كأنّ البلد كله قائم على رمال متحركة تهدد بابتلاعه في اي لحظة؛ جوّ مسموم، وواقع سياسي مزنّر بحقل ألغام سياسية جاهزة للتفجير عند أي مفترق وامام اي حدث، وبأحزمة ناسفة لآمال الناس في انبلاج فجر الفرج. جوّ مسموم، يهدّد بالانهيار اقتصادياً ومعيشياً وحياتياً وخدماتياً، فيما تقدّم السلطة نفسها وكأنها ترشح وعوداً وحرصاً، بينما الحقيقة هي وعود عصيّة على التنفيذ، وشعارات مملّة لا تنسجم مع الواقع وحجم الملفات، ولا تقترن بالمبادرة البديهية الى التنفيذ وحتى بإرادة التنفيذ لِما هو مُلحّ، على رغم أنّ كل ذلك يصبّ في خانة التحصين الداخلي المطلوب في هذه المرحلة، ربطاً بتطورات المنطقة المتفجرة والتي تضع لبنان في موقع المتلقّي للارتدادات.
اذا كان التحصين السياسي يعاني اهتزازاً فإنّ التحصين الأمني يحتلّ مكانه في غرفة العناية الامنية والعسكرية، ويزيده مناعة جهد الجيش والاجهزة الامنية لصيانة الاستقرار الداخلي واصطياد المجموعات الارهابية ومنع تَسرّبها اليه، وتجنيب الداخل اي ارتدادات محتملة لأي تطورات تحصل، لا سيما من الجانب الآخر للحدود اللبنانية ـ السورية.
من هنا تأتي جهوزية الجيش في الداخل وعلى الحدود، وسط حديث مؤكّد بأنّ المنطقة التي تسمّى جرود عرسال دخلت مدار الحسم ضد المجموعات الارهابية المتمركزة، وانّ العد التنازلي للمعركة هناك بدأ، وباتت المسألة مسألة أيام معدودة، وأجرى «حزب الله» استعداداته اللازمة لهذه المعركة، فيما برزت مؤشرات سورية توحي بأنّ المعركة انطلقت فعلاً إنما بشكل تدريجي، بدليل تركيز العمليات العسكرية السورية على منطقة تمركز الارهابيين، في الجانب السوري منها.
والبارز في هذا السياق، تلقّي الجيش اللبناني جرعة دعم حكومية سياسية معنوية، عبّر عنها الرئيس سعد الحريري لقائد الجيش العماد جوزف عون، تقطع الطريق على حملة بعض المنصّات السياسية على الجيش ربطاً بعمليته العسكرية في منطقة عرسال.
ولفت موقف الحريري امام قائد الجيش في حضور وزير الدفاع يعقوب الصراف، بتأكيده الدعم السياسي غير المشروط للجيش الحريص على المدنيين، وانّ المؤسسة العسكرية لا تشوبها اي شبهات، رافضاً التشكيك بالتحقيق الذي تجريه القيادة بحادثة عرسال.
وكان هذا الموقف مريحاً جداً لقيادة الجيش، واكدت مصادر موثوقة لـ«الجمهورية» انّ اللقاء وما تخلله من إيجابيات كبرى ردّ على المصطادين بالماء العكر، ونأى بالجيش عن التجاذبات السياسية وحملات التحريض التي يختلقها البعض.
وقالت ان قائد الجيش لمس دعماً سياسياً مطلقاً لإكمال المعركة ضد الارهاب. واوضحت المصادر «انّ ما حمله العماد عون الى اللقاء مع الحريري، لم يكن تقريراً بنتائج التحقيق، إنما بعض المعطيات، في حين انّ التحقيق ما زال مستمراً وستصدر نتائجه قريباً».
وأكدت المصادر «انّ هذا الدعم السياسي المطلق، سيدفع الجيش الى استكمال مهمته الأمنية في مكافحة الارهاب والمحافظة على الامن التي لم تتوقف اصلاً، ولم تتأثر بالحملة على المؤسسة العسكرية، والجيش سيواصل مهمته بزخم كبير هذه المرة».
الحريري وجنبلاط
واللافت، انّ موقف الحريري كان له الأثر السريع في مكان آخر، حيث اجرى النائب وليد جنبلاط اتصالاً مطوّلاً برئيس الحكومة، هو الأول من نوعه بعد دخول العلاقة بينهما في توتر شديد خلال مرحلة الاعداد لقانون الانتخاب. وعلمت «الجمهورية» انّ جنبلاط نقل الى الحريري»ارتياحه لمواقفه بعد لقاء قائد الجيش لِما حملته من مؤشرات مطمئنة»، واتفقا على عقد لقاء قريب بينهما.
الى بعبدا
وفي وقت لاحق انتقل قائد الجيش الى قصر بعبدا، ووضعَ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في أجواء اللقاء وما تخلله من مواقف تدعو الى الارتياح، ومن شأنها أن تعزّز خطوات القيادة والمضي في العمليات العسكرية المقررة بكل ثقة مدعوماً من الجميع.
وسَلّم قائد الجيش رئيس الجمهورية تقريراً حول ما جرى في منطقة عرسال، مُبدياً ارتياحه لحجم الدعم الذي يحظى به الجيش.
بواخر الكهرباء
وبالعودة الى الوضع الاقتصادي والمعيشي والخدماتي، فالجوّ مسموم في كل المفاصل: إدارة ينخرها الروتين القاتل والفساد وفوضى الاستهتار والرشاوى في قطاعات عدة. امّا العلاج والترياق الشافي فطال انتظاره، واهل السلطة هم عاجزون، أو يغضّون الطرف، وبعضهم في نظر الناس متواطئون، وبعضهم الآخر يكتفي بتقديم صورة كاريكاتورية محزنة لمجلس الوزراء، والمثال في ما أبلغه أحد الوزراء البارزين لبعض المقرّبين منه أنّ «مجلس الوزراء لا يقرأ، ولا يسمع، ولا يفهم، وتستطيع أن تمرّر ما تريد فيه»، والبعض الآخر يكتفي بالثرثرة والحديث عن تفعيل الحكومة وتنشيطها وتعداد الملفات الملحّة وتزييت العجلة الانتاجية وتكثيفها بما يلبّي أولويات الناس، فيما تلك الملفات مركونة على رفّ النسيان والتخاذل المزمن، ولم يلمس الناس سوى مقاربات روتينية متواضعة لا تتلاءم مع الوعود، ولا مع ملفات تتطلّب مقاربات نوعية وجريئة وحتى عمليات جراحية تعبّر عن استفاقة ولو متأخّرة للسلطة وتضعها في الموقع الجدير بالاحترام وبثقة الناس التي وصلت الى حدّ الكفر بها.
ومن مآثر السلطة ما سُمّيت بـ«الخطة الانقاذية لقطاع الكهرباء» التي تحاط بالتباسات عدة وعلامات استفهام حول الكثير من مفاصلها، وايضاً استئجار بواخر التغذية حيث لا يبدو انّ هذه البواخر ستبحر قريباً في الاتجاه الذي رسمه المصرّون على هذا الاستئجار، نتيجة عطل ظهر فجأة في دائرة المناقصات التي أحيل اليها الملف.
وتجلّى هذا العطل بعدم وجود العدد الكافي من الشركات المستوفية للشروط، إذ تبيّن انّ شركة واحدة مكتفية الشروط، فيما هناك شركات اخرى مقترحة في طور هذا التشكيل، ودونه تعقيدات. ومع وجود شركة واحدة، ليس في الإمكان «التقليع» بالمناقصة.
تزوير القرار
على انّ هذا الأمر في جانب آخر، يتفاعل داخلياً حول ما أحاط قرار مجلس الوزراء في جلسة 21 حزيران 2017 بإحالة ملف مناقصة البواخر الى إدارة المناقصات من التباسات وعلامات استفهام، لجهة تحريف مضمونه. ووصلَ الحَدّ ببعض القوى الى حدّ الحديث عن وجود تزوير للقرار. فما الذي جرى؟
صيغتان… قراران!
في تلك الجلسة أقرّ المجلس، وبعد مناقشات وزارية، إحالة ملف البواخر الى دائرة المناقصات وفق صيغة نَصّت حرفياً على: «إحالة كامل الملف المتعلق باستقدام معامل توليد الكهرباء الى إدارة المناقصات لفَضّ العروض المالية وإعداد تقرير كامل عن استدراج العروض، وإحالته الى الوزير لإعداد تقرير مفصّل ورَفعه الى مجلس الوزراء بأسرع وقت ممكن».
الّا انّ الصيغة التي خرج فيها القرار وأحيل بموجبها الملف الى ادارة المناقصات جاءت مغايرة للقرار الاصلي، فنصّت على: «إحالة كامل الملف ( ) … (مع ترك هذين الهلالين فارغين من دون أي محتوى بينهما) الى إدارة المناقصات لفَض العروض المالية وإعداد تقرير كامل عن استدراج العروض المالية المتعلقة باستقدام توليد الكهرباء العائمة وإحالته الى الوزير المختصّ تمهيداً لإعداد تقرير مفصّل ورَفعه الى مجلس الوزراء لِبَتّه بأسرع ما يمكن».
للوهلة الاولى قد يبدو الأمر يقتصر على تعديلات شكلية في الصياغة، الّا انّ التعمّق في الصيغتين السالفتي الذكر يبيّن اختلافاً جوهرياً لا يتفق مع النقاشات الوزارية التي انتهت الى إحالة القانون بصيغته الاولى.
وهذا ما تؤكده الملاحظات التي وضعت في أيدي مراجع كبيرة وسياسيين، الذي تعدت توصيفاتهم لِما جرى من تزوير، الى تحوير، الى تعديل، تصحيح. خصوصاً انّ تلك الملاحظات بَيّنت فروقات جوهرية بين النصين. بحيث:
– أضيفت في النص الثاني كلمة «المالية» التي لم تكن واردة في النص الاول، الى استدراج العروض»، لتصبح «استدراج العروض المالية»، فيما ليس هناك في النصوص وجود لـ«استدراج العروض المالية».
– حذفت عبارة «المتعلّق باستقدام معامل توليد الكهرباء»، من امام عبارة «كامل الملف»، ليخلو الملف المقصود من التعريف، ونقلت العبارة المحذوفة لتَرِد بعد عبارة «إستدراج العروض» التي أضيفت اليها كلمة «المالية»، ليبدو وكأنّ موافقة مجلس الوزراء كانت تتعلق بالعروض المالية حصراً من دون الملفين الاداري والتقني.
– أضيفت عبارة «المختص تمهيداً» الى كلمة الوزير، ليبدو وكأنّ المجلس اعتبر الوزير هو صاحب الصلاحية في إجراء ما تمّ تنفيذه من إجراءات، وانّ ما هو مطلوب من إدارة المناقصات ليس وضع تقرير كامل وشامل ومستقلّ يتضمّن ملاحظاتها وتوفّر لمجلس الوزراء صورة واضحة حول إجراءات المرحلتين الادارية والتقنية التي كانت موضع ملاحظات وتشكيك بسلامتها، بما يسمح للمجلس باتخاذ القرار المناسب في ضوء النتائج التي سيتضمّنها تقرير إدارة المناقصات.
– أدخلت عبارة «للبَت به» ضمن عبارة «ورفعه الى مجلس الوزراء بأسرع وقت ممكن»، ليبدو وكأنّ الموافقة هي على التسريع بالبَت، وليس التسريع برفع التقرير.
تبيّن تلك الملاحظات «انّ نص الاحالة الى إدارة المناقصات (الصيغة المحوّرة للصيغة الاولى)، غَيّر مضمون ما تمّت الموافقة عليه في مجلس الوزراء، لحَصر دور إدارة المناقصات بفضّ العروض المالية فقط، من دون التعليق على المرحلتين الادارية والفنية السابقة لفَض العروض المالية، ويلغي الغاية الاساسية من تقرير ادارة المناقصات بنتيجة مراجعتها للمرحلتين الادارية والمالية وما يمكن ان يترتّب عنها من ملاحظات حول دفتر شروط المناقصة واجراءاتها، والتي يمكن ان تكون الشركة الاستشارية غَضّت النظر عنها، لا سيما بالنسبة الى دفتر الشروط الذي أجريت على أساسه، والشوائب والاخطاء التي يمكن أن تعتريه».
تصحيح… لا تصحيح!
تلك الفروقات أثارت التباساً كبيراً وتشكيكاً، الأمر الذي فرضَ ان يُعيد أمين عام مجلس الوزراء تصحيح القرار إنما بشكل جزئي، وأُبلغ الى الوزراء في الجلسة السابقة للمجلس، حيث شُطبت كلمة «المالية»، وأصبح النص: «إعداد تقرير كامل عن استدراج العروض المتعلقة باستقدام معامل توليد الكهرباء العائمة» بدلاً من «إعداد تقرير كامل عن استدراج العروض المالية باستقدام معامل توليد الكهرباء العامة»… والباقي من دون تعديل».
والسؤال: لماذا اكتفي بهذا التصحيح بهذه النقطة فقط، وتُركت الامور الاخرى؟ ومن هو المسؤول الذي زوّر أو عدّل، او حرّف او حوّر قرار مجلس الوزراء؟ هل هو «راجح»؟ ولماذا مرّ الأمر مرور الكرام؟ ولماذا لم يُساءَل أحد، او يُحاسب؟ ولماذا تم القبول بالتصحيح الجزئي للقرار؟ ومن يضمن الّا يتكرر مثل هذا الامر في الآتي من الايام؟
ديوان المحاسبة
وتفيد تلك الملاحظات ايضا بأنّ وزير الطاقة عرض اخيراً على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة، مشروع عقد اتفاق بالتراضي مع الاستشاري «POYRY»، لتقييم العروض التي استلمتها وزارة الطاقة والمياه بشأن استئجار الطاقة من البواخر، فيما يتبيّن من قرار مجلس الوزراء رقم 64 تاريخ 21 حزيران 2016 انّ الوزارة أفادت بأنه سبق لهذا الاستشاري أن نفّذ مهمته وأنهى تقريره العائد لفَضّ العروض الادارية والتقنية، وبات من الضروري الانتقال الى فض العروض المالية العائدة للشركات المؤهّلة.
ونَصّ قرار ديوان المحاسبة في 29 حزيران 2017 حول «مشروع عقد اتفاق رضائي لتقديم خدمات استشارية متعلقة بتقييم عروض لاستئجار طاقة من باخرتين تتراوح بين 800 و1000 ميغاوات وربطهما بمعملي دير عمار والزهراني» على: «انّ ديوان المحاسبة، وبعد التدقيق في ملف القضية، يقرر إعلان عدم صلاحية ديوان المحاسبة للنظر بالمعاملة المعروضة، لوضع المعاملة موضع التنفيذ قبل عرضها على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة».
تحرير الموصل
إقليمياً، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أمس انتصار بلاده على «الوحشية والإرهاب في الموصل، بعدما أنهَت قواته ثلاث سنوات من حكم تنظيم «داعش» على ثاني أكبر مدن العراق. وقال في خطاب بِزيّه العسكري الأسود: «من هنا، من قلب الموصل الحرّة المحررة، أعلن النصر المؤزر لكل العراقيين».
وأضاف: «إنتصارنا هو انتصار على الظلام، وانتصار على الوحشية والإرهاب». وفي أول ردّ فعل على إعلان العبادي، اعتبر التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، أنّ خسارة الموصل تشكّل ضربة حاسمة للتنظيم.