لا يختلف اثنان في هذا البلد على انّ الوضع الاقتصادي متأزم الى حدّ انه يتأرجح على حافة هاوية خطيرة. ولا يختلف اثنان ايضاً على انّ الممسكين بزمام السلطة، متهمون، الى أن يثبت العكس، بأنهم متواطئون، في إيصال البلد الى الدرك الاسفل. فيما هم يعرفون انّ هذا الوضع المتأزم صار في أمَسّ الحاجة الى جرعة منشطات تنفخ فيه بعض الحياة، او حتى الى قشّة يتشبّت بها لكي لا يغرق أكثر.
الخزينة شبه خاوية، وهذا لسان حال أهل السياسة كلهم، قبل الخبراء في المال والاقتصاد، ومن الطبيعي امام هذا الوضع ان تتصاعد شكاوى الناس، وأن يجاهروا بخوفهم من المجهول الذي يكمن لهم اذا ما استمر هذا المسار الانحداري من دون ان تبادر يد إنقاذية وتلتقطه قبل فوات الأوان، ولكن ما هو غير طبيعي أن تتصاعد شكوى العالم من العقلية التي تحكم لبنان، وترفض، ان تتلقّف اليد التي تمتد لتقديم المساعدة ورفد الخزينة بما يغذيها وينعش الاقتصاد ببعض الهواء.
هو وضع شاذ، محيّر للخارج قبل الداخل، وفيه تتزاحم الاسئلة عن سرّ هذا الرفض، وموجباته، والغاية منه، هل هو مقصود؟ هل هو ناجم عن جهل؟ او عن عجز؟ او عن قصور؟ أو عن تقصير؟ او عن كيد؟ او عن مزايدة؟ او عن رغبة في سمسرة وعمولات؟ أو عن اشتراط تحديد حصة مسبقة لهذا وذاك من النافذين وأصحاب الأمر؟
مناسبة هذا الكلام، زيارة وفد البنك الدولي الى بيروت في الساعات الماضية، والتي بَدت انها تذكيرية بأنّ لبنان مقصّر في حق نفسه، لا بل ظالم، خصوصاً عندما تتبدّى حقيقة عبّر عنها مطّلعون على اجواء زيارة الوفد مفادها «يبدو انّ قلب الخارج على لبنان، وقلب المسؤولين فيه على الحجر»!
ملياران ينتظران
فزيارة وفد البنك الدولي الى بيروت، كانت لافتة للانتباه في توقيتها كما في مضمون الرسائل التي حملها الوفد الى المسؤولين. وخلاصتها «آن الأوان لتنقذوا بلدكم».
وتأتي الزيارة بعد تحركات قام بها ممثلو البنك الدولي في لبنان في الفترة الاخيرة، لإقناع السلطات اللبنانية بضرورة الاسراع في استخدام الاموال المخصصة من قبل البنك للبنان، والتي تقدّر بحوالى ملياري دولار.
وقد ترأس الوفد، نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا فريد بلحاج، المعروف عنه أنه يعرف لبنان جيداً. إذ سبق له ان عايَش الأزمة نفسها عندما كان يشغل منصبه في بيروت، وكان يشكو من إهمال الوزارات المختصة تنفيذ مشاريع مؤمن تمويلها من البنك الدولي. وهو يعود اليوم الى لبنان، إنطلاقاً من منصبه الجديد، لمتابعة الملف نفسه والمتعلّق بتقاعس السلطات اللبنانية في استخدام اموال مخصصة لمشاريع إنمائية وبنى تحتية، ويمكن ان يخسرها لبنان اذا لم يستخدمها في الفترة المحددة لذلك.
وقد التقى بلحاج في زيارته امس، كلّاً من رئيس الجمهورية ميشال عون، رئيس المجلس النيابي نبيه بري، رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ووزير المالية علي حسن خليل.
وفي معرض ردّه على الاسئلة، أشار بلحاج بوضوح الى انّ الوضع الاقتصادي في لبنان دقيق، لكنه طمأن الى انه «ليس هناك خوف» من الانهيار.
بعبدا
وقالت مصادر واسعة الإطلاع لـ«الجمهورية» انّ وفد البنك الدولي لفت نظر كبار المسؤولين الى مصير القروض الممنوحة الى لبنان من ضمن المحفظة المالية المخصّصة له. وانّ رئيس الوفد لفتَ رئيس الجمهورية، خلال لقائه في قصر بعبدا، الى انّ محفظة المليارين من الدولارات المخصصة للبنان ما زالت محفوظة له. ولكنه أشار الى انّ سلة من هذه القروض التي تقّدر بحدود مليار و200 مليون دولار من اصل المليارين ما زالت تنتظر إقرارها في مجلس النواب، بعدما أقرت في المؤسسات المختصة.
وبحسب المصادر، فإنّ رئيس وفد البنك الدولي أبلغ رئيس الجمهورية انّ لبنان يستطيع ان يغيّر وجهة استخدام هذه القروض الميسرة وتخصيصها لأيّ هدف آخر غير الوجهة المحددة سلفاً. كأن تنقل مثلاً من قطاع الى آخر وفق أولويات لبنان وحاجاته التي تقدرها السلطات المعنية في هذه المرحلة.
وعما اذا كان الوفد قد حدد مهلة معينة للبت بسلة القروض هذه، قالت المصادر «انه لم يحدد اي مهلة معينة». ولكنه لفت الى الإسراع بها لتكون في خدمة لبنان، وخصوصاً إذا كانت ستتغير وجهة استخدامها في قطاعات إنتاجية، كما أشار رئيس الجمهورية عندما أبلغه انّ لبنان يتجه بعد الإنتخابات النيابية الى تنفيذ «إصلاحات اقتصادية تساعد على تحقيق النهوض الاقتصادي المنشود وتفعيل قطاعات الانتاج».
وانتهى الوفد الدولي الى توجيه دعوة صريحة الى ملاقاة لبنان للمجتمع الدولي بخطوات تعهّد بها ليحظى بالدعم المقرر في المؤتمرات الدولية، ومنعاً من ان تتبخّر بعض الوعود التي تمّ ربطها ببعض الإصلاحات مهما كانت قاسية ولا سيما تلك التي تتصل بمكافحة الفساد والحد من تنامي الدين العام وكلفته الباهظة تغزيزاً للثقة التي يحتاجها لبنان.
عين التينة
وعلمت «الجمهورية» انّ عرضاً مستفيضاً أجراه الوفد مع رئيس مجلس النواب، الذي استغرب عدم المبادرة من الاستفادة من هذه الفرصة السانحة لإنعاش الاقتصاد. وهو الأمر الذي انطلق منه بري ليشدّد مجدداً على تشكيل الحكومة في اقرب وقت ممكن، وان كل تأخير يحمل المزيد من الأذية للبلد واقتصاده.
ولم يرَ بري أمام زواره، مبرّراً لهذا التأخّر المستغرب في الاستفادة من هذه الفرصة، فعدم تأليف الحكومة أحد العوامل الاساسية لهذا التاخير. لدى البنك الدولي محفظة للبنان بما يزيد عن ملياري دولار، الجزء الاساس من هذين المليارين مخصّص لقطاع الكهرباء. وصار اكثر من مُلحّ ان يُعمل على إنقاذه، ومن هنا نحن قلنا في السابق انّ موضوع بواخر الكهرباء هو عبء على البلد وعلى الخزينة وليست الحل ابداً، في الماضي كنّا ضد البواخر، وصوّتنا ضدها، والآن نحن ضد البواخر، وسنبقى ضدها».
نصائح
واللافت في اللقاء هو النصيحة التي أسداها الوفد بوجوب ان يستجيب لبنان لهذا الدعم ويقوم بما عليه للافادة منه في القطاعات التي يحتاجها، ولعل الخطوة الاولى هي تشكيل حكومة تقوم بما عليها حول هذا الامر، وهي نصيحة، قالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» انها تتقاطع مع سلسلة نصائح يتلقّاها لبنان من جهات خارجية، وغربية على وجه الخصوص للإسراع في تشكيل الحكومة، وهذا ما لمسناه من وفد البنك الدولي الذي يربط كل ما هو مقرّر للبنان بتشكيل حكومة تعمل، وتقوم بالمطلوب منها لإنعاش اقتصاد بلدها، خصوصاً انّ كل تأخير يُراكم اضراراً كبرى قد يصل من خلالها لبنان الى وضع لا يعود في مقدوره تحمّلها او حتى الحد منها وإيجاد العلاج لها. وخلاصة الامر، تقول المصادر الوزارية، انّ الوضع غير مطمئن إذا استمر على هذا النحو.
الحكومة
حكومياً، نثر التأرجح المستمر بين التفاؤل حيناً والتشاؤم حيناً آخر، المزيد من الغبار على خط التأليف، بحيث صارت الرؤية منعدمة لِما ستؤول اليه الامور، خصوصاً مع انقطاع حبل التواصل بين القوى السياسية، ومع تأخّر اللقاء بين الرئيس المكلف ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل. الذي جرى الترويج له بعد لقاء الرئيسين عون والحريري منتصف الاسبوع الماضي.
هذا الجمود السلبي، لا جواب واضحاً حول اسبابه، لدى ايّ من المعنيين بهذا الملف، وهو الامر الذي أحدث نقاشاً على خط التأليف، البارز فيه انّ التركيز لم يعد فقط على محاولة البحث عما اذا كان مصدر التعطيل داخلياً، بل صار البحث جدياً عمّا اذا كان العامل الخارجي شريكاً في هذا التعطيل.
بري: خلص الكلام
ويبرز هنا ما قاله بري امام زواره امس، حيث اكد ان لا جديد على الاطلاق في موضوع الحكومة، الأمور على حالها ولا يوجد اي تقدم.
وسئل بري: اين هي العقد؟
اجاب: وأين لا توجد عقد، وهل هي عقدة واحدة؟
وسئل بري عمّا اذا كان تعطيل الحكومة جرّاء عامل خارجي، فأجاب ممازحا: حتى الآن انا أصارع نفسي لكي لا اصدّق انّ هناك عاملاً خارجياً.
سئل: ما العمل إذا؟ وهل يمكن الاستمرار على هذا النحو؟
فأجاب ممازحاً: «مش عارف»، لم يعد هناك كلام يقال، حتى الكلام «خلص»، والصدق «خلص»، وحتى الكذب «خلص»، شو بعد في ما بعرف»؟
جواب سلبي
وفيما تحدثت مصادر عين التينة عن تواصل يحصل باستمرار بين الرئيس بري مع الرئيس المكلف عبر الوزير علي حسن خليل، عكست مصادر مواكبة لنتائج لقاء الرئيسين عون والحريري، أجواء تشاؤمية، وقالت لـ»الجمهورية»: منذ ان أشاع الرئيس المكلف جو التفاؤل خلال الاسبوع الماضي، لم يبرز اي معطى لا في بيت الوسط ومن جانب رئيس الجمهورية او باسيل يترجم هذا التفاؤل بولادة حكومية قريبة.
وقالت المصادر انّ الحريري انتظر جواباً من باسيل، والجمود السلبي الحالي قد يكون مردّه الى انّ الحريري تلقى جواباً سلبياً بصورة مباشرة وغير مباشرة، من باسيل، علماً انّ الحريري وبحسب الاجواء التي شاعَت بعد لقائه عون منتصف الاسبوع، اتفق مع رئيس الجمهورية على بعض المسائل المتصلة بالحقائب والحصص، على ان يُصار الى بحثها مع باسيل.
التيار: باسيل لا يتدخل
الى ذلك، جددت مصادر تكتل «لبنان القوي» دعوتها الرئيس المكلف الى اعتماد معيار واحد للتأليف، ولاحظت «انّ هذا المطلب لم يعد مقتصراً على «التكتل» بل انسحب على تكتلات أخرى باتت تطالب بوحدة المعايير».
واكدت المصادر لـ»الجمهورية» انّ باسيل لا يتدخل في عملية التأليف، وانه ابلغ الرئيس المكلف خلال الاجتماعات التي عقدها معه بما يطمح اليه «التكتل» من دون ان يتمّ البحث في مطالب التكتلات الاخرى.
وسألت المصادر لماذا تفسير عدم حصول لقاء الحريري – باسيل، لأن لا جديد في عملية التشكيل، وكأنه انقلاب على الأجواء الإيجابية التي سرّبت، مُستغربة انطلاق البعض من عدم حصول هذا اللقاء للتصويب على «التكتل» ورئيسه واتهامهما بعرقلة التأليف، وهو أمر مجاف للحقيقة. علماً انّ التواصل بين المستقبل والتيار قائم ومستمر.
بكركي: «مثل شباط»
الى ذلك، قالت مصادر بكركي لـ»الجمهورية»: «يبدو أنّ مسألة تشكيل الحكومة مثل حال الطقس في شهر شباط، فتارة نسمع أن التشكيلة باتت قريبة، ومرّة أخرى نسمع أنها تأخّرت وتعرقلت، فيما البلد يرزح تحت وطأة الأزمات».
واوضحت المصادر أنّ «النبرة العالية للبطريرك الراعي في انتقاد الطبقة السياسية نابعة من معاناة الناس ووجعهم وحجم المشاكل الكبرى التي تصادفهم، فيما السياسيون لا يبالون ولا يتحرّكون لتأليف الحكومة وإجراء الإصلاح المطلوب».
وأضافت: «انّ بكركي ترفع الصوت عالياً في وجه كل المعرقلين ولا تصوّب على أحد او تستثني أحداً، فالوطن والمواطن في خطر ولا ينفع الدلع وتأخير الولادة الحكومية، وإلّا يصبح الإنهيار محتماً».