تَشي ملامح «أبو جَميل» أنّه دخلَ العقد السادس من عمره. يَرتدي الرجل الثياب العسكرية، ويحمل في يده مؤشر الليزر، والى جانبه شاشة إلكترونية موصولة بحاسوب حفظت ذاكرته بمعطيات وافية عن كل جوانب معركة جرود القلمون.
«أبو جَميل» كما قدَّم نفسَه هو القائد العسكري لـ«وحدة حَيدر» العسكرية في «حزب الله». وتضمّ هذه الوحدة قطاعات الحزب العسكرية في مناطق القطاعين الأوسط والغربي (من ضهر البيدر حتى القاع). ويبدو أنّ «وحدة حيدر» هي المكلّفة بخَوض حرب القلمون منذ برزَت إرهاصاتُها الأولى حتى احتدامِها على نحو جبهةٍ شاملة ومفتوحة حاليّاً.
«أبو جميل» هو نوع من المقاتلين الذين جمَعوا في معرفتهم وشخصيتهم بين ثقافة حرب الأنصار وثقافة كلّيات الأركان العسكرية. وواضحٌ أنّ الخلفية السياسية والعقائدية في حديثه وسلوكه ترقى لمنزلةٍ لافتة.
تُقارب «وحدة حيدر» كمنظومة عسكرية مفهومَ «الفرقة» أو «اللواء» وفقَ التوزيعات العسكرية في الجيوش الكلاسكية. فهي تَشتمل على غرفة عمليات وإمداد لوجستي وكتائب وسرايا وأسلحة ثقيلة وحتى سلاح جو تجسّسي من طرازات خفيفة.
الجنرال «أبو جميل»
ويقدّم «أبو جميل» صورةً لجيلٍ عسكري مخضرَم داخل «حزب الله»، فهو أكبر سنّاً من «عماد مغنية» المصنّف بأنّه تاج موهبة التجربة العسكرية للحزب، وأقلّ شموليّة بالمعرفة العسكرية والأمنية منه، ولكنّه في الوقت نفسه يمثّل جيلاً عسكرياً في الحزب يمتاز بحسّ ميدانيّ ومناطقي، واجتازَ دورات أركان عسكريّة ويُعرَف بالتجربة وعن ظهر قلب الديموغرافيا التي يتشكّل منها الميدان العسكري المسؤول عنه.
على مدار نحو عشرين عاماً تعاقبَت وجوهٌ قيادية عدّة على مسؤولية التنظيم السياسي في البقاع، لكن «أبو جميل» ظلّ في موقعه. يقول أحد ضبّاط الفيتنامي جياب: إنّ قادة حرب العصابات يصبحون جنرالات إذا راكموا تجربة تطوير حرب الكمائن البدائية في اتّجاه جعلِها جبهةً يقاتل عليها «جيش حرب الأنصار».
في غرفةٍ للعمليات
يوم الأربعاء الماضي قدّمَ «ابو جميل» شرحاً لصحافيّين عن سَير معارك القلمون. إمتازَ شرحُه بأنّه غير تفصيليّ وأنّه يُمَرحِلُ الشرحَ بلغة عسكرية تصِف اللحظات الاستراتيجية فيها وتهمِل التفاصيل التي تحبّها الصحافة الباحثة عن خبر أو « فلاش».
ركّزَ على نقاط أساسية توضِح مرابح الحزب الأساسية في هذه المعركة؛ ولماذا اندحرَت «جبهة النصرة» عن مساحة واسعة من مواقعِها في القلمون، وما الذي يَجعل المعركة حتى الآن غيرَ منجَزة بالكامل.
وتُبيّن الإجابات التي قدّمها عن الأسئلة الآنفة ضمن شرحِه لمعركة القلمون المستمرّة، استنتاجاتٍ أساسية عدّة:
أوّلها، أنّ الحزب قسَّم حرب القلمون إلى ثلاث جبهات، الأولى تخصّ الجرود التي تسيطر عليها «جبهة النصرة» والجيش السوري الحر؛ والثانية تخصّ المنطقة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش»؛ والثالثة تتمثّل بجرود عرسال.
وهذا ميدان مركّب يقسّمه الحزب إلى ساحتين بينهما روابط سياسية ونفسية، الأولى تشتمل على جرود عرسال ومعها مخيّمات النازحين السوريين الموجودين الى الشرق وراء خط انتشار الجيش اللبناني، والثانية عرسال البلدة.
بكلام إجماليّ تَعَمَّد الحزب عزلَ كلّ واحدة من هذه الجبهات عن الأخرى، وذلك عبر إيجاد فواصل وعوازل سياسية وميدانية ونفسية بينها. والهدف هو توظيف كلّ تناقضات الجبهة المعادية التي يقاتلها، لإضعافها والاستفراد بكلّ فريق داخل طيفها على حدة.
والترجمة العملية لهذه الخطة تجد تعبيرَها من خلال تركيز الحزب في الجولة الأخيرة من حرب القلمون هجومَه على منطقة «النصرة» دون «داعش»، ودفعِ عناصرِها بدايةً للهروب إلى منطقة الأخيرة حيث طلبَ أمير «داعش» فيها منهم مبايعةَ أبو بكر البغدادي، فكانت النتيجة المتوقّعة وهي نشوب الاشتباكات بين الطرَفين. ويقدّم «ابو جميل» معلومةً خاصة ضمن هذه الجزئية تفيد بأنّ جهةً من خارج «داعش» و«النصرة» تبَرّعَت لإصلاح ذات البَين بينهما في القلمون، ما أنشَأ هدنةً بينهما يقدَّر بأنّها موَقّتة.
الاستنتاج الثاني يكشف عن تمتّع الحزب بقدرات استخباراتية عالية، سواءٌ منها التي تحَصّل معلومات مسبقة أو معلومات جارية، إضافةً لقدرةٍ على توظيفها في تكتيكات عسكرية لجَني مكاسب ميدانية. الأمثلة كثيرة، ومنها أنّ الحزب كان يَعلم بدقّة عن وضع تسَلّح «داعش» و»النصرة» في القلمون عشيّة بَدء المعركة وعن تبَدّلات الوضع التسليحي لديهما خلال المعركة وبعدها.
لائحة الحزب عن التسلّح في منطقتَي «داعش» و»النصرة» في القلمون لحظة اندلاع المعركة الأخيرة، تتحدّث بأرقام المقارنة بين ترساناتهما: «داعش» أقلّ امتلاكاً للدبّابات (دبّابتان) وللذخيرة، فيما تمتلك «النصرة» 7 دبّابات من طراز ت 72 و64 وذخيرة أكبر. أظهرَت المعركة عيباً عسكرياً لدى «النصرة» التي صرفَت كلّ ذخيرة قذائف دبّاباتها خلال فترة قصيرة مِن بَدء المعركة، ما يَعني أنّ دبّاباتها تحوّلت الآن إلى ملّالات نقلِ جنود. لكنّ «النصرة» وفقَ عقيدتها القتالية في القلمون لا تَعتبر الدبّابة العنصر الأساس في سلاحها، بل تَستخدم السيارات المفخّخة وعناصرَها المزنّرين بالأحزمة الناسفة كوسيلة دفاع أساسية.
وهذا جانبٌ يُفسّر لماذا لم تخَلّف حرب القلمون أسرى من «داعش» و»النصرة»، والسبب أنّ وسائلَ هجومهم اعتمدت على أسلحة انتحارية. وتضمّ «النصرة» في صفوفها خبَراء متفجّرات ومهندسين مميّزين في مجال «التشريك والتفخيخ».
تملك «النصرة» و»داعش» صواريخ «ميلان» مضادة للدروع، ولدى «داعش» قبضة واحدة لصاروخ كورنيت.
وتَشي معلومات الحزب بأنّ عناصرَها في القلمون لم يستوعبوا هذا السلاح. في اليومين الأخيرين من المعارك رمَت «داعش» صاروخَي «ميلان» في اتّجاه الحزب، أحدُهما لم ينفجر. تعتمد «داعش» أكثر في تكتيكاتها الدفاعية والهجومية على الرشّاشات الثقيلة (23 و14 ونص) وعلى نحو أكثر السيارات المفخّخة وأيضاً الأحزمة الناسفة التي يَتزنّر بها أفرادها.
معظم مخزون أسلحة «داعش» و«النصرة» في القلمون غنموه من مستودع مهين التابع للجيش السوري الذي سيطرا عليه وأخذوا منه 8 ملايين طلقة من عيارات مختلفة وصواريخ «غراد». إمكانية تعويض الذخائر لدى الطرفين قليلة. تجربة «داعش» تصنيعَ قذائف 120 في مشاغل أنشأتها في القلمون، لم تكن ناجحة. فالقذائف من إنتاجها لا تترك شظايا كثيرة وبالكاد توقِع إصابات مباشرة.
الأمر نفسه تقريباً بالنسبة لإمكانية «النصرة» في إظهار إبداع تسليحي. حاولَت مثلاً استخدام طائرة تجسّس بلا طيّار من طراز خفيف، لكنّها تعثّرَت، علماً أنّها في مقابل «داعش» تُعتبَر الأكثر تسليحاً. تمتلك 9 مدافع رشّاشة، 23 هاون 120؛ 4 دوشكا وقنّاصات، 3 منصّات قاذفات السَهم الأحمر الصيني الصنع.
الاستنتاج الثالث يتعلق بمستقبل حرب القلمون مع دخولها أزمتَها السياسية الخاصة بقضية عرسال والتي تَجعل ميدانَها العسكري أكثر تعقيداً.
قبل نحو أربعة أيام وقعَت آخر معركة لديها دلالات استراتيجية على صِلة بميدان حرب عرسال المرتقَبة. كانت ساحتُها في منطقة في جرد نحلة يُطلَق عليها «باب الهوا» قضى فيها عنصر للحزب و9 جرحى، فيما خَلّفَ المسلحون وراءَهم 16 قتيلاً قبل اضطرارهم للانسحاب منها.
أهمّية هذه المعركة التي دامت 12 ساعة أنّها مكّنَت عناصرَ الحزب من السيطرة على بساتين جرود عرسال وجعَلتهم أيضاً قريبين من الصعود إلى رأس «تلّة التلاجة» المشرفة على أرجاء واسعة في محيطها.
تَعني معركة «باب الهوا» أنّ الحزب أصبَح داخل جرود عرسال وأنّه عسكرياً ولوجستياً صار له تماسٌ مباشَر مع نوعين من الجبهات في ميدان عرسال: الأولى عسكرية مع جرود عرسال حيث ينتشر 1200 عنصر لـ«النصرة» بقيادة أبو مالك التلّي، ومجموعات أقلّ عدداً من الجيش السوري الحر بقيادة العقيد المنشَقّ رفاعي.
والثانية سياسية مع عرسال البلدة، لأنّ تقدّمَ الحزب نحو بساتين جردِها يَجعل لدى أهلها مصلحة في إنشاء صِلة تنسيق معه أقلّه من أجل جنى محاصيلهم. ويراهن الحزب على أنّ تواصلاً من هذا النوع سيكون له نتائج إيجابية لمصلحة كسرِ قطيعة التواصل.
ومِن وجهة نظر الحزب فإنّ عرسال ومعَها مخيّمات النازحين للسوريين الموجودة شرقاً وراء خط انتشار الجيش اللبناني، لا يزالان يشكّلان الشريان الذي يمدّ المسلّحين بإمكانية الصمود في جرود عرسال. ولو قطعَ هذا التواصل لأمكن توَقّع استسلام مسلّحي «النصرة» و»داعش» في غضون 5 أيام من دون حرب.
هكذا يَرى «أبو جميل» الذي يَصف مربّع عرسال ومخيّمات النازحين شرقاً وراء انتشار الجيش اللبناني، بأنّه يشبه «ميناء للمسلحين من دون ماء». نسبةٌ عالية من المساعدات الإنسانية التي تصل لمخيّمات النازحين تتسرّب للمسلحين. زِد على ذلك أنّ مسلّحي جرود عرسال يقضون ثلاثة أيّام من الأسبوع في هذه المخيّمات وأربعة أيام في الميدان.
السؤال من وجهة نظر «أبو جميل» هو: كيف يمكن قطع الإمداد عن المسلّحين في الجرود والذي يَصل إليهم من ثمانية مخيّمات للنازحين موجودة إلى الشرق وراء خط انتشار الجيش اللبناني، وداخلها 30 ألف نازح من أصل 160 ألف نازح، ويَقطن البقيّة منهم (130 ألفاً) في مخيّمات أخرى تقع داخل مناطق سيطرة الجيش اللبناني، وهؤلاء لا مشكلة معهم.