شكّلت محاولة اغتيال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي النقطة الحرجة في مسار مواجهة مشروع استعادة الدولة الوطنية في العراق، وتتماهى المحاولة مع خط بياني متصاعد يعبّر عن رفض المبادرات الوطنية التي قام بها الكاظمي منذ توليه رئاسة الحكومة. إستخدام ثلاث طائرات مسيّرة للإغتيال يضع المحاولة في خانة العمل الإرهابي المنظّم ويُسقط بشكل نهائي فرضيّة توجيه رسالة تحذير أو تهديد صارم للإمتثال. محاولة الإغتيال تعني أنّ الكاظمي قد تجاوز الخطوط الحمراء مما يستوجب إخراجه، وبالمقابل فإنّ إسقاط مسيّرتين من ثلاث يعني أيضاً أنّ فرضيّة الإغتيال كانت ماثلة بقوة لدى الكاظمي ومدرجة في قائمة المخاطر المتوقّعة.
لقد عبّر الكاظمي من خلال ما امتلكه من تصميم عن إرادة وطنيّة لإخراج العراق من المستنقع المذهبي، وقد أفضى المسار الشجاع الذي اتّبعه إلى إرساء قواعد العلاقة والشراكة مع العالم العربي في الأمن والإقتصاد والإستثمار والتعليم على أسّس واقعيّة. زيارات الكاظمي للمملكة العربية السعودية (آذار 2021) بعد إعادة فتح مِعبر عرعر البري الإقتصادي (نوفمبر2020) المغلق منذ ثلاثين عاماً، وزيارة واشنطن (آذار 2021) وزيارة تركيا (ديسمبر 2020)، بالإضافة الى لقاء بغداد الذي جمعه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني (حزيران 2021)، كلّ ذلك كان يقدّم أكثر من مؤشّر لطهران وسواها أنّ العراق أضحى يمتلك قراره الوطني بما يستجيب لمصلحة الدولة العليا. توقيع اتّفاق التنقيب عن الغاز والنفط مع شركة «توتال إينيرجي» الفرنسية أعطى للإندفاعة الكاظمية في تحقيق السيادة مظهرها الإقتصادي، إذ أتاح للعراق التحرر من الإعتماد على استجرار الطاقة من طهران وتأمين حاجته من الغاز التي كانت تستورد من إيران بأسعار تفوق بأضعاف الأسعار العالمية.
مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة (أغسطس 2021) الذي حضرته تسع دول ومنظّمات دولية وإقليمية كان بمثابة باكورة الإنجازات السيادية. جاهر الكاظمي بإعلان النأي بالعراق عن كلّ الصراعات الإقليمية وتكريس العراق ساحة للتعاون وليس ساحة للصراع. أجل لقد قالها الكاظمي في وجه كلّ من اعتبر نفسه ولي الأمر على القرار السياسي والإقتصادي وعلى السياسة الخارجية في العراق، قالها بوجه طهران وقالها بوجه تركيا وقالها في البيت الأبيض منتزعاً وعداً من الولايات المتّحدة بالإبقاء على 2500 جندي أميركي في نهاية 2021 بمهمة تدريبية ودون أي واجب ميداني، ومسقطاً الحجة من كلّ المسوّقين لفكرة التبعيّة الأمنية لواشنطن.
لكن اللحظة السياسية التي أنضجت المشروع السيادي كانت في ملاقاة الجماهير العراقية التي تظاهرت إحتجاجاً على الفساد الذي ترعاه الميليشيات الخارجة عن القانون، وتنديداً بالأوضاع الإقتصادية الصعبة وأزمة الكهرباء غير المبررة في بلد يمتلك كلّ المقوّمات. أعطى الكاظمي كلّ المساحة للتعبير الديمقراطي وأقصى العديد من القيادات الأمنية التي تقاعست في حماية التظاهرات، ولاحق مرتكبي الإعتداءات عليها من عناصر الميليشيات والأحزاب المدعومة من إيران التي ذهب ضحيتها حوالي 600 مواطن من متظاهرين وعناصر أمنية وصحفيين في بغداد ومدن الوسط والجنوب.
الإصرار على دور الأجهزة الأمنية في حماية المواطنين وليس النظام تجلى بإلقاء القبض على قاتل الصحفي أحمد عبد الصمد والمصوّر صفاء غالي المعروفيّن بدعمهما للإحتجاجات الشعبية، بتوقيف ومحاكمة قتلة الخبير الأمني هاشم الهاشمي، المطالب المعروف بإصلاح النظام والمندد بالهيّمنة الإيرانية على القرار السياسي في بغداد. وفي مجال مكافحة الإرهاب، يسجّل للأجهزة الأمنية أيضاً إلقاء القبض على غزوان الزويّعي – الملقّب بأبو عبيدة بغداد – منفذ تفجيرات الكرادة التي أدّت الى مقتل 300 عراقي. هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا الثقة التي استشعرتها القوى الأمنية في القيادة السياسية فاندفعت للقيام بواجبها الوطني، وعبّرت عنها جموع العراقيين بغالبيتهم الشيعية في الإنتخابات النيابية الأخيرة التي حرمت الأحزاب المرتبطة بإيران من الفوز بالأكثرية النيابية.
ما قبل الإنتخابات العراقية لن يكون كما بعدها وما قبل محاولة اغتيال الكاظمي ليس كما قبله. بعد هذيّن المعطيين لم يعد هناك مجال للدبلوماسية الحمقاء في العلاقات بين العراق وطهران، ولم يعُد لإتصالات الإستنكار الزائفة أي دور في التغطية على ما حدث. سقطت كلّ عناوين التعاون المدّعاة سواء تلك المتعلّقة بمكافحة الإرهاب أو بالحرص على المصلحة الوطنية العراقية ومحاربة الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة. لقد حصلت محاولة الإغتيال بعد أن فشلت كلّ وسائل استنفار الشعب العراقي واصطناع الإحتجاجات للتشكيك بشرعيّة الإنتخابات، وأصبحت المقايضة المعروضة هي استعادة الهيمنة على القرار السياسي تحت طائلة الدخول في مسلسل لا ينتهي من الإغتيالات السياسية والتفجيرات الأمنية، وبمعنى آخر اعتبار الإنتخابات تفصيلاً سياسياً وليس ممراً إجبارياً لإنتاج السلطة.
إقصاء الكاظمي هو المعبر الإلزامي لاستعادة الهيمنة. ربما أراد منفذو محاولة الإغتيال إسقاط التجربة اللبنانية ما بعد العام 2006 على العراق وإلزام المرشحين لرئاسة الحكومة باعتماد نموذج حكومات الوحدة الوطنية أو حكومات اللاقرار، حيث تتحوّل الأكثرية والأقلية النيابيتين الى مجرد مكوّنات لا علاقة لها بالقرار، ويعود الإحتكام الى الشارع والى السلاح المتفلت، وربما أرادوا نقل لوثة الميثاقية السياسية اللبنانية الى الحكومة العراقية المقبلة واستنساخ قاعدة لا شرعيّة لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك ضمن المكوّن الشيعي الواحد.
في العراق يتقدّم رئيس الحكومة صفوف المطالبين بالسيادة العراقية وفي لبنان يحجم المسؤولون عن ملاقاة اللبنانيين في سعيّهم للسيادة واستقلالية القضاء والدولة المدنية. في العراق يُستهدف الحاكم المطالب بالسيادة، وفي لبنان يجتهد الحكام في تقديم المبررات لتخاذلهم الدائم.
في العراق كما في لبنان، الجريمة عينها وأدوات الجريمة واحدة والضحية واحدة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات