ينتقل الواقع السياسي في البلاد من مرحلة التجاذب السياسي إلى مرحلة التشنّج السياسي، الأمر الذي ينعكس على الحياة العامة، ولا سيّما منها الاقتصادية والمالية. وقد شهدت الساعات الـ24 الأخيرة بداية سباق بين القوى السياسية، بما فيها رئاستا الجمهورية والحكومة، حول من يسبق الآخر؟ نفادُ مفعول المادة 59 من الدستور؟ أم وضعُ قانونٍ انتخابي جديد؟
لا تزال مصادر الرئاسة الأولى تبدي تفاؤلاً بالوصول إلى قانون قبل 15 أيار، ولكن ما يُضعف هذه الثقة هو ارتفاع حدّة المواقف، إذ تساءلَ مصدر سياسي رفيع لـ«الجمهورية»مساء أمس: «إذا كان التفاؤل في محلّه فلماذا المواقف العالية؟
وقال «إنّ المواقف الصادرة عن أكثر من طرف قد تؤدّي إلى مضاعفات يَصعب السيطرة عليها في الأسابيع المقبلة، إذ إنّه للمرّة الثانية يُشحن الرأي العام والشارع من دون تقديم حلول على صعيد القانون الانتخابي الجديد من جهة، أو استعمال صلاحيات إضافية من جهة ثانية».
ومقابل ثلاثية لاءات رئيس الجمهورية العماد ميشال عون: «لا للتمديد، لا لقانون الستّين ولا للفراغ»، برَزت ثلاثية أخرى: «إمكانية قانون التأهيل، إمكانية قانون النسبية، وإمكانية العودة إلى قانون الستّين». ويدور تجاذُب حول هاتين الثلاثيتَين من دون وجود أفقٍ واضح حتى الساعة.
واللافت أنّ في مقابل تأكيد عون عدمَ العودة إلى قانون الستين فإنّ عدداً من زوّار بعبدا في الأيام المنصرمة لم يلمسوا رفضاً مطلقاً لهذا «الستّين» على أساس «لا حول ولا قوة»، على رغم أنّ رئيس الجمهورية يرفضه ويعتبره قانوناً مجحفاً في حق، ليس المسيحيين فحسب، بل في حقّ الحالة الميثاقية في البلاد.
وقد جاءت تغريدة النائب وليد جنبلاط عبر «تويتر» لتؤكّد هذا المنحى، إذ سأل: «لماذا حملة التضليل من بعض المراجع؟». وقال: «ليس هناك تمديد إلى أن يتّفق على قانون جديد، هناك قانون ١٩٦٠ وفق الدوحة ووفق الدستور».
لكنّ البارز في هذه الحالة الآن هو النزاع المفتوح والذي أخَذ منحى جديداً أمس بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثانية، إذ إنّ عون وجَّه انتقاداً مباشراً لتقاعسِ المجلس النيابي منذ «إتفاق الطائف» حتى اليوم، ولفتَ إلى الصعوبات التي تواجهها الطبقة الحاكمة في وضعِ قانون انتخاب جديد، وقال: «مع الأسف، يتمّ التعامل مع هذا الأمر عبر ذهنيات كانت وضَعت كافة قوانين الانتخاب السابقة والتي يلزمها تغيير، ونحن نطالب بتغييرها، ما يتطلّب بعضَ الوقت، لكنّنا سنصل إلى نتيجة.»
وتساءَل عون: «إذا لم يتمكّن المجلس النيابي من وضع قانون انتخابي جديد منذ 9 سنوات، أي منذ العام 2008 حتى اليوم، فماذا يستطيع أن يفعل؟ هذا أمرٌ غير مقبول إطلاقاً. لقد أصبحت ولاية المجلس النيابي الحالي أشبَه بولاية ملك». وقال: «مِن الجيّد أنّنا حقّقنا وحدتنا الوطنية، لكن هذه الوحدة لها ركائز عدة، ومنها تنفيذ اتّفاق الطائف. وعلى قانون الانتخاب الجديد أن يحترم مضمون بندِ اتفاق الطائف المتعلق به».
كذلك تساءَل: أين أصبحت الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية؟ أين هي التدابير التي ستلغي الطائفية؟ فهي غير موجودة لا في قانون الانتخابات الحالي، ولا في النظام التربوي، أو في نظام المؤسسات الاجتماعية والفكرية التي من شأنها التحضير لهذا الموضوع وإلغاء التمييز بين المواطنين الذين سيشعرون حينها أنّهم مواطنون وليسوا طوائف».
ورأت مصادر سياسية أنّ النزاع بين الرئاستَين الأولى والثانية لا بدّ من أن يترك آثارَه السلبية على السعي لوضعِ قانون انتخاب جديد.
في هذا الوقت، بقيَت حركة الاتصالات في شأن الملف الانتخابي معطّلة بكاملها، وخجولة بين بعض المقارّ الرسمية والسياسية، من دون أن يَبرز أيّ تقدّم يُذكر على هذا الصعيد.
وفي هذا السياق علمت «الجمهورية» أنّ الأسبوع المقبل قد يشهد سخونةً على صعيد الاتصالات والمشاورات، خصوصاً في ظلّ مبادرة انتخابية جديدة سيُطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري.
وتعليقاً على الموقف الأخير لرئيس الجمهورية من أن «لا أحد يَحلم لا بالتمديد ولا بالستّين ولا فراغ»، قال بري لـ»الجمهورية»: «كلام الرئيس عون جيّد، وخصوصاً لناحية تأكيده أن لا فراغ».
وعندما قيل لبري إنّ الاجتهادات القائلة أن لا فراغ مجلسياً، خصوصاً وأنّ المادة 74 من الدستور ترعى هذا الفراغ، أجاب: «الدستور واضح، وهذا النوع من الاجتهادات والتفسيرات، ليس أكثر من هرطقة، بلا أيّ معنى، وأنا أردّ على أصحاب هذه الاجتهادات بقولي لهم إنّهم يعرفون بالدستور والقانون، بمقدار ما أنا أعرف وأفهم بالقنبلة النووية».
وقال بري: «لقد عكفتُ خلال الأيام القليلة الماضية على إجراء اتّصالات ومشاورات مع القوى السياسية، وهناك أطراف أخرى سألتقيها قريباً، ويمكنني القول إنّني قد أنجزتُ صيغةً جديدة لقانون انتخابي جديد، تعتمد النظام النسبي الكامل. والأجواء التي لمستُها خلال المشاورات إيجابية». وأشار إلى أنه بعد استكمال مشاوراته، سيُبادر الأسبوع المقبل، إلى الإعلان عن هذه الصيغة.
«القوات»
وفي سياق متصل، قالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: «إنّ الاجتماعات الثنائية والثلاثية والرباعية استؤنِفت مجدّداً في محاولة للخروج بصيغة مبدئية تتيح وضعها على طاولة مجلس الوزراء للبحث فيها وإبداء الملاحظات عليها وإحالتِها إلى مجلس النواب في حال التوافق عليها».
ورأت «أنّ الهدف من هذه اللقاءات هو تسهيل عمل الحكومة، خصوصاً أنّ القوى المشاركة في تلك اللقاءات تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الحكومة، وإقرار قانون جديد يصبّ في مصلحة الحكومة والعهد والبلد».
وكشفَت هذه المصادر «أنّ الأفكار التي سجّلها النائب جورج عدوان في اللقاءات التي عَقدها كانت محطَّ مناقشة وتقدير، كونها تستند إلى الدستور وتأخذ في الاعتبار الجانبَ التمثيلي لكلّ الفئات اللبنانية بما يحقّق الشراكة والمساواة».
وقالت: «على رغم المناخات الإيجابية إلّا أنه لا يمكن إطلاق الوعود بقربِ التوصّل إلى قانون انتخابي جديد بفعل التجارب السابقة التي كانت تُنسَف في كلّ مرّة تقترب الأمور من خواتيمها».
وكشفَت «أنّ «القوات» تتحرّك على أكثر من خط ولقاء في محاولة لإنجاز قانون الانتخاب وتجنيبِ لبنان أزمة وطنية»، وقالت «إنّ حركتها تهدف إلى تضييق مساحة الاختلاف بغية كشفِ القوى المعطّلة على حقيقتها، كذلك كشف أهدافِها ومآربها وفضحها أمام جميع اللبنانيين».
«المردة»
في غضون ذلك، قالت مصادر تيار «المردة» لـ«الجمهورية» إنّ «المردة» «ضدّ التمديد لكنّها أيضاً ضدّ الفراغ، فكلاهما شرّان، لكن التمديد يبقى أهونَ الشرور. إنّما هذا الأمر لا يعني أنّ هناك فريقاً مع التمديد وآخر ضده، بل هناك فريق مع قانون انتخابات عادل يقوم على النسبية وفريق ضد قانون انتخابات عادل ويسعى إلى قانون مختلط بطريقة مركّبة تجعله يفوز خطأ بكلّ المقاعد المسيحية. فالبلاد إذن منقسمة على هذا النحو وليس هناك شيء اسمُه فريق مع التمديد وآخر ضدّ التمديد».
وأضافت: «لدينا الآن مهلة حتى 15 أيار، فإذا كانت العقبات عند الثنائي المسيحي فهناك طرحُ النسبية على أساس الـ 15 دائرة وقد التزَمه الأقطاب الموارنة الأربعة في بكركي، فلماذا لا يسيرون به كمبدأ؟ يقولون اليوم إنه ليس لمصلحة المسيحيين.
كيف كان لمصلحتهم في العام 2012 ولم يعُد لمصلحتهم في العام 2017؟ كان لمصلحتهم حينها لأنّهم لم يكونوا حلفاء كما اليوم. إنّ المعيار بالنسبة إليهم مصلحة الثنائي المسيحي وليس مصلحة المسيحيين. مصلحة المسيحيين هي في النسبية الكاملة بغَضّ النظر عن توزيع الدوائر، أمّا مصلحة الثنائي فهي ضدّ النسبية لأنّهم لا يستطيعون أن يكونوا في لوائح موحّدة. فكفى تضليلاً باسمِ المسيحيين، وتكون النتيجة على حساب المسيحيين كما علّمنا التاريخ».
جولة ميدانية
في موازاة ذلك حمل يوم أمس حدثين: الأوّل الجولة الميدانية التي نظّمها «حزب الله» للإعلاميين على الخط الحدودي مع إسرائيل بهدف الاطّلاع على الأشغال والتحصينات التي يقيمها الجيش الإسرائيلي على طول الحدود مع لبنان.
وقد لاقت هذه الجولة انتقادات داخلية في وقتٍ اعتبرَتها مصادر مسيحية بارزة أنّها تصبّ في تحدٍّ ثلاثيّ الأبعاد: تحدٍّ للدولة اللبنانية وتحدٍّ للولايات المتحدة الأميركية التي تستعدّ لفرضِ عقوبات جديدة على الحزب، وتحدٍّ لإسرائيل في ظلّ الحديث عن مواجهة عسكرية ممكنة مع «الحزب»، علماً أن لا مؤشّرات تُنبئ بحصول مواجهة كهذه.
مبنى أميركي جديد
أمّا الحدث الثاني فتمثّلَ بوضعِ السفيرة الأميركية إليزابيث ريتشارد حجرَ الأساس لمقرّ السفارة الأميركية الجديد في عوكر، معتبرةً أنّ «وضع حجرِ الأساس لمجمَّع السفارة الجديد هو رسالة قوية للشعب اللبناني بأنّنا معكم على المدى الطويل. ونحن نعتزم مواصلة روح التعاون والشراكة التي سادت على رحلتنا معاً منذ مئتي سنة تقريبا» .
تجدر الإشارة إلى أنّ كلفة بناء هذا المرفق هي بقيمة مليار دولار، ما يدلّ إلى أنّ لبنان باقٍ كدولة وأنّه سيَشهد استقراراً بشكل أو بآخر في المرحلة المقبلة وأنّ الولايات المتحدة تَعتبر لبنان منطلقاً لدورها في منطقة الشرق الأوسط.
تدابير في عرسال
إلى ذلك، نفَّذ الجيش منذ الساعات الأولى لصباح أمس، تدابير أمنية واسعة وشاملة في عرسال، وأقام حواجز ثابتة وموَقّتة، وسيَّر دوريات مؤلّلة وراجلة في أحياء البلدة وشوارعها وفي جرود المنطقة، بحثاً عن المخِلّين بالأمن والمطلوبين. وأوقفَ أكثر من عشرة مطلوبين.
وقال مصدر أمني لـ«الجمهورية» إنّه «في إطار التغييرات التي شهدتها عرسال منذ انتخاب مجسلها البلدي الأخير، وعودتها إلى كنف الدولة، تنفّذ الأجهزة الأمنية من جيش وأمن داخلي حملات دورية فيها وعند مداخلها لقمعِ المخالفات، ومِن ضِمن الخطة الموضوعة هو «اليوم الأمني» الذي نفَّذته فصيلة عرسال أمس معزَّزةً بقوى الأمن الداخلي داخل شوارع البلدة وعند مداخلها، دقَّقت خلاله في هويات أصحاب السيارات والدرّاجات النارية المخالفة من سوريين ولبنانيين على حدّ سواء، كذلك قمعَت المخالفات وحرّرت محاضر ضبط واتّخذت الإجراءات الأمنية في حقّ المخالفين، وواكبَت العملية دوريات مؤلّلة من الجيش لتأمين الدعم في حال حصول أي تطوّر، إلّا أنّ اليوم مرَّ على خير».
وأضاف: «هذا اليوم الأمني نُفِّذ بناءً على طلب أهالي البلدة الذين شكّلوا وفوداً زارت أكثر من مسؤول أمني وسياسي ومرجعيات سياسية، طلبوا خلالها من الدولة تأدية دورها، ومن المؤسسات الأمنية إثباتَ حضورها داخل عرسال، وهو ما حصَل ولقيَ تجاوبَ الأهالي، كذلك رحّب المواطنون بهذه الخطوة وطالبوا بتكرارها دورياً، مؤكّدين أنّهم تحت سقف القانون ولا اعتراض لديهم على قمعِ المخالفات، إذ إنّ ذلك يحفظ أمنهم ويحميهم».