الجميع في انتظار عودة الرئيس سعد الحريري من الرياض لتنطلقَ مرحلة ما بعد العودة التي يخشى كثيرون من أن تكون أشدّ إيلاماً على الوضع اللبناني السياسي والعام من الاستقالة نفسِها سواء قُبلت، أو تمّ التراجع عنها، لأنه ما بعد الاستقالة والمصير الذي ستؤول إليه سيكون بالتأكيد غيرَ ما قبلها، ويُخشى أن تدخل البلاد معه في جمودٍ حكومي لن تزيله إلّا الانتخابات النيابية بنتائجها في حال أُجريَت في موعدها في أيار المقبل. وعلى وقع زيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي للسعودية وما لاقاه من حفاوةٍ واهتمام لدى القيادة السعودية غرَّد الحريري الذي زار البطريرك في مقر إقامته، إلى إنصاره قائلاً: «يا جماعة أنا بألف خير، وإن شاء الله أنا راجع هل يومين خلّينا نروق، وعيلتي قاعدة ببلدها المملكة العربية السعودية مملكة الخير».
صحيح أنّ غبار استقالة الحريري لم ينجلِ بعد، وأنّ سَيل التكهّنات والتحليلات حول أسبابها و«تشريح» مقابلته المتلفزة مستمر، لكن الأصحّ هو أنّ صورة المرحلة المقبلة تبقى داكنةً بعدما رسَم الرئيس المستقيل خريطة جديدة اشترَط تنفيذها لكي تستمر التسوية السياسية ويعود عن استقالته.
في هذا الوقت انشدّت الأنظار الى زيارة البطريرك الراعي للرياض والتي توَّجها بلقاءات مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في قصر اليمامة، ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأمير الرياض فيصل بن بندر.
وأكّد الملك سلمان والراعي أهمّية دور الأديان المختلفة في نبذِ «التطرّف والإرهاب». ولفتَ البطريرك الى أنّ «خادم الحرمين الشريفين عَبّر عن حبّه الكبير للبنان وعن رغبته الكبيرة في دعمِه الدائم لوطننا وتقديره لأبناء الجالية اللبنانية الذين يعملون في السعودية وساهموا في بنائها واحترَموا قوانينها وتقاليدها، لذلك نقول إنّنا نعود إلى لبنان حاملين معنا فعلاً نشيدَ محبّة لهذا الوطن، إذ علينا أن نتعاون جميعاً، كلٌّ مِن موقعه، لإظهار وجهِ لبنان الجميل، وهذا ما نحن بأمَسّ الحاجة إليه اليوم. ونشكر الربّ على هذه النعمة».
وقال: «لا شيء يؤثّر في العلاقة اللبنانية-السعودية، وإن مرَّت ظروف معيّنة، فهي لم تؤثّر في الصداقة بين البلدين، وهذا ما سمعناه، سواء من الملك أو مِن ولي العهد أو مِن سموّ الأمير، فكلّهم يؤكّدون محبّتهم ودعمَهم للبنان».
تغريدة ولقاء
وفي ظلّ ترقّبِ وانتظار عودته، غرّد الحريري بعد زيارته الراعي في مقرّ إقامته في الرياض مؤكّداً عودته بـ«هل يومين». وإذ ظلّ ما دار في هذا اللقاء بعيداً من الإعلام، وصَف البطريرك لقاءَه بالحريري بـ«الجيّد جداً جداً»، معلِناً أنّ «الحريري سيعود في أقرب وقتٍ إلى لبنان». وأكّد اقتناعَه بالأسباب التي دفعَت الحريري إلى الاستقالة.
وكانت كلّ مِن سوريا وإيران استبَقتا عودة الحريري المرتقبة بموقفين، فقال الرئيس السوري بشّار الأسد إنّ الحريري «ليس سيّد نفسِه وهو أُقيلَ ولم يستقِل»، فيما أعلنَت إيران أنّ الحريري أعلنَ استعداده للوساطة بينها وبين السعودية، الأمر الذي نفاه مكتب الحريري، مؤكّداً أنه لم يعرض التوسّط بين أيّ بلدٍ وآخر.
كذلك ردّ «تيار المستقبل» على الأسد ببيانٍ قال فيه: «هو آخِر كائن على الكرة الأرضيّة يحقّ له التحدّث عن سيادة النفس وحرّية القرار». ودعاه إلى «الكفّ عن حشرِ أنفِه في المواضيع اللبنانية»، والتوقّف «عن بخِّ السموم في ما يَعني اللبنانيين وقضاياهم».
إتّصالات دولية
في غضون ذلك، تستمرّ الاتصالات الدولية بحثاً في تداعيات استقالة الحريري وتبعاتِها. وواصَلت فرنسا دخولها القوي على خط الأزمة اللبنانية، فبعدما زار رئيسُها ايمانويل ماكرون الرياض، التقى أمس وزير الخارجية جبران باسيل، وأعلنت الخارجية الفرنسية أنّ وزيرها جان ايف لودريان سيلتقي مساء اليوم في الرياض ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان و»سيَبحث معه في الوضع اللبناني».
وأكّد رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب «أنّ المطلوب هو أن يتمكّن الحريري من العودة بحرّية إلى بلده لتوضيح وضعِه طبقاً للدستور اللبناني»، واعتبَر أنّ «إعلان استقالته من المملكة العربية السعودية فتحَ الباب أمام مرحلة من الشكوك، لا بدّ مِن إنهائها سريعاً».
ونَقلت وكالة «آكي» الإيطالية عن مصادر أوروبية مطّلعة أنّ «ديبلوماسيي الاتحاد الموجودين في المنطقة، أي بيروت والرياض وعواصم أخرى، يقومون بتحرّكات من أجل تأمين عدم تحويل لبنان ساحةَ مواجهة جديدة بين الأطراف المتنازعة في المنطقة».
وقالت الممثّلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، إنّها «تأمل وتتوقّع» عودة الحريري وعائلته إلى لبنان في الأيام المقبلة. وأكّدت أنّ الاتصالات معه «ستتواصل عبر القنوات الديبلوماسية الأوروبية».
وقالت خلال لقائها باسيل في بروكسل إنه «يتعيّن منعُ أيِّ تصعيد والحفاظُ على وحدة الأراضي اللبنانية وسيادتها»، وأكّدت استمرار دعمِ أوروبا للبنان ولسلطاته ومؤسساته الشرعية، مشدّدةً على ضرورة منعِ أيّ تدخّلٍ خارجي في شؤون البلاد، وقالت: «لا يجب أن تتأثّر الأجندة الداخلية اللبنانية بالتوتّرات الإقليمية».
إلى القاهرة
وفي ظلّ رفضِ البعض لنقلِ الأزمة إلى المحافل الدولية، تتّجه الأنظار إلى القاهرة الاحد، حيث ينعقد اجتماع طارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة العربية بدعوة من السعودية، لمناقشة تدخّلات إيران في المنطقة.
وقالت مصادر ديبلوماسية لـ«الجمهورية» إنّ لبنان يستعدّ للمشاركة في هذا الاجتماع وإنّ اتصالات بوشِرَت لتنسيقِ الموقف اللبناني ليكون مترجماً للإجماع بين اللبنانيين على رفض كلّ ما يهدّد أمنَ الدول العربية واستقرارها، خصوصاً أنّ الشكوى لا تطاول أياً مِن اللبنانيين حتى اليوم، كما قالت الشكوى السعودية.
وإذا حملت الشكوى اتّهاماً لـ«حزب الله» بإطلاق الصاروخ الباليستي من داخل الاراضي اليمنية على الرياض، قالت المصادر: «لكلّ حادثٍ حديث، وإلى تلك اللحظة سيكون لنا موقف ممّا يجري بما يَحفظ وحدةَ لبنان ومصالحَه».
وكان باسيل قد قال من باريس إنه «لا يمكن ان يتّهم لبنان بإطلاق صاروخ انطلقَ من بلدٍ ما الى بلدٍ آخر، ولا علاقة لنا به. وإنْ كان هناك مشكلات مع ايران فلتتمّ معالجتُها مع ايران». واعتبر انّ الأزمة تنتهي بعودة الحريري «ولن نكون في حاجة الى بدائل اخرى، إلّا أنّ هناك مشكلات في المنطقة ما تزال قائمة، ويجب تسويتُها».
«المستقبل»
وأعلنَت كتلة «المستقبل» أنّ الأولوية في مناقشاتها واجتماعاتها هي عودة الحريري الى لبنان، وأكّدت أهمية إعادة الاحترام للدستور و«اتّفاق الطائف» والبيان الوزاري واعتماد سياسة «النأي بالنفس» والامتناع عن التدخّل في شؤون الدول العربية.
«القوّات»
وقالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: «إنّ إنقاذ التسوية السياسية يستدعي ملاقاة الرئيس الحريري في منتصفِ الطريق من أجل تطويرِ التسوية، لأنّ الاستمرار في الوضع السابق للاستقالة لم يعُد ممكناً، والتطوير المطلوب هو إخراج «حزب الله» من أزمات المنطقة ووضعُ سلاحه على طاولة حوار جدّية».
وحمّلت «كلَّ فريق سياسي لا يريد ملاقاة الحريري في منتصف الطريق مسؤولية إجهاض التسوية الجديدة، ومسؤولية إجهاض التسوية السابقة بسبب تجاوزاتِه للأسسِ والمرتكزات التي قامت عليها».
ورأت المصادر نفسُها «أنّ مسرحية حرفِ الأنظار عن جوهر الاستقالة شارفَت على الانتهاء»، وأكّدت «ضرورة الالتزام بالدستور لتحييدِ لبنان وحمايته من أتون النزاعات في المنطقة»، واعتبرَت «أنّ القوى التي ذرَفت دموع التماسيح على الحريري باتت تتمنّى بقاءَه في السعودية من أجل مواصلةِ مسرحيتها».
وقالت «إنّ محاولات ضربِ العلاقة بين «القوات» و«المستقبل» من خلال فبركةِ الإشاعات لن تُحقّق أغراضَها لا اليوم ولا في المستقبل، لأنّ ما يجمع بين الطرفين من مشروع وطني يَرتكز على خيار قيامِ الدولة الفعلية أبعدُ من أن تؤثّر فيه فبركات ومساعٍ لم تتوقّف منذ العام 2005».
«الكتائب»
وإلى ذلك، جدَّد مصدر كتائبي مسؤول موقفَ الحزب المعروف لناحية اعتبار» أنّ صفقة التسوية التي تمّ التوصّل إليها قبل نحو من سنة هي السبب في وصولِ الأمور الى ما وصلت اليه»، وقال لـ«الجمهورية»: «رفَضنا المشاركة في هذه الصفقة لأننا كنّا ندرك أنّ التخلي عن سيادة الدولة اللبنانية ومؤسساتها خلافاً للدستور والقوانين سيزجّ بلبنان في أزماتٍ ومشكلات داخلية وخارجية. وها هي الأيام تُثبت صحّة مقاربتنا للواقع.
وعليه، فإنّ إحياءَ التسوية التي سقطت باستقالة الحريري ستُبقي لبنان في دائرة الأزمات الداخلية والخارجية، وبالتالي فإنّ المطلوب هو حلّ جذريّ وبنيوي دائم يقوم على استعادة الدولة سيادتَها كاملةً وبسطِ سلطتِها على كلّ أراضيها بقواتها الشرعية حصراً».
مشاورات إعلامية واسعة
وفي إطار مشاوراته المتواصلة يلتقي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون اليوم ممثّلي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، على أن يلتقي غداً الخميس نقابات ممثّلي الوسائل الإعلامية المكتوبة. وقالت دوائر قصر بعبدا لـ«الجمهورية»: «هدفُ هذه اللقاءات هو البحث في ما يمكن اعتباره ضبط الساحة الإعلامية ووقف الفوضى الإعلامية ومواجهة ورفض بثِّ ونشرِ الإشاعات والسيناريوهات غير المنطقية والتثبّت من صحّتها قبل أيّ إجراء آخَر ومقاربة الأمور بمسؤولية أكبر يحتاجها لبنان لعبورالمرحلة بأقلّ الخسائر الممكنة».
وأضافت «إنّ عون سيتمنّى على وسائل الإعلام مقاربة القضايا المطروحة بكثيرٍ من الصدقية ضماناً للاستقرار والأمن في لبنان، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها البلاد في ظلّ الاستحقاقات التي تَعبرها المنطقة».
أمير الكويت
ومن جهةٍ ثانية أكّدت رسالة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح إلى عون دعمَ الكويت لاستقرار لبنان وسلامة أراضيه ووحدة أبنائه، وأنّها كانت وستبقى من الدولِ التي توفّر الدعمَ لتقاسمِ كلفةِ النازحين السوريين الى لبنان، وخصوصاً أنّها هي التي استضافت مؤتمرَين دوليين حتى الآن للدول والمؤسسات المانحة للبنان ودول الجوار السوري.
ورَبطت مصادر دبلوماسية بين الرسالة الكويتية وما أُشيعَ أخيراً عن أنّ الكويت هي التي ألغَت زيارةَ عون التي كانت مقرّرة في الخامس من الجاري. وأكّدت هذه المصادر لـ»الجمهورية» أنّ أمير البلاد تفهَّم الأسباب التي دفعت عون إلى إلغاء الزيارة عقبَ استقالةِ الحريري قبل 48 ساعة من موعدها. وكرّر أمير الكويت دعوةَ عون لزيارة العاصمة الكويتية في أيّ وقتٍ يرتئيه.
تطمينات إضافية
من جهةٍ ثانية، كرَّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من لندن التطمينات التي سبقَ وأطلقَها في بيروت حول متانةِ وضعِ الليرة اللبنانية. وأشار إلى «أنّ الأزمة التي يشهدها لبنان هي أزمة سياسية لا نقدية». وذكر أنه «في الأسبوع الذي أعقبَ استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، شهدَت سوق الصرف اللبنانية عمليات تحويل طبيعية ومتوقّعة من الليرة اللبنانية إلى الدولار. غير أنّ الحجم اليومي لهذه العمليات انخفضَ تدريجاً خلال الأسبوع».
في الموازاة، شرَح سلامة مسألة الإصدار الجديد فكشَف أنّ وزارة المالية اتفقَت ومصرفَ لبنان قبل الأزمة السياسية الراهنة وقبل اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في منتصف تشرين الأوّل في واشنطن، على إجراءِ عملية تبادلٍ، بحيث تُصدر الحكومة سندات يوروبوند بقيمة 1.750 مليار دولار، يُسدّد مصرف لبنان المركزي قيمتَها عبر تحويل سندات بالليرة اللبنانية من محفظته إلى وزارة المال».
وأضاف: «في تشرين الأوّل في واشنطن أطلعنا صندوق النقد الدولي على هذه العملية. ولهذا السبب، سدّدت وزارة المال نقداً السندات المستحقّة في تشرين الأوّل من دون إصدار سندات بديلة في السوق. وبالتالي، لا إصدار يوروبوند مرتقَب ولا نيّة لإصدار جديد في نهاية السنة».
وطمأنَ إلى أنّ القطاع المصرفي اللبناني يتمتّع برَسملة جيّدة، وأنّ مصرف لبنان طوَّر نظاماً مؤاتياً لتطبيق القوانين المتعلقة بالعقوبات، «ما يُبقي لبنان منخرطاً في العولمة المالية ويضمن الإنصافَ بين اللبنانيين. وبالتالي، لن تتطلبَ أيّ قوانين عقوبات جديدة اتّخاذ تدابير إضافية، ونحن سنتقيّد بها».