أدخَلت استقالة الرئيس سعد الحريري المفاجِئة البلادَ في أتون التعقيدات السياسية، وارتسَمت الأسئلة حول مستقبل الآتي من الأيام، بعدما فرَضت أزمة وطنية استدعت استنفاراً داخلياً وحراكاً ديبلوماسياً على مستويات عدة. وفيما ينتظر لبنان الرسمي والشعبي عودةَ الحريري، متمسّكاً به رئيساً للحكومة، بَرزت أمس خطوة لافتة، إذ عَمدت صفحة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الخاصّة على «فيسبوك» إلى تغييرِ صورة الغلاف الخاصة بها، واضعةً صورةً تَجمعه مع كلّ مِن رئيس مجلس النواب نبيه بري والحريري. في وقتٍ، اقتصَر النشاط السياسي للحريري في الخارج، على إعلان مكتبِه الإعلامي في لبنان أنّ «رئيس مجلس الوزراء» تلقّى اتّصالاً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الموجود في السعودية «تمَّ خلاله البحث في التطوّرات اللبنانية والفلسطينية وآخِر المستجدات في المنطقة». وعلمت «الجمهورية» أنّ طائرة الحريري الخاصة حطّت مساءً في مطار بيروت الدولي قادمةً من أحدِ المطارات البريطانية، ما أثارَ بَلبلةً لبعضِ الوقت قبل التثبتِ من بعض المسؤولين المعنيّين بحركة المطار بأنّها نَقلت عدداً مِن معاوني رئيس الحكومة، ولم يكن هو بين ركّابها، وأنّ بيروت ستكون محطةً قصيرة للطائرة قبل أن تغادرَها وقد زُوِّدت ما تحتاجه لهذه الغاية. ولكنّ معلومات متضاربة شاعَت ليلاً وأفادت أنّ الحريري غادرَ الرياض في طائرته. وتوقّعَ البعض أن يعود إلى لبنان في أيّ وقت.
أشارت مصادر مواكِبة لحركة المشاورات لـ«الجمهورية» إلى «أن الخطوات التالية حالياً رهنُ عودة الحريري». وأكّدت «أن لا تواصل رسمياً معه»، وقالت: «عندما يعود ويقدّم استقالته وجاهياً تصبح الحكومة مستقيلة تلقائياً ويتمّ تكليفه تصريفَ الاعمال ويدعو رئيس الجمهورية الى استشارات ملزمة لتكليف شخصيةِ تأليفِ الحكومة الجديدة.
هذه في الخطوات الدستورية. امّا في السياسة، فلا حكومة جديدة قبل عودة الحريري ولا حكومة بلا «حزب الله»، وأساساً لا كلام عن حكومة جديدة حالياً. الجميع ينتظرون موقفَ الحريري ليبنيَ على الشيء مقتضاه».
عون
في ظلّ التحوّل الكبير الذي فرَضته الاستقالة، واصَل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لقاءات التشاور مع القيادات الوطنية والشخصيات السياسية والحزبية للبحث في النتائج المتأتّية عن إعلان الحريري استقالته من الخارج، وسيَستقبل اليوم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ويلتقي غداً الجمعة مجموعة الدعم الدولية التي تضمّ ممثلي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وعدداً من السفراء الأجانب، بالإضافة الى مجموعة السفراء العرب المعتمدين في لبنان، وذلك لمناقشة آخِر التطورات واستيضاحهم مواقفَ حكوماتهم ممّا يجري على الساحة اللبنانية، خصوصاً انّ بعضهم سجّل مواقفَ محدّدة ممّا واكبَ استقالة الحريري وتلاها من أحداث ما زالت مدارَ جدلٍ، نظراً الى حجم الغموض الذي يلفّ هذه القضية».
وعشية هذا اللقاء، علمت «الجمهورية» من مصادر تواكب مشاورات رئيس الجمهورية الخارجية، المعلَن منها وغير المعلن، سعياً إلى كشفِ الغموض الذي ما زال يَحوط بوضعِ الحريري وحرّية حركته، أنه إذا ما لم تتكشّف في الساعات المقبلة الفاصلة عن لقاء عون مع السفراء ايُّ معلومات حول حركة الحريري وموعد عودته الى بيروت لربّما أطلقَ رئيس الجمهورية مبادرةً امام هؤلاء السفراء طالباً التدخّلَ لإنهاء الغموض الذي يلفّ هذه القضية من جوانب مختلفة.
برّي
في غضون ذلك، جدّد بري القولَ إنّ «الحكومة ما زالت قائمة، وإنّ إعلان الحريري استقالتَه بهذا الشكل لن يغيّرَ مِن كامل أوصافِها». وأكّد في «لقاء الاربعاء النيابي» انّ اللبنانيين رغم كلّ الأزمات التي واجَهتهم استطاعوا أن يتجاوزوا كلّ الصعاب متسلحين بوحدتهم وتحصين ساحتهم الداخلية، وقال: «إنّ ما يواجهنا اليوم يفترض منّا جميعاً ان نحصّنَ هذه الوحدة».
نصرالله
وفيما تتّجه الانظار الى ما سيُعلنه الامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله غداً في مناسبة «يوم الشهيد»، علمت «الجمهورية» انّ نصرالله سيشدّد في خطابه مجدداً على استمرار التهدئة وعدمِ التصعيد واستيعاب المشكلة الماثلة، والبحث عن مخارج للأزمة السياسية الحالية.
وسينقسِم خطابُه الى محاور عدة: دينيّ لمناسبة اربعين الإمام الحسين، ومحور يتحدّث فيه عن اوّلِ استشهاديّ للحزب أحمد قصير لينطلق منه الى الحديث عن احتمالات الحرب الاسرائيلية على لبنان وقدرةِ المقاومة على ردعِها.
ومحور يتناول التطورات الاقليمية والعملية العسكرية في البوكمال ودلالات ذلك وإعلان الانتصار على «داعش» وإنهاء وجودها العسكري في سوريا والعراق بعد ربطِ الحدود العراقية ـ السورية، وسيتطرّق الى الأزمة اليمنية.
وقال مصدر قيادي في الحزب لـ«الجمهورية» تعليقاً على التوقّعات الشائعة حول موعد عودة الحريري من الخارج: «نحن نأمل ولا نتوقّع».
دار الإفتاء
في هذا الوقت، واصَلت دار الإفتاء مشاوراتها، وأمَّها عددٌ من الزوار ابرزُهم السفير المصري نزيه النجاري، والوزراء السابقون عبد الرحيم مراد وفيصل كرامي ووئام وهاب الذي أكّد تمسّكَه ببقاء الحريري في رئاسة الحكومة.
كذلك زارَها مجلس نقابة الصحافة برئاسة النقيب عوني الكعكي الذي نَقل عن مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان تأكيدَه «أنّ عودة الحريري أولوية تتقدّم على أيّ شيء، وأنّ الأزمة التي أصابَت لبنان باستقالته ينبغي أن نفهم ظروفَها، وأن نعالجَها ضمن إطار الوحدة الوطنية».
وقال مصدر مسؤول في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لـ«الجمهورية»: إنّ عودة الحريري غداً الخميس (اليوم) لا تزال ضمن التوقّعات، ومسؤوليةُ دار الإفتاء كبيرة في شدِّ العصبِ اللبناني وليس السنّي، كما يسعى البعض الترويج له، ولذلك فإنّ سماحتَه يستقبل اليوم قيادات وشخصيات من جميع الأطراف والطوائف والمذاهب والشخصيات».
وهل ستَشهد دار الإفتاء اجتماعاً سنّياً موسّعاً؟ أجابَ المصدر: «مِن ضِمن المشاورات والاستقبالات التي يقوم بها سماحتُه الاتّفاقُ على موعد لاجتماع المجلس الشرعي، على أن يكون موسّعاً ويضمّ رؤساء الحكومات السابقين والوزراء والنواب السُنّة، لدرسِ التطورات بعد استقالة الحريري والخطوات التي يمكن اتّخاذها».
وهل سيُعقَد الاجتماع نهاية الأسبوع؟ أجاب المصدر: «لا شكّ في أنّ غداً الخميس (اليوم) وما يمكن أن يحمله سيؤثّر في مسألة تحديد الموعد، ولكن بشتّى الظروف لا شكّ في أنّ الصورة تنقشع أكثرَ يومَ السبت».
وعن النقاط التي ستتمّ مناقشتها في الاجتماع، قال المصدر: «أولاً سيتمّ التركيز على الوضع الداخلي في لبنان لجهة تحصينِه، وثانياً مناقشة أسباب الاستقالة التي لا تزال مبهمةً حتى في صفوف المفتِين، وثالثاً، إستطلاع الأفكار والآراء التي يمكن تبنّيها في المرحلة المقبلة، سواء عاد الحريري أم لا».
وعن موقف دار الفتوى من زيارة البطريرك الراعي المرتقَبة للسعودية، قال المصدر: «نرحّب بزيارته ونَدعمها ولا ننصَحه بالتريّث فيها لأنّها قد تكون مدخلاً لمخرجٍ ما للبنان، وفي الوقت عينه قد يَسمع الراعي من القيادة السعودية ما لديها من هواجس، وأبعد من ذلك زيارته ستُبلور الصورةَ الحقيقية للبنان بلدِ الانفتاح وأنّه بجميع قياداته الروحية متمسّك ببقاء هذا الوطن الرسالة»، لافتاً إلى «انّ تريُّثَ الراعي في زيارته قد يزيد الشرخَ، وقد يُفهَم إشارةً سلبية تجاه السعودية، خصوصاً أنّها تشكّل الزيارةَ الأولى لبطريركٍ ماروني للسعودية».
حراك ديبلوماسي
وإلى ذلك، نشَط الحراك الديبلوماسي على كلّ الجبهات، وكانت استقالة الحريري الحاضرَ الأبرز في كلّ اللقاءات. فزارَت السفيرة الاميركية اليزابيت ريتشارد بكركي للاجتماع مع البطريرك الماروني، فيما زار السفير الفرنسي برونو فوشيه عين التينة ناقلاً إلى بري دعوةً لزيارة فرنسا اتُفِقَ على تحديد موعدِها لاحقاً. كذلك، زار السفير المصري نزيه النجاري دارَ الإفتاء ورئيسَ كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة، في وقتٍ زار سفير بريطانيا هيوغو شورتر النائبَ وليد جنبلاط في كليمنصو.
جعجع
إلى ذلك، رأى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعحع أنّ «حكومة التكنوقراط لا تكفي بمفردِها، وعليها أن تأخذ في الاعتبار أسبابَ استقالة الحريري»، معتبراً أنّه «إمّا أن يصبح لدينا دولة أو أنّ الأمور لن تسيرَ كما يجب، أمّا الحديث عن تحالفٍ سعودي ـ أميركي فهو ردُّ فِعلٍ على ما يحصل في المنطقة». وأشار الى أن «لا مؤشّرات لديّ الى أيّ ضربة عسكرية ضد «حزب الله»، وفي النهاية مشكلةُ الأخير مشكلتُنا نحن كلبنانيين لأنّنا لا نستطيع أن نستمرّ في دولتين».
واعتبَر جعجع خلال مقابلة مع الزميل وليد عبود عبر شاشة الـ«أم تي في» ضِمن برنامج بـ«موضوعية»، أنّ «البعض ينظر إلى استقالة الرئيس الحريري وكأنّها بدأت الآن، وإنّما هي نتيجة تراكُمٍ طويلٍ عريض، وهناك دفعٌ إعلاميّ في الاتّجاه غير الصحيح». ورأى أنّ «الحريري استقالَ عندما قرّبنا مِن واقع أنّ «حزب الله» يسعى ليصبحَ صاحبَ القرار».
ولفتَ إلى «أنّني لم أتفاجَأ باستقالة الحريري في الجوهر وإنّما في التوقيت». وأكّد جعجع أنّ «الحريري يعود عن استقالته اليوم إذا تراجَع «حزب الله» عن سلوكياته وسلّمَ سلاحَه، والدولةُ هي المقاومة، ولا تجوز ازدواجية الدولة والمقاومة».
وقال: «بيتُ القصيد أن تتشكّلَ حكومةٌ تأخذ على عاتقها أوّلاً سحبَ الحزبِ من أزمات المنطقة، وإنّ مرشّحَنا الأوّل لرئاسة الحكومة هو سعد الحريري».
مِن جهته، قال النائب وليد جنبلاط عبر «تويتر» إنّه «مِن أجلِ التاريخ وكي لا ندخل في المجهول، أفضلُ تسويةٍ لاستقرار لبنان هي حكومة الوحدة الوطنية الحاليّة، ولن أزيد».
الهبة الاميركية
وكان لافتاً أمس خطوةُ الإدارة الأميركية بتحويل مبلغ 42.9 مليون دولار الى حساب الجيش اللبناني. وقالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية»: «إنّها هبة مقرّرة في السابق لكن تسليمها ارتبَط بظروف سياسية، وهي لزومُ مصاريف الجيش ومساعدته لوجستياً من بضاعةٍ ومعدّات ومحروقات تندرج في إطار مكافحة الإرهاب».
وأشارت إلى «أنّ تقديم هذه الهبة في هذا الظرف، يؤكّد انّ الدعم الاميركي لم يتوقف وأنّ الإدارة الاميركية تتعامل مع لبنان وكأنّ حكومته ومؤسّساته تعمل بانتظام، وليس مع بلدٍ حكومته مستقيلة، وخلافاً لجوّ الضغط الاسرائيلي الحاصل في العالم والداعي إلى مقاطعة الحكومة. وهذه رسالة إيجابية بعدما أحبَطت القوى السياسية في لبنان أيّ مخطط لزعزعةِ استقراره».
الاتّحاد الأوروبي
وفي المواقف، جدّد سفراء الاتحاد الأوروبي في لبنان تأكيدَ «دعمِهم القوي لوحدةِ لبنان واستقراره وسيادته وأمنِه ولشعبه». ودعوا «جميعَ الأطراف إلى متابعةِ الحوار البنّاء، والاعتمادِ على العمل المنجَز خلال الأشهرِ الأحد عشر الماضية بهدفِ تقوية مؤسسات لبنان والإعداد للانتخابات النيابية مطلعَ 2018 وفقاً لأحكام الدستور». وأكّدوا «التزامَهم المستمر بالوقوف إلى جانب لبنان ومساعدته في إطار الشراكة القوية لضمان استقراره وتعافيه الاقتصادي المستمر».
الجنوب
جنوبياً استمرّت الجرّافات الإسرائيلة في حفرِ خندقٍ عند الشريط الحدودي مقابل بلدة العديسة، في ظلّ تحليقِ الطيران الحربي الاسرائيلي في الاجواء وطائرة استطلاع فوق النبطية، وقد استمرَّ الجيش واليونيفيل في مراقبة هذه الأعمال.
وأكّدت مصادر أمنية لـ«الجمهورية» أنّ «التنسيق بين الجيش واليونيفل مستمرّ، ويُسيّران دوريات ويُراقبان كلَّ الحدود الجنوبية، تحسُّباً لأيّ طارئ». ولفتَت الى أنّ «لبنان ملتزم تطبيقَ القرار 1701 بكلّ موجباته، ويأخذ كلّ التدابير، ويتحسّب لكلّ ما قد يحصل».
إلى ذلك، ترَأس رئيس بعثة «اليونيفيل» وقائدها العام اللواء مايكل بيري، أمس، الاجتماعَ العسكري الثلاثي العادي، في موقعٍ للأمم المتحدة على معبر رأس الناقورة، «حيث تركّزَ النقاش على قضايا ذات صلة بتنفيذ ولاية «اليونيفيل» بموجب القرار 1701، وأهمّية التعاون من الجانبين في تنفيذ القرارين 1701 و2373، والانتهاكات الجوية والبرية، والوضع على طول الخط الأزرق، إلى جانب انسحاب القوات الإسرائيلية من شمال قرية الغجر».
وأشاد بيري بـ«التطوّر المرحّب به المُتمثّل في نشرِ قوات إضافية من الجيش اللبناني فى أيلول الفائت الى منطقة عمليات «اليونيفيل» بين نهر الليطاني والخط الأزرق»، معتبراً أنّ «الانتشار الجديد للقوات المسلحة اللبنانية يسمح لقوّة الأمم المتحدة الموَقّتة في لبنان والجيش اللبناني بزيادة الأنشطة المنسّقة ويساهم في تعزيز وجود القوات المسلحة اللبنانية في منطقة عمل «اليونيفيل».
وشدّد على «أنّها خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، فمفتاحُ الاستقرار والأمن على المدى الطويل في الجنوب هو وجودٌ معزَّز للجيش اللبناني، ونحن نتطلّع إلى استمرار هذا الجهدِ من خلال نشرِ المزيد من القوات».