إنتقال التركيز الأميركي – السعودي على طهران و»حزب الله» لم يترجَم بعد تصعيداً عملياً، إنّما رفعَ منسوب المواقف التصعيدية، ويؤشّر إلى دخول المنطقة في مرحلة جديدة لا يمكن التكهّن بمسارها ومآلِها وتداعياتها، ما أثارَ مخاوفَ من انهيار الاستقرار العام، فيما تبدو الساحة اللبنانية كأنّها ستبقى محيَّدةً حتى إشعار آخَر عن الكباش الأميركي – السعودي مع إيران تجنّباً لتمدّدِ الأزمة السورية وحِرصاً على ملفّ النازحين، ولكن هذا لا ينفي أنّ الأمور مفتوحة على احتمالات شتّى، خصوصاً في حال احتدامِ المواجهة وشعورِ جميع الأطراف بالحاجة إلى رفعِ مستوى المواجهة بالانتقال من الرسائل الصوتية إلى الرسائل العملية.
فرَض المشهد الدولي والإقليمي الساخن نفسَه على الأجواء المحلّية، إلّا أنّ المظلة الدولية لحماية لبنان واستقراره لا تزال قائمة، إن لم تكن أقوى من ذي قبل، على حدّ تأكيد مصادر ديبلوماسية لـ»الجمهورية»، قائلةً «إنّ التهدئة في لبنان مطلوبة داخلياً وخارجياً.
من جهتِها، قالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية»: «إنّ الوفاق «ماشي» ومستمر ويُظلّل الحكومة، ولا مصلحة لأحد من أعضائها المستفيدين منها في تفجيرها والتسبّبِ بدوّامة على أبواب الانتخابات النيابية». وأضافت: «لنفترضْ أنّ الحكومة فرَطت، فلن تتشكّل حكومة جديدة من دون «حزب الله»، فالحزب قوّة سياسية في البلد وجزء اساسي في المعادلة اللبنانية، ولا أحد يستطيع تجاوزَه».
وعلى رغم هذه التطمينات، إضافةً إلى إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري من روما الجمعة الفائت أنّ «لبنان غيرُ معني بالأزمة الأميركية – الإيرانية وأنّ المواضيع الخلافية الداخلية لن تدفع الى الاستقالة، وأنّ الحكومة لن تتفجّر، استمرّ التوتّر الكلامي الداخلي، وارتفعَ منسوب الاتهامات المتبادلة بين مكوّنات الحكومة، ما دفعَ مرجعاً سياسياً إلى القول «إنّ من يتابع مواقفَ اهلِ السلطة، خصوصاً في الساعات الـ 24 الأخيرة يقع في حالةِ ضياع او قرَف، فيوماً يتّفقون على كلّ شيء ويوماً يختلفون على كلّ شيء، فبَعد سجالاتِ ما قبل جلسة مجلس الوزراء الاخيرة، انعقدت الجلسة واتّخِذت فيها قرارات، كتعيين اعضاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتوفير اعتماد تمويل الانتخابات النيابية، بعدما كانوا توزّعوا أخيراً التشكيلات القضائية، وما إن انتهوا حتى عادت السجالات تطلّ برأسِها على رغم كلّ التطورات في المنطقة».
وتبعاً لذلك، فُتِحت النار بين وزارتَي الداخلية والخارجية، إذ رَفع وزير الداخلية نهاد المشنوق سقفَ الانتقاد لسياسة وزارة الخارجية، حيث اعتبَر أنّ «السياسة الخارجية اللبنانية شاردة»، منتقداً سلوكَ وزير الخارجية جبران باسيل من دون أن يسمّيه.
وقال: «إنّ التمادي في هذا الاتجاه السياسي يعرّض التضامنَ الحكومي لمخاطر جدّية»، مشيراً إلى أنه «لا يمكن الاستمرار في سياسة الصدمة والإلزام والإرغام»، ومشدّداً على أنه يُفرّق «بين رئيس الجمهورية الذي له كلّ احترام وتقدير وعلاقتُنا قائمة على الصراحة والوضوح المتبادل، وبين سياسة وزارة الخارجية التي تتعارَض مع الأعراف الحكومية والبيان الوزاري».
ورأى المشنوق أنّ «سياسة النأي بالنفس التي كانت أحدَ بنود التسوية الرئاسية، قد تعرَّضت لضربات في الفترة الأخيرة، إنْ على صعيد زيارة عددٍ من الوزراء إلى سوريا ومشاركتهم في معرض دمشق الدولي، أو في لقاء نيويورك بين وزير الخارجية جبران باسيل ووزير خارجية سوريا وليد المعلم، الذي لم يكن منسَّقاً مع رئيس الحكومة، كما تنصّ بنود التسوية».
وأوضَح أنّ «نتائج الحكومة الائتلافية ليست ممتازة، لكن هناك إمكانية جدّية لإنجاز مشاريع، إنْ على صعيد بيروت أو على صعيد لبنان، بطريقة معقولة، وتحويلها إلى التنفيذ».
وردَّ باسيل على المشنوق سريعاً، فقال مِن سوق الغرب، عن سياسة لبنان الخارجية: «مَن لا تعجبه سياستُنا الخارجية المستقلة هو المستتبع للخارج وغير المعتاد على العيش بلا تبَعية، أمّا نحن فنعيش ورأسُنا مرفوع». وقال: «إنّنا نسامح لكن لا ننسى، وتاريخُنا نفتخر به»، مشيراً إلى «أنّ المصالحة ليست استلحاقاً بالآخر أو استتباعاً له، وهي لم تكتمل وقواعدُها معروفة».
وكان باسيل قد اعتبَر من رشميا «أنّنا في نزاعٍ مع الوقت ويؤخّروننا حتى تصبحَ وزارة الطاقة والمياه مع غيرنا، ولكن هذا لن يحصلَ «شو منعمِلّن». واعتبَر أنّ «من يؤخّر ملفَّ الكهرباء هدفُه عدم تأمين الكهرباء قبل الانتخابات النيابية فقط لا غير، وما يفعلونه بالكهرباء يمارسونه في النفط ومارَسوه في قانون الانتخاب، والخاسر هو الناس، لأنّ الوقت يَضيع ودائماً يبتدعون الحجَج».
جنبلاط
ودخل رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط على خط التراشق بين المشنوق وباسيل، فغرَّد عبر «تويتر»، فقال: «السلام عليك يا بطريرك السلام مار نصرالله بطرس صفير».
وفي تغريدةٍ لاحقة قال جنبلاط: «السلام عليكَ يا بطريرك المحبّة مار بشارة بطرس الراعي».
وكان النائبان أكرم شهيّب ووائل ابو فاعور قد ردّا على باسيل، فشدَّد الاوّل مجدّداً «على أنّ المصالحة راسخة وتُشكّل خطاً أحمر في مسيرتنا السياسية التي لم ولن تُبنى على مقعدٍ نيابي بالزائد أو بالناقص». فيما اعتبَر ابو فاعور أنّ «أهل المصالحة في الجبل وفي تنوّعِهم لن ينصتوا لأيّ خُطبٍ تحريضية، لأنّ المصالحة باتت واقعاً لن ينالَ منه أحد، وسنستمرّ في تكريسها ولن نُستدرج إلى منطق الكراهية ونبشِ القبور».
جعجع
ومِن أوستراليا، وبعدما دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى المبادرة من أجل استعادة قرار الدولة، شدّد رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع على أنّ «قيام الدولة له منطقٌ معيّن لا يتحمّل التأويل ولا الإشراك، لا يوجد نِصف دولة، فإمّا دولة موجودة أو لا دولة، وأولى مقوّمات قيام الدولة هي أن يكون القرار الاستراتيجي في يدها، بالإضافة الى حصريةِ استعمال السلاح، وهذان الشرطان غير متوافرين في لبنان».
وطالبَ الحكومة اللبنانية باتّخاذ قرار في شأن عودة النازحين «لأنه قرار سياديّ قبل أيّ شيء آخر»، مشدّداً على «ضرورة أن تقوم الحكومة بالترتيبات المطلوبة لإعادتهم الى بلدهم».
ملفّ النازحين
وفي شأن ملفّ النازحين، من المقرر أن يبدأ التعاطي الرسمي الجدّي مع هذا الموضوع اعتباراً من هذا الاسبوع، فينتقل رئيس الجمهورية، الذي كانت له مواقف صارمة ووطنية بهذا الملف، الى مرحلة التدابير وإجراء مشاورات اقليمية ودولية يفترض ان تبدأ من اليوم بلقاء مع سفراء الدول المعنية يَستتبعها بلقاء سفراء الدول المانحة ليَطرح عليهم خطة تنفيذية لعودة النازحين لكي لا يصبح مطلبُ إعادتهم صوتاً صارخاً فقط.
وفي هذا السياق، كشَفت مصادر ديبلوماسية مطّلعة لـ»الجمهورية» انّ سفراء الدول الخمس الكبرى ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي سيَحضرون الى قصر بعبدا في الساعات المقبلة ملبّين دعوةَ رئيس الجمهورية للتشاور في التطوّرات على الساحتين اللبنانية والمنطقة.
وقالت هذه المصادر إنّ فريق عمل عون أنجَز ملفّاته الى هذه اللقاءات حيث يُتوقّع ان يشرَح رئيس الجمهورية للسفراء، بالإضافة الى ممثلي المنظمات الدولية الكبرى في وقتٍ لاحق، مضمونها، وخصوصاً ما يتصل بالأسباب والدوافع التي قادت إليه وما بلغه حجم النزوح على الأراضي اللبنانية والنتائج السلبية التي ترتبت عليه على كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحّية، عدا عن المنافسة التي تسبَّبت بها اليد العاملة السورية في الأسواق اللبنانية.
الحريري في ايطاليا
على صعيدٍ آخر، وعشية اللقاءِ المرتقب بين الحريري ونظيرِه الإيطالي باولو جينتيلوني، قالت مصادر الوفد اللبناني في روما لـ»الجمهورية»: «إنّ اللقاء سيركّز على الوضع العام في لبنان والمنطقة من بوّابة العلاقات المميّزة بين لبنان وايطاليا على أكثر من مستوى، وسيتناول عنوانَينِ أساسيَين هما: التحضيرات الجارية لمؤتمر روما ونتائج الاتّصالات التي جرت لجمعِ اكبرِ عددٍ من الدول المانحة المشاركة فيه، والتوقّعات في شأن حجمِ المساعدات العسكرية للجيش اللبناني لأنّ هذا الموضوع يشكّل العنوان الأساس للمؤتمر».
برّي والموازنة
على صعيد آخر، أنجَزت دوائر مجلس النواب التحضيرات لـ»ثلاثية الموازنة» التي تنطلق غداً في مجلس النواب بجلسات نهارية ومسائية، وبشهيّةٍ نيابية مفتوحة على الكلام، خصوصاً انّ وقائع الجلسة منقولة مباشرةً على الهواء عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.
وتوقّعَ رئيس المجلس النيابي نبيه بري أن تسير مداخلات النواب في جوّ هادئ بعيد من التشنّجات، انعكاساً للأجواء السياسية الهادئة بين القوى السياسية. على ان يليَ ذلك إقرارُ مشروع قانون الموازنة للسَنة الجارية 2017 بطريقة انسيابية بما يُلغي الوضعَ الشاذّ الذي عاشَه البلد بلا موازنة منذ العام 2005، ويعيد بالتالي الوضعَ الماليّ والاقتصادي في البلاد الى الانتظام في مساره الطبيعي.
وأكّد بري امام زوّاره أمس، انّ إقرار موازنة السنة الجارية يفتح المجالَ لإنجاز موازنة السنة المقبلة في أسرع وقتٍ ممكن، خصوصاً أنّ التحضيرات في شأنها قطَعت أشواطاً متقدمة، بما يؤشّر الى إمكان إحالتها من الحكومة الى المجلس النيابي في القريب العاجل.
واعتبَر بري «أنّ معاناة لبنان الدائمة هي من الفساد الموجود على غير صعيد، وأنّ إقرار الموازنة من شأنه ان يلغيَ بين 50 إلى 60 في المئة من هذا الفساد. وهذا لا يعفي أبداً من إطلاقِ حملةٍ سريعة بعد الانتهاء من الموازنة لمواجهة هذا الفساد».
وشدَّد على «انّ الانتخابات النيابية باتت أمراً واقعاً ولا مفرّ مِن إجرائها في مواعيدها»، إلّا انّه حرصَ على إعادة تأكيد أهمّية اللقاء الثلاثي الذي جَمعه في كليمنصو أخيراً مع الحريري وجنبلاط، مشدّداً على انّ هذا اللقاء «لا يستهدف أيّ فريق لبناني، بل كان لمصلحة لبنان وأوحى بالدرجة الأولى إلى التحصين».
وأكّد بري أنّه مطْمئن للوضع الداخلي في لبنان، منوِّهاً بمواقف الأفرقاء جميعاً ومقاربتهم المسؤولة للتطوّرات المتسارعة دوليّاً وإقليمياً.