IMLebanon

الجمهورية» مع الجيش على جبهات عرسال… إستعداداً للعواصف

تتبدَّل الظروف الأمنية والأوضاع العسكرية بعد كلّ حرب، وتدخل عوامل كثيرة تجعل من المعارك تنتهي لصالح الأقوى والأذكى، الذي يَصمد ويخوض أطول معركة، يَستنزف فيها العدوّ ولا يُستنزَف، خصوصاً في المناطق الجبلية الوعرة التي تلعب فيها الطبيعة دوراً مساعداً أو معطّلاً لتحرّكات القوى العسكرية على الأرض.

أقلّ من عام مرَّ على جولة «الجمهورية» على مراكز وتحصينات الجيش في تلال عرسال. معطيات كثيرة تبدّلت لصالح الجيش اللبناني، حيث وقف أهل عرسال إلى جانبه بعدما ذاقوا الأمرّين من المسلحين، إضافةً إلى أنّ الجيش يدافع عن بلداته ويحميها، بينما لو قُدّر للمسلحين اختراق تحصيناته، لكانوا ضرَبوا على الوتر الطائفي وأدخَلوا البلاد في حرب مذهبية لا تَختلف عن حروب سوريا والعراق واليمن.

على رغم ارتياح الجيش إلى وضعه، إلّا أنّ الاستنفار العام والتحسّبَ للأسوء يسيطر على الجنود الذين ينتشرون على الجبهات، يراقبون ويَرصدون الهدف، يدُهم على الزناد، مدفعيّتهم جاهزة للرماية عندما يقترب العدوّ من عرسال والخطوط الحمر.

وعندما تتحدّث إلى أحد الجنود من الذين شاركوا في المعركة الأخيرة، وما زال على الجبهات، يَخطر في بالك سؤال بسيط لكنّه مهم: مَن يملأ مشط «الكلش» بالرصاص أثناء المعركة؟ فيجيب: «إنّ الاتّكال على الذات هو الأساس، لذلك كلّ جندي يملأ مشطَه بسرعة ويُكمِل القتال، لأن لا وقت لدينا لتضييعه».

إنتشار واسع

قد يختصر مشهد تعبئة «المشط» قسماً من ظروف قتال الجنود المنتشرين في عرسال والذين حضّروا «الفيلدات» العسكرية لمقاومة نسمات البرد التي تلفَحهم، متّخذين أقصى التدابير، خصوصاً أنّ مناخ البلدة أقرب إلى الصحراوي، وانتشارهم يبدأ من ارتفاع 1000 متر عن البحر ليصل الى الـ 1800.

الرحلة مع الجيش تبدأ من قيادة اللواء الثامن الذي يشهَد حركة دائمة لا تهدأ، شاحنات و«هامفي» تدخل وتخرج، وجنود يَحرسون المنطقة، لكنّ سِمةً واحدة تطبع القيادة والضبّاط والعناصر وهي أنّ المعنويات مرتفعة، والجيش أطبقَ على التلال وبات مستحيلاً دخول المسلحين، إذ يقول قائد اللواء: «كلّ شيء تبدّلَ، وسترون بأمّ العين».

ننطلق من أطراف عرسال برفقة ضابط وجنود، وتَحضر الأخبار عن المعارك والمواجهات التي حصلت، والأيام التي ستأتي، ولا يغيب عن البال ذكريات التدريب وفترة «الحربية» والمعاهد العسكريّة، لكن على رغم كلّ هذه الأحاديث والتقارب و«الخوشبوشيّة» لا يُدلي الضابط الذي يرافقنا بأيّ معلومة خارج الإطار العام المحدّد، وعند الخروج عن الموضوع الأساس، يقول لنا: «هذا الأمر ليس عندي».

                                                     

هدير العاصفة والقذائف

يُسيطر الجيش بشكل دائري على عرسال والجرود، وقد زاد المراكزَ المنتشرة تحصيناً، وبسَط سيطرته بالكامل على نقطة «المهنية» الشهيرة، وهي مركز استراتيجي يُشرف على بلدة اللبوة وبلدات بقاعية أخرى. أمّا حادثة خروج المسلّحين من المنازل المستأجَرة والخيَم فلن تتكرّر، لأنّ الجيش يَدهم داخل البلدة ويتعاطى مع مخيّمات النازحين مثل أيّ منطقة لبنانية.

وهنا تَحضر إلى الذهن حادثة تفجير مشايخ القلمون حيث ضغَط الجيش لتسليم المطلوبين، فكان الصيد الثمين بالقبض على «كهروب»، صانع الأحزمة الناسفة ومموّل الانتحاريين بالمتفجّرات.

لا تنفَع الحياة المدنية المتطوّرة في تلك المنطقة الواسعة الوعرة، حيث يتمركَز الجيش على التلال في المشاعات. فالمنطقة شِبه قاحلة، ويقطع النظر بعض بساتين الكرز التي تساقطت أوراقها وتنتظر قدومَ الشتاء والثلج، في حين جهَّز الجيش نفسَه للعواصف والرياح، وهدير القذائف طبعاً. فاستحدَث السواتر الترابية بين مركزه في «المهنيّة» و«الخزانات» وصولاً إلى مركز شمّيس ضهر الجبل.

قد يكون إسم الشميس أصدق تعبيراً عن اليوم الذي استطلعنا فيه المراكز، فتطلّ الشمس حارقةً، على رغم أنّ درجات الحرارة منخفضة، ويشير أحد الجنود إلى أنّ «اليوم بالنسبة إلينا هو صيف، فالصقيع آتٍ، أمّا ارتفاع الحرارة فهو الاستثناء في هذه الفترة، بينما الثابت من اليوم وحتى آذار المقبل هو البرد والزمهرير، وبالإضافة إلى تنظيم صفوفنا ومواجهتنا للمعتدين، فإنّنا نستعدّ لكلّ مفاجأة مناخية وجاهزون دائماً».

إجراءات حازمة

لا يلخّص الطقس وحده حالَ المنطقة هناك، فمنذ لحظة الإطلالة على «الشفق» المطلّ على عرسال تشاهد عمقَ الأزمة في تلك البلدة النائية، مشهدٌ صغير يختصر أزمة وطن.

أزمة تسمَع عنها كثيراً، وتَعلم بمخاطرها لكنّك الآن تشاهدها من فوق وبأمّ العين، «إنّها عرسال المطوّقة بمخيّمات النازحين، والمزدحمة في داخلها، لا ترى منازل العراسلة مع كثرة تلك الخيَم أو المخيّمات التي أثقلت كاهلهم، وكادت تَجعلهم في قبضة بعض المسلّحين لو لم يَعِ أهل البلدة حجمَ المشكلة ويتدخّل الجيش في الوقت المناسب.

فالأرقام الرسميّة تقدّر أعداد النازحين بنحو 80 ألف سوري، وقد اتّخذ الجيش إجراءات حازمة فمنعَ مرورهم وتخطّيهم الحدود المرسومة التي تفصل البلدة عن الجرد.

ومن مركز شمّيس – ضهر الجبل، سمعنا أصوات القصف. نظرنا إلى الجبال المقابلة لكنّنا لم نرَ شيئاً، فظننّا أنّها صادرة من داخل الأراضي السوريّة… «قد تكون طائرات بوتين». وبعد دقائق اشتدّ القصف، فاكتشَفنا أنّ الجيش يَرمي المسلحين أثناء رصد حركتهم، فيتصاعد الدخان والغبار من النقطة المستهدفة، والخبر اليقين أنّه «حقّق إصابات مباشرة».

التجهيزات

يتّكل الجيش على فرَقه الخاصة لتأمين الاكتفاء الذاتي والتعايش مع أصعب الظروف، وبما أنّ «المونة» تحسُّباً للثلوج مهمّة، فقد يتّبع الجيش استراتيجية تخزين احتياط لأسابيع، والجديد أنّ الجيش قد قضَم تلالاً مهمّة وتمركزَ فيها وأمّنَ مقوّمات الصمود بسرعة قياسيّة، حيث عملت فرَق الهندسة بالتعاون مع بقيّة الفرَق على مدّ الكهرباء التي تُعتبَر مهمّة لرصد مراكز المسلحين، وتشغيل أجهزة الاتّصال وبعض المعدّات، بالتأكيد للجنود.

أبراج المراقبة

دخلت المراقبة كعامل حاسم، جعلَ الدفّة تميل لصالح الجيش، فلا معركة رابحة من دون مراقبة الحدود، من هنا كان لا بدّ من استكمال المشوار من مركز شمّيس – ضهر الجبل، في اتّجاه «مرتفع 1666» المستحدَث.

لا شكّ في أنّ الطريق الضيّق يدفعك إلى الاستفسار عمّا يكون العمل إذا التقَت سياراتان أو آليتان، وكيف يمكنهما المرور، فيأتيك الجواب أنّ ذلك يدخل ضمن الأسرار… وإذا كنّا محظوظين سنتلاقى بإحدى الآليّات، لذلك كان علينا الانتظار.

يَعتمد الجيش على مراقبة دقيقة ورصد، أمَّنته له المعدّات التي وصَلته من الدول الصديقة أخيراً، وباتت كلّ تحرّكات المسلّحين مراقبة من أحد الأبراج التي يُصعَد إليها بالسلالم، فتشاهد الجبالَ عن قرب.

ومن غرفة المراقبة الحديثة والمتطوّرة تكتشف طريقة خروج المسلحين وتحرّكاتهم، حيث يخرجون من مخابئهم فيَرصدهم الجيش، ويعطي التعليمات للمدفعية والطائرات لاستهدافهم، وتُعتبَر منطقة «الملاهي» والدشَم المجاورة من أكثر المناطق التي يخرج منها مسلّحون، إضافةً الى «دشمة 1588»، وجوار المستشفى الميداني. ويَستخدم المسلحون في تنقّلاتهم الدرّاجات النارية، ومنهم من يسير على الأقدام بعدما تأقلمَ مع ظروف المنطقة. 

إستحداث نقاط

يُعتبَر سلاح المدفعية الأمضى والأفعل في الحرب التي يخوضها الجيش في الجرود، والردّ على المسلحين يكون إمّا مباشرةً عبر الرمايات المدفعية أو من بعيد، لذلك تُعتبر «تنية الفاكهة» من أكثر التلال المتقدّمة التي يرابض عليها الجيش، وقد استحدث فيها نقطة في شهر آذار الماضي بعد معارك تلّة المحمّرة ورأس بعلبك، وهي تُعتبر استراتيجيّة لأنّها تقع على مثلّث عرسال – رأس بعلبك، ومقابلة لجرود قاره السورية، وهي من أكبر مراكز الجيش، وقد عملَ فوج الهندسة ليلاً نهاراً وبسرعة قياسيّة، على تدشيمها وتجهيزها، فسَكنها الجنود من دون كهرباء بدايةً قبل أن تُجهّز.

الورشة لا تزال مستمرّة في المركز، حيث ترى الجنود يحفرون في جواره لفتح الأقنية وتسييجه، أمّا في الداخل فهناك ورشة بناء، حيث تُشيَّد غرفُ سَكن للجيش تحسُّباً للشتاء القارس.

نهاية الرحلة

تقارِب الشمس على المغيب، وسط انتشار الجنود في نقاطهم. تهمّ بالرحيل لكنّ كرَم الضيافة الذي يتميّز به اللبناني والجندي يمنعك من العودة من دون شرب القهوة. وعندما تستوضحهم كيف يمضون الوقت، وهل يمكن للجنود أن يزور بعضهم بعضاً في المراكز؟، يردّون: «في إطار المهمّات فقط… لا وقتَ «للصبحيّات».

ينتهي النهار الجميل مع الجيش، وتغادر وفي البال استفهامات كثيرة لعلّ أبرزَها: عندما يوشك «الهامفي» أن ينطفئ في طريق قاسية صعوداً، هل يمكن أن تفرغ الآليات من المازوت؟ فيُوضحون لنا أنّ المازوت مؤمَّن والآليات تخضع للكشف وتعبئة الوقود بعد كلّ مهمّة.

نُكمِل مشوارنا نزولاً، فمخزون المازوت في «الهامفي» يتجاوز النصف، ولحُسن حظّنا صادَفنا آليّة تسير على الطريق، وقد اضطرّت إلى «تمريرنا» بطريقة غريبة حلّت لغز سؤالنا السابق… فأكملنا سيرَنا لأنّ الجيش يَفتح أوتوسترادات في الوطن ليُلاقي اللبنانيون بعضهم، ولا يقف عند الطرق الضيّقة، خصوصاً أنّ جميع شباب المناطق والطوائف والمذاهب يَحمون عرسال وكلّ لبنان، ولا توحّدهم إلّا راية الجيش.

وفي النهاية لا بدّ من الاستنتاج أنّ تدابير الجيش قضَت على أيّ نشاط يفكّر المسلّحون في القيام به، خصوصاً أنّ هناك تقارير أجنبية تشير إلى أنّ عددَهم تقلّصَ إلى نحو 700 مسلّح، 400 من «جبهة النصرة» و300 من «داعش»، وهم إلى تناقصٍ بفضل الحصار الحاد الذي فرضَه الجيش، وقتلِه عدداً كبيراً منهم.