أثبتَ اتفاق «الزبداني – الفوعة – كفريا» أنّ الاستقرار في لبنان حاجة دولية وإقليمية، لأنّ هذا الاتفاق ما كان ليبصرَ النور لو أنّ لبنان مسرح لمواجهات داخلية على خلفية سوريّة، وبالتالي بقدر ما يشكّل هذا الاستقرار مصلحة لبنانية فهو يشكّل في الوقت نفسه مصلحة لكلّ عواصم القرار، بمعزل عن حساباتها التي تختلف بين من يريد حصرَ النزاع في سوريا وعدم تمدّدِه، وبين من يرى في لبنان رئة تنفّس وصِلة وصلٍ مع الخارج، وبين من يريده مستقرّاً لترييح بيئته ومواصلة قتاله في سوريا، وبين من يحرص على استقراره لاستمراره بيئةً حاضنة للّاجئين السوريين. وقد تتعدّد الأسباب، ولكنّ النتيجة واحدة وهي أن لا تعديل في الرؤية الخارجية حيال لبنان، هذه الرؤية التي تختلف على معظم الملفات الساخنة في العالم وتتّفق على تحييد لبنان. وتحت هذا العنوان تمّ الاتفاق أمس والذي كان مطار بيروت مسرحَه ذهاباً وإياباً برعاية الأمم المتحدة، وعلى رغم الاعتراضات التي صدرَت وقد تصدر عن دور لبنان في كلّ هذه العملية، إلّا أنّ هذا البلد الذي اعتاد طويلاً، وللأسف، أن يكون مستقرّاً للأزمات والحروب ومصدراً لها وصندوقَ بريد للرسائل الساخنة، تَحوَّل معبراً للحلول الإنسانية، ومتفرِّجاً على الحروب التي تجري من حوله، في ظلّ الدعوات إلى تثبيت هذا الواقع من خلال ترسيخ الاستقرار السياسي في موازاة الاستقرار الأمني والمالي. وعلى رغم أنّ هذا الاتفاق كان قد سبقَ لقاءات فيينا وقرار مجلس الأمن 2254، إلّا أنّ أهمّيته في هذه اللحظة أنّه يتقاطع مع مساعي التسوية التي ستنطلق مراحلها مع مطلع العام الجديد.
مع بدء العد العكسي للأيام الفاصلة عن العام الجديد، تراجَع الاهتمام بالشأن السياسي، ولم تسجّل الساعات الأخيرة أيّ حراك يتصل بحلّ أزمة الشغور الرئاسي، في ظلّ غياب مستمرّ لأيّ مؤشّر يوحي بانتخاب رئيس جمهورية جديد قريباً، وترحيل كلّ الملفات إلى العام المقبل، بل تحوّلت وجهة الرصد أمس إلى متابعة تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق ـ هدنة الزبداني والفوعة وكفريا والموَقّع في الرابع والعشرين من أيلول الماضي، برعاية الأمم المتحدة.
ويقضي هذا الاتفاق بإجلاء 338 جريحاً مع عائلاتهم من كفريا والفوعة (المحاصرتين من فصائل المعارضة) مقابل 126 جريحاً مع عائلاتهم من مدينة الزبداني بريف دمشق (المحاصرة من قوات النظام و»حزب الله»)، حيث نقلت سيارات الصليب الاحمر والحافلات الجرحى من الزبداني وكفريا والفوعة بشكل متزامن.
ونُقل المسلحون من الزبداني إلى تركيا عبر مطار بيروت الدولي بعدما تجمّعوا في جديدة يابوس مروراً بنقطة المصنع الحدودية باتجاه لبنان، فيما نُقل نحو 338 جريحاً مع عائلاتهم من كفريا والفوعة الى بوابة باب الهوى في حلب ثمّ الى تركيا فلبنان عبر المطار قبلَ أن يعودوا مجدداً الى سوريا عبر المصنع، ونُقل عدد من هؤلاء الجرحى إلى مستشفى الرسول الأعظم للمعالجة.
وتولّى المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم مهمة الاتصالات والتنسيق مع الجهات المختصة عن الجانب اللبناني، وقال لـ»الجمهورية» إنّ «دور لبنان في كلّ هذه العملية إنسانيّ واجتماعي وحضاري».
وكان في استقبالهم على أرض المطار وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر، والنوّاب: علي بزي، علي عمّار، وبلال فرحات، وقائد جهاز أمن المطار العميد جورج ضومط.
وليلا صدر عن المديرية العامة للأمن العام البيان الآتي: «تنفيذاً للإتفاق الذي رعته الأمم المتحدة، والقاضي بـإجلاء جرحى جميعهم مدنيين من مناطق سورية عبر الحدود اللبنانية في المصنع ومن ثم في مطار رفيق الحريري الدولي وبالعكس، وبتوجيه من السلطات الرسمية اللبنانية المعنية، إتخذت المديرية العامة للأمن العام الإجراءات اللازمة لتأمين دخول الجرحى وذويهم وخروجهم بالتنسيق مع المكلفين تنفيذ المهمة في الأمم المتحدة. كما واكبت قوة من المديرية العامة للأمن العام الحافلات على إمتداد الطريق داخل الأراضي اللبنانية تنفيذاً للقوانين المرعية الإجراء، وبالتعاون مع البعثة الدولية للصليب الاحمر والصليب الاحمر اللبناني».
مصادر مواكبة لـ«الجمهورية»
وقالت مصادر مواكبة لتنفيذ الاتفاق لـ«الجمهورية» إنّه بعدما تمّت المرحلة الثانية من تنفيذ هذا الاتفاق بنجاح، سيتمّ الانتقال الى تنفيذ المرحلة الثالثة والرابعة، وتنصّ المرحلة الثالثة على إدخال المساعدات والمعدّات الإغاثية والطبّية والمواد الغذائية الى الزبداني والفوعة وكفريا عبر ممرّات إنسانية آمنة تضمن سلامة هذه الممرات وعدمَ إقفالها أو تعرّضِها لإطلاق نار القوى المسلحة المسيطرة على كلّ مِن هاتين المنطقتين.
أمّا المرحلة الرابعة، وهي الأهمّ، فتشمل خروجَ كامل المسلحين من الزبداني مقابل خروج المدنيين، وهم بحدود 10 آلاف من الفوعة وكفريا.
وأشارت المصادر الى «أنّ المرحلة الثالثة والرابعة يجب أن تتمّا في فترة لا تتعدّى ثلاثة أشهر، وهي ضمن مرحلة الستة أشهر لوقفِ إطلاق النار».
وقالت المصادر: «بذلك، تكون الزبداني قد أصبحت آمنة بالكامل وتحت سيطرة الجيش السوري، ويكون أيضاً قد جرى تأمينُ الأوتوستراد الدولي بين دمشق والمصنع وإبقاؤه في منأى عن خروقات المسلحين. كما أنّ القرى اللبنانية المحاذية للحدود اللبنانية ـ السورية تصبح بدورها آمنة».
«الكتائب»
وتوَقّف حزب الكتائب امام «ما يشهده لبنان من عبور لقوافل الجرحى والمسلحين من سوريا عبر الأراضي اللبنانية الى تركيا وتحَوُّل مطار بيروت مهبطاً لهذه القوافل، بموجب اتفاقات ثنائية خارجية حيكَت خارج أراضيه ودون عِلمه»، ودعا الحكومة ورئيسَها إلى وضع الرأي العام في حقيقة صورة ما يَحصل على المستويين الامني والسياسي .
وسأل هل إنّ الدولة اللبنانية كانت طرفاً في هذا الاتفاق، أم أملِيَ عليها؟ ولماذا لم تجتمع الحكومة اللبنانية وتأخذ القرار المناسب في ضوء المصلحة الوطنية العليا؟ وأين هي السيادة فيما المسلحون من خارج الحدود يعبرون من سوريا إلى مطار بيروت وبأيّ جوازات؟ وأين هي سياسة النأي بالنفس؟ ولماذا هذا التقاعس المدوّي للحكومة عن القيام بأبسط واجباتها الأمنية وتخَلّيها عن مسؤولياتها ودورها الوطني لمصلحة قوى الأمر الواقع».
وسأل الحزب أيضاً: «هل إنّ الحكومة اللبنانية كانت أساساً على عِلم بيوم العبور هذا؟ أم انّها فوجئت مثلها مثل جميع اللبنانيين ليقتصرَ دورها على الناحية اللوجستية»؟
وأسفَ الحزب «لخضوع بعض المسؤولين اللبنانيين لإرادة الأفرقاء المتنازعين في سوريا وتنفيذهم اتّفاقات تحصل بين هؤلاء من دون الرجوع الى المؤسسات الدستورية صاحبة الحقّ والاختصاص في اتخاذ القرار».
ويَعتبر حزب الكتائب أنّ «امتناع الحكومة عن تحَمّلِ مسؤولياتها بعَقد جلسة دوريّة واستثنائية كلّما دعَت الحاجة يُفسح في المجال امام خطوات تكشف البلد أمنياً وتتيح لبعض المسؤولين اتحاذَ قرارات أحادية لا تتمتّع بالصفة الدستورية».
جرَيج
وسياسياً، ومع تراجُع زخم التسوية الرئاسية، يُنتظر أن يتركّز العمل مع بداية العام الجديد على تفعيل العمل الحكومي، في موازاة استكمال جلسات الحوار الوطني بين أقطاب الكتل النيابية والحوار الثنائي بين «حزب الله» وتيار «المستقبل».
وفي هذا السياق، قال وزير الكتائب رمزي جريج لـ«الجمهورية»: يُفترض ان يَعقد مجلس الوزراء جلسة بعد الأعياد إذا تكلّلت مساعي رئيس مجلس النواب نبيه بري بالنجاح بعدما أعطى تطمينات بأنّ الحكومة ستستعيد عملَها. فلا نستطيع إبقاءَ البلد معطّلاً بعدما تبيّنَ أنّ مسألة الشغور الرئاسي لن تُحَلّ في اسبوع وأسبوعين، وعلى الحكومة أن تسَيّرَ شؤون الناس، وعلى المقاطعين العودة عن مقاطعتهم، وإلّا فعلى رئيس الحكومة تطبيق المادة 65 من الدستور، ودعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد بمن حضَر طالما إنّ النصاب متوافر.
الجسر
إلى ذلك، أكد عضو كتلة «المستقبل» النائب سمير الجسر لـ»الجمهورية» الاستمرارَ في الحوار بين «المستقبل» و»حزب الله» في العام الجديد، معلِناً أنّ الجلسة المقبلة ستُعقد في السابع من شهر كانون الثاني المقبل.
وأبدى الجسراعتقاده بأنّ الأوضاع في المنطقة ولبنان تتّجه نحو التسوية، وقال: «عندما نرى المشهد في سوريا اليوم بعد قرار مجلس الأمن الدولي وعملية تبادل المقاتلين والجرحى ما بين الزبداني والفوعة وكفريا، والتي تمّت بهذه السرعة وبالتسهيلات الحاصلة، نلاحظ أنّ شيئاً ما يتحرّك بسرعة. وفي الوقت نفسه نعتقد أنّ الوضع في لبنان يتّجه نحو التسوية، صحيح أنّ فترة الأعياد عَلّقت الحراك المتّصل بالاستحقاق الرئاسي، لكن أتصوّر أنّ الاتصالات ستُستأنَف بعد العيد».
وقال الجسر إنّ التسوية الرئاسية في المبدأ مطروحة، وحتى اليوم مَن رفضَها لم يقدّم أيَّ طرح بديل، وفي الوقت نفسه نَشعر بأنّ زخم الاعتراضات على التسوية قد تراجَع بعض الشيء».
واستبعَد الجسر، ردّاً على سؤال، أن يردّ «حزب الله» على جريمة اغتيال إسرائيل سمير القنطار من الجنوب، مبدياً اعتقاده بأنّه في ضوء هذه التسوية التي ستَجرّ وقفاً لإطلاق النار في كلّ الأمكنة تقريباً ما عدا المنطقة التي تتواجد «داعش» فيها، من الطبيعي أن نشهد في هذه المناسبة تحَوّلاً في الخطاب».
«القوات»
وأكّد عضو كتلة القوات اللبنانية النائب أنطوان زهرا أنّ «ما يُطرح في الإعلام أو مِن بعض الجهات السياسية عن أنّ هذا المخرج هو الأمل والملاذ الأخير الذي يجب أن نتمسّك به، وكأنّ طموحاتنا انحدرت إلى مستوى الاختيار بين السيّئ والأسوأ على الصعيد العام، هو كلامٌ غير صحيح، لأنّ هناك خياراً ثالثاً متوافراً، وهو في أن نصِرَّ على مبادئنا ونحتفظ بكرامتنا وحقوقنا الديمقراطية والوطنية، ولا نستسلم للظروف على قاعدة «يا هيك يا رايحين على جهنّم»،
مع احترامنا لكلّ شخص يطرح اسمَه أو سيطرح لرئاسة الجمهورية، فليس هذا هو المقصود. ولكن لسنا شعباً يُخيَّر بين هذا الحلّ أو جهنّم، لأنّنا شعب دفعَ ثمنَ حرّيته وبقائه دماً وعرَقاً وتعَباً وتضحياتٍ وانتظاراً، ونحن مستعدّون للتضحية باستمرار كي يستحقّ أولادنا بلداً يعيشون فيه بكرامة، ويكون لديهم فرَص للعمل والإنتاج والحياة الحرّة الكريمة.
«التيار الحر»
وشدّدَ «التيار الوطني الحر» على وجوب أن تكون التسوية الرئاسية كاملة في كلّ المواصفات بما يخصّ قانون الانتخابات، والمرحلة المقبلة بكلّ توازناتها. وقال النائب آلان عون إنّ «مسألة انتخاب رئيس الجمهورية يجب أن تكون بالاتّفاق بين الفريقين بمعزل عن اسم المرشّح للرئاسة، لأنّ التسوية تكون بين الفريقين اللذين يمثّلان الشعبَ اللبناني، بمعزل عن أيّ رهانات أخرى».
«حزب الله»
وأشار رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد الى أنّ سبب المشكلة في بلدنا هي أنّ الأولويات تختلف من فريق إلى فريق، وأضاف: «إذا راقبنا أولويات معظم الفريق السياسي في لبنان الذي يتصدّى لشؤون البلاد والعباد نجد أنّ واحداً منهم أولوياته الاتصالات والآخر أولوياته الأشغال وبعضهم الشركات». وقال رعد: «السؤال الذي نطرحه هو: أين قضية لبنان وأمنه والدفاع عنه؟
وأين استقلاله الحقيقي عن إرادات القوى الإقليمية والدولية، وأين قضية فلسطين؟ وأين التعاطي مع قضايا العرب المحِقّة والعادلة؟» وتابَع: «إنّنا نجد أنّ الاستثمار من أجل المصالح الشخصية قد أسقط موقعَ فلسطين كقضية إنسانية على مستوى العالم».
ورأى رعد أنّ «استمرار مأساتنا في هذا البلد وأكثرَ مشاكلِنا الداخلية الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية تَكمن برفع بعضِنا شعارات مغرية وجذّابة للاستثمار عليها وليس من أجلها، ولذلك نُفاجَأ بين كلّ فَينةٍ وأخرى بفضيحة في هذا المجال وأخرى في ذاك المجال، وكلُّ من يستثمر على قضايا الناس إنّما يستثمر من أجل مصلحته ونزوته ونزعة فساد في شخصيته، ويريد أن يتسلّل منها إلى موقع أرفع في سلطة».