قبل نصف قرن، في العام 1968 تحديداً، قرّر الزعيم الوطني الكبير كمال جنبلاط أن يبدّل من عادته تمضية عطلته السنوية في الهند، فأمضاها في أوروبا الغربية، ليعود الى لبنان قبل الإنتخابات النيابية العامّة.
تذكّرت رحلة الشهيد كمال بك لما قرأت التغريدة التي غرّدها الوزير وليد جنبلاط، أول من أمس، من أوروبا الغربية التي توجه اليها بعد إنتهاء زيارته الى المملكة العربية السعودية. والجامع المشترك بين الوالد ونجله في إنطباعهما عن أوروبا يتمثل في الفارق الكبير بين البيئة الشرقية والبيئة الأوروبية. وإذا كان جنبلاط الإبن، الذي أورث جنبلاط الحفيد النيابة في حياته، قد بحث عن الراحة في أوروبا، فإن كمال بك «إكتشف» المجتمع الأوروبي المدني لا السياسي… وكان اكتشافه عظيماً، وقد ترك فيه تأثيراً كبيراً.
كنّا، لفيف الصحافيين، نزور كمال جنبلاط باستمرار في دارته، (أو في مقرّ الحزب التقدمي الإشتراكي في منطقة فرن الحطب)، يومها كان أهل السياسة وأهل الصحافة على تماس يومي. والزعيم كمال جنبلاط، مثله مثل الزعماء المرحومين كميل شمعون وصائب سلام، وبيار الجميل والشهيد رشيد كرامي، وريمون اده… لم يكن يخلد الى النوم قبل أن يجري إتصالاً بهذا الصحافي أو ذاك سائلاً: شو في اليوم يا عمّي؟!. أمّا في دارته فكان يجلس في البهو على الكرسي الهزّاز الذي يحركه، من دون توقف، الى وراء وإلى أمام، ويتحدّث بلهجته الواثقة، منطلقاً من ثقافة عميقة شاملة، في السياسة والأدب والفلسفة والفكر والإجتماع والإقتصاد الخ…
وذاك اليوم كنّا قد التفينا حوله، في بيته، نهنئه بسلامة العودة من أوروبا، فاستمعنا اليه يتحدث بكلام لم نعهده من قبل. تناول في كلامه التقليعة الجديدة الثورية آنذاك في ملابس النساء (الميني جوب، والميكرو جوب… أي التنورة القصيرة و… الأقصر).
وعلى غير توقع منّا، أو عكساً لما كنا نتوقعه، فقد استفاض كمال بك في إطراء «الموضة» الجديدة التي كانت قد دخلت لبنان، ولكن بخجل… قبل أن تتفلت من قيد ولا تزال:
راح الزعيم الوطني الكبير يتحدّث بشغف عن التنانير القصيرة. استخدم عبارات من نوع: شو هالسيقان، شي بيمجّد الخالق… شو هالجمال! يا عمّي هذه الملابس هي آخر تجليات الثورات الإقتصادية (…) وأخذ يفلسف المظهر الأنثوي المثير كونه أحد تجليات الحرية بأبعادها المختلفة، وحتى البعد الروحاني.
كنّا قد اعتدنا على كمال جنبلاط، إثر زيارته الهند (شهراً كل سنة) وتردده اليومي، هناك، على «المعلم» الهندي الغائص في الفلسفة والروحانيات، أن يحدثنا في عمق المدى الروحي، فإذا به إثر عودته من أوروبا يحدثنا في الشكل الخارجي ليصل به الى البعد الروحي.
وفيما هو مستغرق في الكلام، وأنظارنا (كما عقولنا) مشدودة اليه، فاجأنا بقطع الكلام عن «الميني جوب» والإنتقال (من دون وصل أو ربط) الى الهجوم على الرئيس الراحل كميل شمعون… وقبل أن نبحث عن مبرّر لهذا الإنتقال الذي أدهشنا رأينا وفداً من المشايخ الموحّدين الكرام يدخلون البهو الذي كان بابه مشرّعاً على الخارج!.. عندها أدركنا سبب هذا الإنتقال المفاجىء في الحديث!..
ألم نقل أعلاه أننا كنّا على أبواب الإنتخابات النيابية العامة في العام 1968؟!.