من السيارات المفخّخة إلى الأجساد المفخّخة بدّلَ الإرهاب أساليبه الإجرامية ليخترق أمن الضاحية الجنوبية لبيروت ويرتكب مجزرة مروّعة فيها، ذهبَ ضحيتها 43 شهيداً و239 جريحاً، في الوقت الذي تحرّكت الحياة السياسية إيجاباً عبر عودة التشريع إلى المجلس النيابي ليبنى عليها لاحقاً وعلى الحوار الجاري بين قادة الكتل النيابية، كذلك بين حزب الله وتيار «المستقبل» للوصول إلى «تسوية سياسية شاملة» نادى بها الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله، وتتجسّد بنودها بجدول أعمال الحوار.
إمتدّت يد الإرهاب مجدّداً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وارتكبَت مجزرة مروّعة سَقط فيها 43 شهيداً و239 جريحاً، حسب إحصاء أوّلي، وذلك بتفجير مزدوج تبنّاه تنظيم «داعش» الإرهابي، ونفّذه انتحاريّان بحزامين ناسفين وبفارقِ دقائق، في محلّة برج البراجنة المكتظّة بالسكّان، ما استدعى من رئيس الحكومة تمّام سلام الدعوة إلى حداد وطنيّ عام اليوم على الشهداء.
وجاءت هذه المجزرة في وقتٍ بدأت الحياة السياسية تستعيد أنفاسها من البوّابة التشريعية، وتُحدِث خرقاً نسبياً في الطريق إلى إنهاء الشغور الرئاسي والتعطيل الحكومي. كذلك جاءَت بعد أقلّ من 24 ساعة على دعوة الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله في مناسبة «يوم الشهيد» إلى تسوية سياسية شاملة.
وكانت أولى نتائج هذا التفجير انقلاب الصورة رأساً على عقب وانتقال الأولويات من ساحة النجمة، حيث كانت تُعقد جلسة «تشريع الضرورة»، إلى برج البراجنة حيث سالت دماء غزيرة، فرَفع رئيس مجلس النواب الجلسة ودعا الجميع إلى الوقوف دقيقة صمت حداداً على الشهداء.
وأفاد مصدر أمني أنّ «انتحاريَين يضعان حزامين ناسفين دخَلا سيراً إلى شارع (في منطقة برج البراجنة) وفجَّرا نفسَيهما قرب مركز تجاري، بفارق سبع دقائق بينهما». فيما أكدت قيادة الجيش في بيان لها العثورَ في موقع الانفجار الثاني على جثّة إرهابي ثالث لم يتمكّن من تفجير نفسه.
وخرجَت مراجع مطّلعة من قراءة أوّلية للجريمة بالملاحظات الآتية:
ـ يُعدّ التفجير المزدوج أوّل اختراق كبير لأمن الضاحية الجنوبية لبيروت بهذا المستوى، إذ تمكّنَ أربعة انتحاريين من تخطّي كلّ الحواجز الأمنية بأحزمتهم الناسفة.
ـ خِلافاً لكلّ أساليب التفجيرات السابقة التي كانت تحمل طابَع الإعداد الفردي، ظهرَ جليّاً أنّ العملية الأمنية أمس أعِدّ لها بإتقان وحِرفية عاليَين.
ـ تمكّنَ الإرهابيون من تحديد نقطة الضعف الامنية للنفاذ منها الى الضاحية، ونفّذوا جريمتهم في مكان حدّدوه سَلفاً بعد رصدٍ مسبَق.
ـ إختار المنفّذون بدقّة توقيت تنفيذ عمليتهم بحيث يكون عصراً، وهو وقتُ الذروة في الازدحام.
ـ تبيّن من التحقيقات الأوّلية أنّ الأحزمة الناسفة التي استُعملت في التفجير مغايِرة لتلك التي استُعملت في عمليات سابقة، بحيث تبيّن انّها تحتوي مادة الـ «سي. فور»ممزوجة بكرات حديد لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا.
ـ بعدما تبين انّ الانتحاري الثالث لاقى حتفه على يد «حزب الله» تمكّن انتحاري رابع من الفرار، ما يدل الى انّه يدرك جيداً المخارج التي يمكنه النفاد منها.
ـ تبنّي «داعش» التفجير جاء على طريقة تبني هذا التنظيم تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء، وهو الامر الذي يبعث على الاعتقاد بأنّ تهديد «داعش» وخطرها اصبح مباشراً.
تدابير وتعاميم
وأعقبت التفجير المزدوج تدابير امنية استثنائية اتخذتها وحدات الجيش والأجهزة الأمنية على مداخل الضاحية الجنوبية التي تقيم حواجز فيها منذ أكثر
من سنتين.
وإلى ذلك عمّم الحزب رسائل قصيرة على كوادره جاء في إحداها: «نطلب من المواطنين عدم التجمّع، خصوصاً في المقاهي، وأي شخص يحدث ريبةً لا تتهاونوا معه، فهناك معلومات عن وجود عدد من الانتحاريين، ونطلب عدم الركض امام الاخوة اثناء توقيفهم لهؤلاء تحت طائلة المسؤولية».
إستنكار عارم
وقوبلَ هذا التفجير المزدوج بموجة استنكار عارمة دولياً ومحلياً. ودانته السفارة الأميركية في بيروت بشدّة وقدمت التعازي لعائلات الضحايا، متمنّية الشفاء العاجل للجرحى. كذلك ندّدت فرنسا بالتفجير وأعلن الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية رومان نادال وقوفَ بلاده إلى جانب لبنان في معركته ضد الإرهاب.
واتّصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس برئيس مجلس النواب نبيه بري مستنكراً ومعزّياً، مؤكّداً وقوفَ الشعب الفلسطيني وقيادته مع وحدة وسلامة لبنان وشعبه، مستنكراً أيّ محاولات لخلق الفتنة، كذلك اتصل عباس برئيس الحكومة تمام سلام.
ودان بري التفجير، ورفع جلسة التشريع حتى الخامسة بعد ظهر اليوم، وقال: «إنهم يريدون تعطيل لبنان، ونحن يجب الّا نوافقهم في هذا التعطيل».
امّا سلام فدعا اللبنانيين الى «مزيد من اليقظة والوحدة والتضامن في وجه مخططات الفتنة التي تريد إيقاع الأذى ببلدنا»، آملا «ان تكون هذه الفاجعة حافزاً لجميع المسؤولين إلى تخطّي الخلافات والعمل على دعم المؤسسات الدستورية والامنية لكي نتمكن معاً من حماية جبهتنا الداخلية وتحصينها في مواجه هجمة الارهاب الذي يستهدف لبنان».
وبدوره، رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون سأل «كم من الانفجارات يجب ان تحدث بعد ليقتنع الجميع بوجوب اقتلاع الإرهاب التكفيري»؟ وقال: «انّ هذه المرحلة خطرة جداً، والانتصارات على الجبهة أوصلت المقاتلين الى مرحلة اليأس، واعتبر انّهم نفّذوا هذا التفجير لرفع معنويات الإرهابيين بعد هزائمهم في الميدان».
واتصل الرئيس سعد الحريري ببري معزياً بالشهداء ومستنكراً «الاعتداء الإرهابي الآثم على أهلنا في برج البراجنة». وقال: «إنّ استهداف المدنيين عمل دنيء وغير مبرر، لا تخفف من وطأته اي ادّعاءات. إنّ قتل الأبرياء جريمة موصوفة بكل المعايير من برج البراجنة الى كل مكان».
واستنكر حزب «القوات اللبنانية» بشدة التفجير ودعا الحكومة الى عقد «إجتماع طارئ واستثنائي لاتخاذ مزيد من التدابير والاجراءات للحفاظ على لبنان واللبنانيين». ودعا رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الى «رصّ الصفوف والترفّع عن الخلافات والتجاذبات السياسية لقطع الطريق على التفجيرات الارهابية».
من جهته، قال وزير الداخلية نهاد المشنوق: «لن نتوانى عن ملاحقة المجرمين أينما وجدوا». وإستنكرت سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بيروت التفجير وقالت في بيان لها انّه «يفضح مرّة جديدة مدى وحشية وإجرام هذه المجموعات الارهابية الغاشمة».
وقالت: «يأتي هذا الحادث الارهابي اليوم في وقت تنعَم البلاد بأجواء داخلية إيجابية جرّاء التوافق السياسي بين الأفرقاء والأحزاب اللبنانية كافة، وفيما نشهد إنجازات أمنية لافتة وكبيرة للجيش والأجهزة الأمنية في مواجهتها للمجموعات الإرهابية، ليصبّ بشكل لا لبسَ فيه في مصلحة الكيان الصهيوني والداعمين لهذه المجموعات التكفيرية وليسدّد ضربة للاستقرار الأمني اللبناني وليختبر جهوزية المقاومة».
تشريع الضرورة
وكان مجلس النواب استأنف امس عمله التشريعي إثر تعطيل لنحو عام، بعدما اتفق السياسيون على تسوية تضمّنت إقرار قانون استعادة الجنسية وتحرير أموال البلديات، وإدراج قانون الانتخاب على رأس جدول أعمال الجلسة التشريعية المقبلة.
ومرّت الجلسة بسلاسة بعدما فعلت التسوية السياسية فعلها وترجمت بحضور كتلتي «التغيير والاصلاح» و«القوات اللبنانية». إلّا انّ رياح هذه التسوية لم تلفَح كتلة نواب حزب الكتائب التي شاركت في بداية الجلسة فقط، قبل أن تنسحب بعد رفض طلبها تحويلها «جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية».
وأقرّ المجلس اتفاقات والتزامات مالية للبنان لدى الخارج، مُجنّباً لبنان خطر الإفلاس. ومن ابرز القوانين التي اقرّت: قانون سلامة الغذاء، اقتراح قانون استعادة الجنسية بمادة وحيدة من دون ايّ تعديل، تجهيز الجيش، اقتراح قانون بفتح اعتماد اضافي في الموازنة لتغطية العجز في الرواتب والاجور وملحقاتها.
قانون الانتخاب
وخلال الجلسة، وعد بري بتشكيل لجنة للبحث في قانون الانتخاب خلال مدة أقصاها شهران، فإذا لم تتوصل الى نتيجة حاسمة يُصار الى إحالة مشاريع قوانين الانتخاب المطروحة الى اللجان النيابية المشتركة لإعادة درسها.
«الكتائب»
وكان رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميّل تحدّث بعد خروجه من الجلسة في تظاهرة كتائبية، فشدّد على «ضرورة الشروع حالاً في انتخاب الرئيس تطبيقاً للمادة 75 من الدستور»، داعياً الى «تحويل الجلسة التشريعية جلسة انتخاب رئيس للجمهورية».
تفاؤل اقتصادي
إلى ذلك، انعكسَت أجواء التفاؤل الناجمة من الجلسة التشريعية إيجاباً على الاسواق المالية في بيروت. فارتفعَت اسهم شركة «سوليدير» بين 12 و15 في المئة، وتنفّسَت الهيئات الاقتصادية والمصرفية الصعداء مع انضمام لبنان الى الاتفاقات الدولية رسمياً، ما أزاح عن النظام المالي اللبناني القلقَ الكبير من أيّ ضغوطات دولية محتملة كانت لتلحق الأذى والضرر الكبيرين بلبنان واللبنانيين. علماً انّه بإقرار هذه القوانين يوجّه لبنان رسائل إيجابية الى الخارج تؤكّد تمسّك الأفرقاء كافة بإيجاد المخارج للأزمات المختلفة التي تواجهها البلاد.