارَه على المواجهة مع جنبلاط بدعمٍ مباشر من وزير الخارجية جبران باسيل، وفق ما سمّاه «المعايير التي وضَعها عون للحكومة الجديدة وينبغي على جميع الأطراف التزامها، لكي لا يطولَ مخاض الولادة الحكومية». وقال في ردٍّ غيرِ مباشر على مطالبة جنبلاط بحصر التمثيل الدرزي به: «إذا أراد البعض الاستمرارَ في الابتزاز، فإنّ الحكومة ستأخذ وقتاً أطول من المعقول ولن يكون تأليفها سريعاً».
وعلمت «الجمهورية» أنّ الوزير ملحم رياشي نَقل إلى عون أمس موقفَ «القوات اللبنانية» المتمسّك وفق «معايير الحجم» الذي كرَّسته الانتخابات بـ 6 حقائب وزارية مِن بينها موقع نائب رئيس الحكومة، الأمر الذي عزّز الاعتقاد بصعوبة مواجهة ما بات يسمّى «عقدة» تمثيل «القوات» بهذا الحجم الوزاري الكبير.
أمّا خوري فنَقل إلى رئيس الجمهورية تشكيلةً حكومية من 30 حقيبة تتضمّن توزيعة أوّلية للحصص الوزارية من دون الإشارة إلى أسماء محدّدة، لكنّها جاءت مرفقةً بالعُقد التي تواجهها، ولا سيّما منها العقدتان الدرزية و«القواتية».
وعند حديثه عن العُقد نَقل خوري إلى عون ما انتهت إليه اللقاءات التي عَقدها أمس الأوّل مع رياشي وخليل والنائب وائل ابو فاعور وتناوَلت صيغة الحريري المقترَحة والمحاولات الجارية للتقريب بين وجهات النظر، كاشفاً عن حجم العُقد التي ما زالت قائمة، ولا سيّما منها الفارق الكبير بين ما يريده باسيل من حصة لـ«القوات» وما تطالب به هي.
الحريري وباسيل
وعلمت «الجمهورية» أنّ الحريري التقى بعد ظهر أمس باسيل الذي أكّد رغبة «التيار» في انضمام جميع الأفرقاء إلى الحكومة الجديدة بما يعكس تمثيلهم النيابي، ولا سيّما منهم «القوات» التي لا يَقبل إبقاءَها خارج الحكومة، على أن تتمثلَ بعدالة فيها. كذلك تناوَل البحث توزيرَ ممثلين عن العلويّين والأقليات المسيحية، حيث تمسّكَ باسيل بهذا التمثيل بغضّ النظرِ عن المواقف الأخرى التي صَدرت في المرحلة الأخيرة.
ملفّ النزوح
وفي جديد ملفّ عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، أعلنَ وزير الخارجية جبران باسيل في بيانٍ إيقافَ طلبات الإقامة المقدّمة لمصلحة مفوّضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى حين صدور تعليمات أخرى، متّهماً المفوّضية بـ«تخويف» النازحين السوريين عبر طرحِ أسئلةٍ محدّدة تثير في نفوسهم الرعبَ من العودة نتيجة إخافتِهم من الخدمة العسكرية والوضع الأمني وحالة السَكن والعيش وقطعِ المساعدات عنهم وعودتهم من دون رعاية أممية، وغيرها من المسائل التي تدفعهم إلى عدم العودة إلى بلادهم. وطلبَ باسيل درس «إجراءات تصاعدية» أخرى قد تتَّخذ بحق المفوّضية في حال إصرارها على اعتماد السياسة نفسِها.
وأوضَحت وزارة الخارجية في بيانٍ أصدرَه مكتبها الإعلامي «أنّ هذا التدبير جاء بعد تنبيهات عدة وجّهتها الوزارة مباشرةً إلى مديرة المفوّضية في بيروت السيّدة ميراي جيرار، وبعد استدعائها مرّتين إلى وزارة الخارجية وتنبيهها من هذه السياسة، وبعد مراسلات مباشرة من الوزير باسيل إلى الامين العام للأمم المتحدة، ومراسلات من الوزارة إلى المفوّضية والأمم المتحدة، «من دون أيّ تجاوبٍ، لا بل أمعَنت المفوّضية في سياسة التخويف نفسها».
وقالت مصادر وزارة الخارجية لـ«الجمهورية: «هدفُنا واضح وموقفُنا أوضح، نحن مع عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، ولن ندخل في أيّ سجال داخلي لا يؤدي إلّا إلى شرذمة وإضعاف الموقف الوطني. علماً أنّ أيّ إحصاء يُجرى الآن في كلّ لبنان ستقول الغالبية الساحقة فيه بعودة النازحين السوريين إلى بلادهم».
وأكّدت المصادر أنّ «قرار وزير الخارجية يأتي من ضِمن صلاحياته ولا لبْس فيه البتة، كما أننا لسنا في وارد التصعيد ضد المفوضية إذا أحسَنت مسارَها في الملف، أمّا إذا تعنّتت فسيكون موقفنا متشدّداً أكثر، وهذا حقّنا، وكلّ خطواتنا ضمن المصلحة الوطنية العليا وتحفظ سيادتنا اللبنانية».
وعلِم أنّ تدبير باسيل الذي بَحث فيه مع الحريري أمس، هو خطوة أولى وستتبعها خطوات أخرى إذا لم تستجب المفوضية، خصوصاً في ظلّ وجود مناطق آمنة في سوريا يمكن النازحين أن يعودوا إليها. وأكّدت مصادر وزارة الخارجية أنّ خطوة وزير الخارجية هي من ضِمن صلاحياته وأنّ الكلام عن عدم جوازها في ظلّ حكومة تصريف أعمال مجافٍ للحقيقة، خصوصاً إذا كان هذا الكلام صادراً عمّن تاريخُه مطبوع بالوقوف مع الخارج على حساب مصلحة لبنان».
في الموازاة، شدّدت مصادر تواكب ملفّ النزوح «على وجوب أن تترافق خطوة باسيل مع دعوة رئيس الجمهورية سفراءَ الدول الخمس الكبرى وممثّلتي الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في لبنان إلى اجتماع عمل والإبلاغ إليهم أنّ لبنان قرّر نهائياً إعادة النازحين إلى بلادهم».
ولاحظت المصادر أنّ موقف وزارة الخارجية «لم يأتِ من عدم أو بين ليلة وضحاها، بل جاء بعد ما حصَل في عرسال وسعيِ مفوّضية اللاجئين للحؤول دون عودة النازحين الى سوريا، علماً أنّ محاولتها لم تترافق مع مساعدات فعلية للبنان الذي يرى أنّ الدول المانحة تعقد مؤتمرات وتعِد بمليارات لا يصل منها ما يكفي لمساعدة النازحين وتأمين عودة كريمة لهم».
وذكّرت المصادر بجهود لبنان لمعالجة هذا الملف منذ أكثر من أربع سنوات بدءاً من جهود حكومة الرئيس تمام سلام واللجنة الوزارية المكلفة ملف النازحين وصولاً الى جهود حكومة الحريري، إلّا أنّ كلّ هذه الجهود باءت بالفشل وظلّت المفوضية تتصرف على هواها و«فاتحة على حسابها» غير عابئة بكلّ التنبيهات المتكررة التي وجّهها إليها رئيس الجمهورية ووزارة الخارجية، بل استمرّت في عملها لدمج النازحين بالمجتمع اللبناني».
إلّا أنّ هذه المصادر اعتبَرت «أنّ خطوة باسيل وإن كانت شكلية تعبّر عن خيبة أمل من المفوضية، يمكن أن تخلق صدمةً إيجابية لدى المجتمع الدولي، علماً أنّ على لبنان الرسمي أن يحاذر الدخول في نزاع مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي عموماً، ويُحبّذ التحرّك في اتّجاه العواصم الدولية التي تملك القرار الحقيقي.
حمادة
وإلى ذلك، لاقت خطوة باسيل انتقاد الوزير مروان حمادة، الذي اعتبَر أنّ باسيل «يطلق سياسة جديدة تجاه عودة النازحين السوريين والمنظمات الدولية، وكأن لا حكومة راحلة ولا حكومة آتية ولا مجلس نواب جديد ولا معايير متفَق عليها ضِمن الدولة بقرار من الحكومة واللجنة الخاصة بالملف وبالتلازم مع شرعة حقوق الإنسان».
ورأى «أنّ وزير الخارجية يتصرّف وكأنّ الدولة تعلن «حرب إلغاء» على المؤسسات الدولية من دون حساب للتداعيات المحلية على سمعة لبنان والخسائر المرتقبة، إنْ لم يرحل النازحون وانقطعت المساعدات».
وقال حمادة: «لا يجوز أن تحوَّل المنابر لتهديد المنظمات الدولية وأن يحدّد وزير واحد يصرّف الأعمال سياسات تعني وزارات الداخلية والشؤون الاجتماعية والدفاع والعدل والتربية والصحة أكثر ممّا تعنيه».
درباس
من جهته، قال الوزير السابق رشيد درباس لـ«الجمهورية»: «الموقف من المجتمع الدولي سياسة عامة تتّخذه الحكومة وليس وزيراً حتى ولو كان محِقاً. الموقف هو من الخطورة بمكان. لدى لبنان مصالح كثيرة مع الأمم المتحدة بدءاً من قوات «اليونيفيل»، والمجابهة معها ولو كانت محِقّة لا يتحمّل مسؤوليتها فرد».
وهل يلمس أنّ مفوّضية اللاجئين تعرقل فعلاً عودة النازحين؟ أجاب: «هذه سياستها دوماً، لكن نحن نفتقر إلى السياسة. والحلّ هو في تطبيق السياسة التي أقرّها لبنان عام 2014 وأجمعَ عليها مجلس الوزراء، فليتوحّد الجميع وراء هذه الاستراتيجية وليُخرجوا الموضوع من التجاذب الطائفي والسياسي وليؤكّدوا أنّها قضية وطنية بامتياز، لا أن تتحوّل في الوقت الضائع لعبة ping pong. وضع المجتمع الدولي في ظهرنا مسؤولية مشتركة تتحمّلها الحكومة ومجلس النواب والقوى السياسية الفاعلة لا فردٌ».