للمرّة الأولى منذ العام 2005 تفرز صناديق الاقتراع مجلسَ نواب متحرّراً من «عصبية» 8 و14 آذار. التحالفات التي خيضت على أساسها الانتخابات دفنت «المعسكرَين»، ومعهما «رموزَه»، تحت تاسع أرض. لا أكثرية ولا أقلّية بل «مشاريع» متعدّدة لمعارضة غير موحّدة بوجه «كتلة العهد». مجرّد بلوكات طائفية وسياسية ستجد ألف سبب وسبب لتتناحر تحت قبّة البرلمان بغياب الرؤية السياسية الواضحة!
طابخ السمّ آكله. ليس أفضل من رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري ورئيس «التيار الوطتي الحر» جبران باسيل ينطبق عليه هذا الشعار. همّا صنّاع قانون إنتخاب أدخل شركاءَ مضاربين في السلطة لزعيم السنّة ولـ «وارث» الحالة العونية. لم يعد الحريري صاحبَ الإحتكار في الطائفة، وبالتأكيد يمكن رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع أن ينظر مليّاً في عيني باسيل ليقول له «حجمك هو حجمي. فيفتي فيفتي»! أوّل الاستحقاقات الداهمة مَن سيكون نائبَ رئيس مجلس النواب المقبل بعد فريد مكاري.
خسائر الحريري، المتوقعة بمعظمها، أتت شديدة الوطأة على رئيس الحكومة المقبل. الجولاتُ الانتخابية القياسية في عددها والخطاب التحريضي والمذهبي عالي اللهجة والتحذير الدائم، بمؤازرةٍ من وزير الداخلية نهاد المشنوق، من «إجتياح بيروت» و»خطف قرار الشمال» لم تُسعف الحريري أوّلاً في رفع نسبة الاقتراع ثمّ التصويت للوائح «المستقبل» «زيّ ما هيّي». من الشمال الى البقاع والجنوب، مروراً بالعاصمة بيروت، كان دويُّ النكسة كبيراً وصداه سيُسمع جيداً داخل البرلمان.
من كتلة بلغ عددها نحو 35 نائباً، فرزتها إنتخابات 2009، يدخل الحريري مجلس «الملّة» بكتلة من 21 نائباً. أوّل الغيث إعلان الرئيس نجيب ميقاتي بأنه مرشح جدّي لرئاسة الحكومة! الضربة الأقوى سُجِّلت في بيروت، بحصد لائحة الثنائي الشيعي أربعة حواصل، إضافة الى مقعد فؤاد المخزومي. في الجنوب باستثناء مقعد «العمّة بهية» خرج الحريري خالي الوفاض بعد أن خسر معركة مرشّحه السنّي في مرجعيون حاصبيا عماد الخطيب وأمّن الخروجَ اللائق للسنيورة من الحلبة النيابية. خسارةُ الحريري لثلاثة مقاعد في الشمال لم يعوّضها سوى الانتصارُ المعنوي بسقوط اللواء أشرف ريفي.
وبإسنثناء نائب عكار الماروني هادي حبيش، ونزيه نجم في بيروت الثانية وهنري شديد في البقاع الغربي جُرِّد الحريري من حصته المسيحية الوازنة كذلك خسر أحصنةً له في المناطق، لصالح منافسين سنّة يشكّلون في حال توحّدهم في البرلمان كتلة معارضة جدّية في مواجهته، ما سينعكس حتماً على مفاوضات تأليف الحكومة ثم إدارة التوازنات داخلها.
تقلّص كتلة الحريري لا يوازيها تاثير سوى علامات الاستفهام الجدّية التي بدأت تُطرَح منذ الآن عن مصير كتلة العهد التي سيتوزّع «نجومُها» على مقاعد البرلمان. تطمين المرشح روجيه عازار على لائحة «التيار الوطني الحر» بأنّ النتائج التي حصدها حزبه في كسروان أفضل من السابق» لا تحجب الواقع.
صحيح أنّ العونيين يروّجون لكتلة من 28 نائباً، يعتبرونها الأكبرَ مسيحياً ونيابياً، إلّا أنّ تماسكها سيبقى بالتأكيد تحت الاختبار. كثر يتوقعون أن «تفرط» حبّة حبّة، ومسارُ «تكتل التغيير والإصلاح» نموذج. ما الذي يمنع النائب طلال أرسلان من أن يعيد الكّرة؟ وما الذي سيدفع أصلاً نائباً كميشال معوض للجلوس على طاولة برئاسة باسيل؟ والى أيِّ مدى ستبقي شخصية كنعمة افرام، المقرّبة من «القوات»، على إلتزامها النيابي مع «جيش العهد»…
ويكفي أنّ جعجع بتفوّقه في الصناديق فَرَض نفسَه شريكَ النصف في الحصة المسيحية مع جبران باسيل الى جانب شخصيات مسيحية مستقلّة من وزن ميشال المر، وجان عبيد، وفريد هيكل الخازن، وأخرى منضوية تحت أجنحة أحزاب «تيار المردة» و»الكتائب»، وتلك المحسوبة على النائب وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري (ميشال موسى) والتي لن يكون وجودُها مجرّدَ «خيال صحراء»!
وإذا ما تمّ التسليم، بناءً على الخطابات التي رافقت الحملات الانتخابية لـ «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية»، بأنّ معراب ستكون على المقلب المواجِه للعهد، فيمكن التسليمُ بأنّ «كتلة العهد» لن تستطيع أن تؤمّن بتحالفها مع الرئيس سعد الحريري أكثريةً مطلقة داخل البرلمان.
لا يعزّز هذا الواقع سوى مَن ينتظر «كتلة العهد» في مجلس النواب الجديد على الكوع. الرئيس نبيه بري، ووليد جنبلاط، وسليمان فرنجية، والشخصيات السنّية غير المنضوية تحت العباءة الحريرية، ومرشّحو أحزاب 8 آذار، بلوك يؤمّن التوازن مع تحالف الحريري – «التيار الوطني الحر»، مع التسليم بأنّ نواب «حزب الله» سيكونون فريقاً داعماً للعهد على «القطعة»! مجرّد إعلان السيد حسن نصرالله أمس بأنّ المجلس النيابي المقبل سيشكّل «ضمانةً لحماية المقاومة»، يقدّم نموذجاً عن تسليم هذا الفريق بأنّ مفتاحَ الأكثرية في جيبه وجيب حلفائه.
وثمّة وجهٌ آخر لمجلس 2018 لا يشبه سابقاته. تدريجاً يتحوّل البرلمان من مجلس «المشرّعين» الى مجلس «يُشارع» فقط. آخر مشرّعي الطائف بطرس حرب صار خارج أسوار عين النجمة. خروجٌ محبط إذا تمّت قراءةُ أرقام الصناديق وتحليلها. لا يعوّض هذا الغياب سوى جلوس جان عبيد مجدّداً على مقاعد النواب. وميشال فرعون «زعيم الكاثوليك»، كما صوّر نفسَه دائماً، غادر الحلبة بضربة غريمه نقولا صحناوي. وفي مجلس النواب الحالي أُقفلت بيوتاتٌ سياسية بأمّها وأبيها.
نقولا فتوش القانوني المحنّك وصانع التمديد لم يعد له مطرح، فيما ودّع آل شمعون، بخسارة حفيد كميل شمعون لوحتَه الزرقاء، الحياة السياسية وربما لوقت طويل. أما ميريام سكاف فخاضت معركةً لم يسعفها فيها «حاصل» إدخال وريثة إيلي سكاف الندوة البرلمانية. وفؤاد السنيورة تحوّل الى ذكرى بعد 26 عاماً من دخوله الشأن العام… كل ذلك في مقابل دخول دفعة كبيرة من رجال الأعمال التي تفقه أكثر في لغة البيزنس أكثر من القوانين والتشريع.
لا يُفترض توقّع الكثير من «عجنة» نيابية مكوّناتها من «كل وادٍ عصا». الأهمّ أنّ هذا المجلس ليس المخوّل إنتخاب رئيس جديد للبلاد بعد أربع سنوات ونصف. صحيح أنّ «بيّ التمديد» نقولا فتوش أُرغم على التقاعد، لكنّ «ملائكته» قد تحضر من أجل تمديد يمنح المجلسَ المقبل حقّ انتخاب رئيس للجمهورية…