اللافت أن اللبنانيين غارقون في أزمات تفتقر الى المعالجات الجديّة، وتغيب عن بال السلطة همومهم ومعاناتهم، وقدّ شكّل يوم أمس صورة مستنسخة عما يحصل كل يوم على الطرق من جونية وصولاً الى بيروت وبالعكس وعلى بقية مداخل العاصمة التي تكاد تكون أشبه بمرآب كبير للسيارات في غياب أي خطة تنقذ المواطنيين الذين يحتجزون في سياراتهم كل يومً، فيما الأزمة تبدو الى تفاقم.
من جهة ثانية، وبصرف النظر عمّن يقول انّ في ملف الكهرباء هدراً وسرقة، وعمّن يقول انّ فيه صدقاً وامانة وحرصاً على اخراج لبنان من أزمته الكهربائية، فالملف يعدّ واحداً من السقطات المتتالية التي سببتها الذهنية الحاكمة، وحوّلت السلطة مجموعة محاور تصارع بعضها وتتسابق على من يغرف اكثر من مغارة المكاسب، فيما اولويات الناس تُركن على رف الوعود بمقاربتها، وثبت انها لم تمتّ الى المصداقية بصِلة، بدليل انّ البلد في تراجع خطير، والناس ما زالت تئن من الوجع الاقتصادي والحياتي والمطلبي والبيئي.
بالتأكيد انّ ملف الكهرباء، الخلافي حالياً، لا يستبعد ان يمرّ كما مرّ قبله غيره من الملفات، في لحظة مصلحية، او لحظة محاصصة بين اهل السلطة، وثمّة كلام كثير حول محاصصة جديدة يُحضّر لها في بعض التعيينات والتشكيلات ذات الطابع الاداري والديبلوماسي.
امام هذا الواقع، راهن المواطن على الانتخابات النيابية لعلّها تنتج سلطة بديلة يمنحها ثقته، فتضع همومه على خشبة الخلاص منها، الّا انّ السلطة الحاكمة تقطع عليه طريق الحلم، عبر سعيها الى إعادة انتاج نفسها وبالتالي تحكمها بالبلد، عبر تحالفات هجينة بين التناقضات على طريقة «من كل وادي عصا»، وعبر تسخير أجهزتها في خدمة انتخاباتها، وعبر ارتكابات ومخالفات فاضحة والاستقواء على الناس ومنعهم من رفع شكواهم ممّا يرتكب في حقهم من ضغوط وتهديدات.
يضاف الى ذلك، محاولات الرشاوى التي يسعى بعض اهل السلطة الى تسييلها في صناديق الاقتراع، عبر محاولة التعاطف المفتعل والمفضوح مع قضايا ذات طابع إنساني، او الشراكة في بكائية مكشوفة حول قضايا قضائية أثيرت حولها شبهات وتلفيقات لملفّات سقط فيها بعض الاجهزة الامنية، او عبر طرح ملفات شديدة الحساسية كالحديث عن قانون عفو عام في توقيت إنتخابي مريب، وتقديمه للناس بطريقة تستبطن محاصصة بين اهل السلطة، او إثارة مواضيع كالسماح للأم اللبنانية المتزوجة من اجنبي من غير دول الجوار بإعطاء الجنسية لأولادها، اضافة الى بدعة جوازات سفر للمغتربين، أثيرت شكوك في إمكان تمكنهم من المشاركة في الانتخابات.
هذه الصورة المشوّهة، تتواكب مع إغماض السلطة عينها على ضغوط وتهديدات محسوبين على نافذين في الحكم ضد مواطنين وفعاليات، وتركز خصوصاً على مجموعات معينة من رؤساء البلديات بفتح ملفات مشبوهة ضدهم وارتكابات قاموا بها، وهو أمر يدين من يمارس الضغوط، إذ لو صحّ وجود مثل هذه الملفات، فلماذا تُركت حتى الآن، ولماذا تمّ التستّر على الجريمة كل هذا الوقت؟
في اي حال، الحماوة تتزايد على الحلبة الانتخابية، فيما أقفل امس باب التراجع عن الترشيح. امّا اللوائح الانتخابية فتقف على مسافة ثلاثة ايام من انتهاء مهلة إعدادها. ويبقى حبل الانتخاب يشدّ على عنق العلاقات السياسية، التي انقسمت بين توجّه لدى قوى معينة من نسج تحالفات هجينة تخلط المبادىء بالمصالح، وهو ما بَدا جلياً في الكثير من التحالفات، التي رُكِّبت مصلحياً بين قوى سياسية متناقضة.
وبين توجّه نحو التحالف المحدود والموضعي بين قوى اخرى، وهو ما وَتّر علاقات بعض القوى، ويجري التعبير عن ذلك في حملات إعلامية واتهامات قاسية، على غرار ما يحصل بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، على خلفية بعض المسائل ومنها ملف بواخر الكهرباء الذي انتقده نائب «القوات» انطوان زهرا، وتناول بكلام قاس وزير الطاقة سيزار ابي خليل من دون ان يسمّيه، ليرد عليه ابي خليل بتغريدة بالقساوة نفسها.
«الكتائب» ـ «التيار»
وفي إطار التحالفات غير المفهومة وغير المنطقية في المتن، لوحظ انّ حزب الكتائب فتح النار على «التيار» وخصوصاً على النائب ابراهيم كنعان، تحت عنوان: «في المتن… كنعان على لائحة السوري القومي!»
فقد انتقد موقع الحزب الالكتروني «مفاخرة» كنعان «بمناهضته للاحتلال السوري»، معتبراً انه «يخوض المعركة الانتخابيّة بلائحة فيها 3 مرشحين قوميين سوريين او قريبين من الفكر القومي، وهم: كورين الاشقر، غسان الاشقر والياس بو صعب الذي يفاخر بفكره القومي»، وانّ عدد المرشحين القوميين على لائحة كنعان يجعل منها لائحة الحزب السوري القومي اكثر منها لائحة «التيار».
وسأل: «هل المعركة الانتخابية تقتضي ذوبان فكر «التيار» و«القومي السوري»؟ ام باتت هناك وحدة حال بين «التيار» والنائب كنعان من جهة والقومي من جهة أخرى لا بدّ منها للوصول الى مجلس النواب بأيّ ثمن»؟ ولاحظ انّ نواباً غابوا عن ترشيحات «التيار» وجرى استبدالهم «بمرشّحين قوميين او يدورون بالفلك القومي السوري من دون أي تبريرات مقنعة للناخبين، ما جعل الباب مفتوحاً على مصراعيه لتكهّنات كثيرة، وكأنّ هدف «التيار» بات العدد، بعيداً عن الثوابت والمبادئ التي بيعت بثلاثين من الفضّة».
بكركي
وأكدت مصادر بكركي لـ«الجمهورية» أنها تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين، خصوصاً في المناطق المسيحية، ولا تدعم أحداً على حساب الآخر».
ونفت أن «يكون البطريرك مار بشارة بطرس الراعي قد تدخّل أو يتدخّل في تأليف اللوائح، فالصرح البطريركي هو لجميع أبنائه، وبكركي ترفض الدخول في زواريب العملية الإنتخابية».
«سيدر»… إضبارة اتهام
على صعيد آخر، أثبتت السلطة مجدداً انها لا تمتهن الّا الهروب الى الامام من واقع اسود، الى محاولة تكبير الطموحات والاحلام التي رسمتها الحكومة، والقول إنّ المؤتمرات الدولية ستغرق لبنان ووضعه الاقتصادي والمالي الخطير، بالمنّ والسلوى. وشكلت جلسة مجلس الوزراء مناسبة لها للتمجيد بالمؤتمرات والحديث عن مردوداتها على لبنان، لكن حقيقة الامر، انّ ذلك لا يبدو اكثر من إبر مسكّنة للوجع.
فتطمينات رئيس الحكومة سعد الحريري حول مؤتمر «سيدر» بَدت بمثابة إدانة واضحة للدولة وللفساد المستشري. فقد اعتبر انّ المشاريع التي سيجري التوافق عليها ستكون تحت متابعة البنك الدولي ومراقبته، وستتم بشفافية مطلقة وهذا مهم جداً بالنسبة الى الحكومة والافرقاء والمنظمات التي ستتولى تمويلها، وتحدّث عن اتفاق مع الجانب الفرنسي لاستحداث جهاز لمتابعة المشاريع يضمّ ممثلين عن الدولة والمستثمرين وذلك حرصاً على تحقيقها من دون ايّ خلل او خطأ، وضماناً لمكافحة الفساد الذي يعيق عادة المضي في مشاريع استثمارية كبيرة.
ولفت الى أنه سبق لمجلس النواب أن أقرّ مشاريع تحتاج الى تنفيذ، وانّ الصناديق العربية والدولية راغبة في التفاوض مع لبنان لتنفيذ هذه المشاريع التي يمكن ان يبدأ البحث بها قبل مؤتمر باريس».
هذا الكلام هو في حد ذاته بمثابة إضبارة اتهام مفادها انّ المسؤولين في الدولة فاسدون، ولا يمكن إقرار اي مشروع بلا سمسرات ونهب وسرقة. وبالتالي، الحل الوحيد لمنع السرقة فرض رقابة خارجية على هؤلاء. والحديث عن مشاريع أقرّها مجلس النواب وتحتاج الى تنفيذ يعطي فكرة عن مدى تفشّي الفساد، الى حد إهمال المسؤولين لهذه المشاريع لأنها مموّلة ومراقبة من الصناديق المموّلة، وبالتالي لا سمسرات فيها، ولذلك أُهملت وبقيت حبراً على ورق.
وشهدت الجلسة نقاشات ساخنة جداً بعدما عرض الحريري وفريقه من مستشارين ومن مجلس الانماء والاعمار، برنامج الانفاق الاستثماري، مُعتقداً بأنّ ورقة البرنامج «خطة العصر»، وانّ كل الوزراء سيصدقون عليها بعد اطلاع عرضي عليه او بعد مناقشات عابرة، لكنّ الرياح جرت عكس ذلك اذ استفاض عدد كبير من الوزراء في نقاش الورقة والتمعّن بها فحصدت اعتراض الغالبية (حتى من فريق الحريري وحلفائه) التي رأت فيها خطة غير متكاملة تغيّب قطاعات، وفيها التزامات مالية كبيرة من قروض سترتّب على لبنان أعباء كبيرة.
وانتقد الوزير جبران باسيل الخطة بشراسة واقترح التريّث لتعديلها وإعداد خطة متماسكة اكثر يذهب بها لبنان الى المجتمع الدولي.
ورأى الوزير علي حسن خليل انّ البرنامج يحتاج الى تحديد اهداف المشاريع وتوضيح السياق المطروحة فيه، خصوصاً انها ترتكز على آلية التمويل الميسّر. ودعا الى التدقيق بالآلية، ولفت الى المطالبات الدولية بأخذ اجراءات جدية لتخفيض حجم الدين وخدمته وتوضيحات حول الفوائد ونسبتها من الناتج المحلي.
وقال خليل لـ«الجمهورية»: «أبديتُ ملاحظاتي على المشاريع والاولويات والحاجة الى التدقيق بها، واقترحتُ تضمينها الاصلاحات المطلوبة بعد نقاشها بتأثيراتها السلبية والايجابية. وافقنا على عرض هذه المشاريع على مؤتمر باريس، لكن يجب ان نعود بها الى مجلس الوزراء بكل خطوة وعند إقرار كل مشروع». واعترض خليل على بند داخل البرنامج يقضي بتوظيف 70 بالمئة من النازحين السوريين، فوافقه معظم الوزراء باعتبار انه وَجه جديد من أوجه التوطين والابقاء على النازحين.
ولاحظ الوزير غسان حاصباني سقطوط قطاعات اساسية من الخطة، ودعا الى ربطها برؤية اقتصادية واضحة والى القيام بإصلاحات بنيوية كبرى بتطبيق القوانين المتاحة، منها الخصخصة في الاتصالات وإصلاح الكهرباء والشراكة مع القطاع الخاص، وطالبَ بتطبيق السلسلة على موظفي المستشفيات الحكومية.
وقال الوزير غطاس خوري انّ الاستثمار في القطاع الصحي لا يأتي بمردود اقتصادي، ويندرج تحت شبكة الأمان الاجتماعية.
فأكّد حاصباني انّ مردود السياحة الاستشفائية والتعليم على النمو الاقتصادي كبير جداً، وانّ الخطة رَصدت مبالغ مطلوبة لقطاعات كثيرة منها الثقافة، ولم تلحظ التعليم والتربية رغم طلب «القوات» الاستثمار فيهما. واعتبر انها خطة غير كاملة وتتطلب المزيد من العمل لأنّ الهدف هو النهوض بالبنى التحتية، وتحدث عن مبالغة في التوقعات.
وسأل الوزير مروان حمادة عن عدم إدخال القطاع التربوي في الخطة، وقال انها خطة غير مُنزلة ولا تلزم الحكومة بشيء.
واستاء الحريري كثيراً من صخب النقاش، خصوصاً ممّن يعتبرهم حلفاءه، وبَدا هذا الاستياء واضحاً على وجهه وخاطب الوزراء قائلاً: «الخطة ستقرّ اليوم ولن اذهب الى باريس من دونها».
واقترح خليل إضافة بند الى البرنامج يعود فيه القرار الى المجلس في دراسة وإقرار المشاريع، ووضع الاولويات وفق نتائج المؤتمر والاتصالات مع الجهات المختصة وفق الاصول الدستورية، خصوصاً انّ هناك قروضاً تحتاج الى قوانين وتشريع في مجلس النواب.