مع عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت ليلاً حيث توجّه من المطار الى ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري في حضور مدير مكتبه نادر الحريري، وقرأ الفاتحة عن روحه وأرواح رفاقه الشهداء وقال «شكراً للبنانيين»، من ثمّ عاد الى «بيت الوسط»، ازدحمت الساحة السياسية بوابلٍ مِن الأسئلة حول مصير استقالته وتالياً مصير الوضع الحكومي والخيارات التي يمكن اللجوء اليها حكومياً وعلى كلّ المستويات لإنجاز الاستحقاق النيابي في موعده، علّه بنتائجه يشكّل معبراً الى سلطة جديدة ينبغي ان تنقل البلاد الى واقعٍ جديد، بمعزل عمّا سيؤول إليه مصير الأزمات المشتعلة في المنطقة. وأجمعَت كلّ المعطيات والمعلومات التي توافرَت لـ»الجمهورية» حتى مساء امس على انّ الحريري سيؤكد استقالته في بيروت مشفوعةً بمجموعة لاءات ستشكّل عنوانَ تعاطيه وحلفاءَه مع الأفرقاء الآخرين في هذه المرحلة. وتؤكّد المعلومات انّ الحريري، وحسب ما تسرّبَ من اوساطه لن يقبل تكليفَه مجدداً تأليفَ حكومة جديدة في حال انتهَت الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة العتيد، وأكد مسؤول كبير لـ»الجمهورية» انّ رئيس الجمهورية ملزَم بالدعوة لهذه الاستشارات بمجرّد إصرار الحريري على الاستقالة وتخوّف من نشوء أزمة حكومية في البلاد ذات وجهين: الاوّل، إستنكاف الشخصيات السنّية ذات المواصفات الوازنة عن قبول التكليف، لاعتبارات داخلية وإقليمية، ترتبط بالأسباب والخلفيات التي انطوَت عليها استقالة الحريري. والثاني، وقوع البلاد تحت سلطةِ حكومة تصريف أعمال لا حول لها ولا طَول مع ما يمكن ان يَحول دون إجراء الانتخابات النيابية، مبكرةً أو في موعدها، خصوصاً انّ رئيس الجمهورية وأفرقاء آخرين بدأوا يُلمّحون في اتصالاتهم مع بعض عواصم القرار، وأمام بعض سفراء الدول الكبرى، إلى انّ هناك جهات محلية وخارجية تعمل على استيلاد مناخات لتعطيل إجراء الانتخابات، خصوصاً انّها قد لا تأتي بالنتائج التي تطمح إليها.
تحلّ الذكرى 74 للاستقلال هذه السنة في ظلّ وضعٍ غامض حيال مستقبل العلاقات السياسية بين مختلف الافرقاء السياسيين في ضوء استقالة الحريري ومصيرها، وبالتالي مصير الحكومة والحكم استطراداً، في موازاة ارتفاع حدة التوتر السعودي ـ الايراني والتهديدات الاميركية ـ الاسرائيلية. لكنّ لبنان يعوّل كثيراً على الوحدة الوطنية التي يشكّل العيد اليوم مناسبةً لانطلاقتها على أسسٍ جديدة تبقى رهنَ قدرةِ الحكم على خلقِ مناخات تسمح بها، وأبرزُها إبعاد لبنان عن النزاعات وسياسة المحاور…
برقيات تهنئة ومؤشّرات
ولاحظت مراجع سياسية متفائلة بتسويةٍ للوضع الحكومي، مؤشّرات الى تنشيط العلاقات اللبنانية ـ السعودية التي اعترَتها برودةٌ خلال الاسبوعين الاخيرين، وذلك في ضوء برقية خادِم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون للتهنئة بالاستقلال، وكذلك برقيّة وليّ العهد الامير محمد بن سلمان التي تمنّى فيها «للحكومة والشعب اللبناني المزيدَ من التقدم والازدهار»، وذلك بعد مجيء السفير السعودي وليد اليعقوب الى لبنان.
وتوقّفَت هذه المراجع باهتمام كبيرعند الدورَين المصري والفرنسي لحلّ الأزمة المستجدة، عبر الدفع في اتّجاه معالجة اسباب استقالة الحريري وإعادة تطبيع الوضع الحكومي، فيَستمرّ الحريري على رأس الحكومة بما يُجنّب لبنان فراغاً حكومياً لأنّه قد يكون متعذّراً حصول اتّفاق بين الأفرقاء السياسيين على تأليف حكومة جديدة، خصوصاً إذا أصرّ البعض على أن لا تكون هذه الحكومة سياسية وتضمّ وزراءَ من التكنوقراط، أو سياسية ولا تضمّ كلّ المكوّنات السياسية.
وكذلك توقّفَت المراجع نفسُها عند تأكيد الرئيس الاميركي دونالد ترامب في برقيتيه الى عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري انّ لبنان «شريك قوي» للولايات المتحدة الاميركية «في مواجهة تهديد الارهاب والتطرّف العنيف». مؤكّداً وقوفَه «بثبات مع لبنان» ومواصلة «دعمِ جهود بلدِكم لحماية استقرار لبنان واستقلاله وسيادته».
عون
في هذا الوقت، أكّد عون في الرسالة التي وجّهها الى اللبنانيين عشيّة عيد الاستقلال أمس انّ «ما تلقّاه لبنان هو تداعيات الصدامات وشظايا الانفجارات ولا شيء ينفَع في معالجة التداعيات إنْ لم يقفل باب النزاعات، ولكنّه في كلّ الحالات لن ينصاع الى أيّ رأي أو نصيحة أو قرار يَدفعه في اتّجاه فتنة داخلية».
وقال: «تأتي الأزمة الحكومية الأخيرة والإشكالية التي أحاطتها، فصحيح أنّها عبَرت، إلّا أنّها قطعاً لم تكن قضيّة عابرة لأنّها شكّلت للحكم وللشعب اللبناني اختباراً صادماً وتحدّياً بحجم القضايا الوطنية الكبرى يستحيل إغفالها والسكوتُ عنها». وسأل: «هل كان يجوز التغاضي عن مسألة واجب وطنيّ فُرضَ علينا لاستعادة رئيس حكومتِنا إلى بلدِه لأداء ما يوجبه عليه الدستور والعرف استقالة أو عدمها وعلى أرض لبنان؟».
وتوجّه عون الى «الأشقّاء العرب»، قائلاً إنّ «التعاطي مع لبنان يحتاج الى كثير من الحكمة والتعقّل، وخلاف ذلك هو دفعٌ له في اتّجاه النار، وعلى الرغم من كلّ ما حصَل لا تزال آمالنا معقودة على جامعة الدول العربية بأن تتّخذ المبادرة انطلاقاً من مبادئ ميثاقِها وأهدافه وروحيته فتحفظ نفسَها والدولَ الأعضاء فيها، وتنقِذ إنسانَها وسيادتها واستقلالها».
الحريري عند السيسي
وعشية عودته الى بيروت حيث يقام له استقبال شعبي في «بيت الوسط» بعد ان يشارك في عرض الاستقلال وتقبّلِ التهانئ، انتقلَ الحريري من باريس الى القاهرة حيث اجرى محادثات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في قصر الاتحادية تناوَلت آخرَ التطورات في لبنان والمنطقة والعلاقات الثنائية.
وكان لافتاً استقبالُ السيسي الحريري بحرارةٍ عند مدخل القصر، وعقِد اجتماعٌ حضَره وزير الخارجية سامح شكري ومدير المخابرات خالد فوزي ومدير مكتب الرئيس المصري اللواء عباس كامل. وأعقبَ هذا الاجتماع خلوةٌ بين السيسي والحريري تلتها مأدبةُ عشاء تكريمية أقامها الرئيس المصري على شرف ضيفه.
وأفاد بيان أصدرَته الرئاسة المصرية أنّ السيسي شدّد خلال لقائه والحريري على ضرورة «توافقِ الأطراف» اللبنانية ورفضِ «التدخّل الأجنبي». وأكّد «دعمه الكامل للحفاظ على استقرار لبنان»، وطالب بضرورة «توافقِ جميع الأطراف اللبنانية في ما بينَها وإعلاء المصلحة الوطنية العليا للشعب اللبناني، ورفض مساعي التدخّل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبنان».
الحريري
وبَعد اللقاء، شكرَ الحريري للرئيس المصري «استضافتَه لي في مصر والعشاء الذي أقامه، حيث كان لنا حديثٌ طويل مبنيّ على استقرار لبنان وضرورة أن يكون هناك في لبنان والمنطقة نأيٌ بالنفس عن كلّ السياسات الإقليمية».
وأضاف: «أشكر مِصر على دعمها وأشكر الرئيسَ السيسي على دعمه للبنان واستقراره، وإنْ شاء الله يكون عيد الاستقلال غداً (اليوم) في لبنان عيداً لجميع اللبنانيين. وكما قلت في باريس فإنّني سأعلن موقفي السياسي في لبنان، ولن أتحدّث الآن في السياسة».
وقد عرّج الحريري الى قبرص في طريق عودتِه من القاهرة الى بيروت حيث التقى الرئيس القبرصي نيكوس أناستسياديس وعرَض معه الأوضاع العامة وآخرَ التطورات في لبنان والمنطقة.
وفي هذه الأثناء تلقّى عون مساء أمس اتّصالاً هاتفياً من السيسي، وشكرَه على الاهتمام الذي أبداه في معالجة الأزمة التي نشأت بعد إعلان الحريري استقالته «وتمّ التأكيد خلال الاتصال على أهمّية المحافظة على الاستقرار السياسي والأمني في لبنان» .
مساعٍ فرنسية
وكانت الجهود قد انصبّت طوال الايام الثلاثة الماضية على خلقِ مناخ جديد وحلِّ الأزمة القائمة، وتولّت الديبلوماسية الفرنسية هذه المساعي، سواء من خلال الرئيس ايمانويل ماكرون شخصياً أو من خلال وزارة الخارجية وسفراء فرنسا في المنطقة، إضافةً الى الامم المتحدة والولايات المتحدة.
وعلمت «الجمهورية» من مصادر ديبلوماسية انّ الاتصال الذي أجراه ماكرون بنظيره الايراني الشيخ حسن روحاني «كان إيجابياً، لكنّ الجانب الفرنسي يريد ضمانَ المرشد الأعلى للثورة الاسلامية السيّد علي خامنئي الذي يمسِك بالقرار الايراني في المنطقة».
وقالت هذه المصادر إنّ السفير الفرنسي في طهران «تمكّنَ من الاطّلاع على الموقف الايراني الحقيقي وهو انّه لا يتدخّل في شؤون «حزب الله» وعلى الحزب ان يقرّر مدى ضرورة مشاركتِه في حروب المنطقة ضد الإرهاب أو الاكتفاء بالساحة اللبنانية ضد إسرائيل فقط».
وأضافت المصادر: «لكنّ الجانب الاميركي لم يثِق بالموقف الايراني هذا واعتبَره تنصّلاً من مسؤولية الضغط على «حزب الله» للانسحاب، على الأقلّ من اليمن، لكي تتمكّن المملكة العربية السعودية من القبول بعودة الحريري عن استقالته» .
وفي وقتٍ وصَف روحاني «حزب الله» بأنه «جزءٌ من الشعب اللبناني ويتّسِم بشعبية كبيرة للغاية وسلاحُه ذات طبيعة دفاعية فقط ويُستخدَم في الهجمات الاحتمالية على لبنان»، أملت فرنسا في أن يتخلى الحزب عن سلاحه وأن يلتزم بقرارات مجلس الأمن الدولي.
وقالت الناطقة باسم الخارجية الفرنسية آنييس روماتيت أسبانييه، في بيان: «إنّ مطالب فرنسا في شأن «حزب الله» معروفة، نحن ننتظر من «حزب الله» أن يضع سلاحه جانباً وأن يتصرّف كحزب يحترم سيادة الدولة اللبنانية وفقاً لقرارات مجلس الأمن»، وأضافت: «الحفاظ على الاستقرار في لبنان يتطلّب أن ينأى «حزب الله» بنفسه عن التوتّرات في المنطقة».
وتابعَت: «في هذا الوضع الحسّاس نحن نكمِل سياستنا في الحوار مع جميع الأحزاب اللبنانية ونشَجّعها على الاتفاق على حسنِ سير عجَلة مؤسسات الدولة الذي يعَدّ عاملاً رئيسياً للاستقرار». واعتبرَت أنّ تدخّلَ «الحزب» في النزاع السوري «يمثّل أمراً خطيراً»، مذكّرةً بـ»ضرورة احترامِ أمنِ الخط الأزرق والحدود مع إسرائيل».
بوتين ـ الأسد
من جهةٍ ثانية، كان الحدث الإقليمي والدولي البارز القمّة الروسية ـ السورية المفاجئة في سوتشي أمس الاوّل بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشّار الأسد، والتي أُعلن عنها أمس وجاءت عقبَ إعلان المحور الروسي ـ الايراني ـ السوري، و«حزب الله» استطراداً انتهاءَ دولة «داعش»، بالانتصار عليها في مدينة البوكمال آخر معاقلها في سوريا.
وسبقَت هذه القمّة الثنائية القمّة الثلاثية الروسية ـ الايرانيةـ التركية المقررة في سوتشي اليوم للتحضير لحوار سوري ـ سوري لحلّ الأزمة السورية، كذلك جاءت قمّة بوتين ـ الأسد قبَيل انعقاد اجتماع المعارضة السورية في الرياض وسط سلسلة استقالات لكبار قادتها، ما حدا بمصدر ديبلوماسي عربي الى القول: «إنتظرنا سقوط النظام، فإذ بالمعارضة تسقط».
وتشير مجملُ هذه المعطيات الى انّ تسوية الأزمةِ السورية تنطلق من المعبَر الروسي، في وقتٍ لا تزال الولايات المتحدة الاميركية تُراهن على أنّ حصول هذه التسوية يتمّ في إطار مؤتمر جنيف الذي ترعاه وروسيا.
ويُنتظر أن يكون لهذه التطورات انعكاس معيّن، وربّما إيجابي، على الوضع اللبناني من زاويتين: الأولى، موضوع النازحين السوريين، حيث باتت عودتهم الآمنة متوافرة طالما إنّ النظام السوري يسيطر على 90 في المئة من المناطق السورية الآهلة.
والثانية، مصير دورِ «حزب الله» خارج الحدود اللبنانية، إذ إنّ انطلاق التسوية في سوريا يعني تراجُعَ المعارك العسكرية وبالتالي لا ضرورة لبقاء قوات غير سوريّة على أرض المعركة.
والواقع نفسُه بدأ ينطبق على العراق، حيث إنّ تطبيع الوضع فيه جعلَ دور «حزب الله» من الكماليات هناك، وهو أمرٌ ألمحَ إليه الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله امس الاوّل حين قال «إنّ العراق قد لا يعود يحتاج إلى قواتنا هناك».
مصادر بكركي
على صعيدٍ آخَر، أكّدت مصادر بكركي لـ«الجمهورية» أنّ «البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يتابع من الفاتيكان مجرَيات الأزمة اللبنانية، وهو على تنسيق مع الجميع». وأشارت إلى أنّ «الراعي لن يتوجّه الى باريس للقاء الرئيس الفرنسي قبل عودته الى لبنان، لكن لا شيء يَمنع حصولَ مِثل هذه الزيارة قريباً، خصوصاً أنّ التواصل بين بكركي وفرنسا مستمرّ ولم ينقطع يوماً».