جورج بكاسيني
اليوم تُطوى صفحة وتُفتح أخرى في سجل العمل الوطني مع إقرار مجلس النواب قانوناً جديداً للانتخاب طال انتظاره. الأولى صفحة المشاورات المضنية التي انتهت إلى تحقيق «إنجاز وطني بعد مسار طويل من التباينات أصبحت في ذمة التاريخ» على حد تعبير رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، أما الثانية فصفحة العِبَر المستخلصة من واقعة إقرار القانون الجديد والمتمحورة في مجملها حول خلاصة مركزية وحيدة بعيداً عن الأرباح والخسائر الحسابية لهذا الحزب أو ذاك: التسويات تصنع المعجزات.
فإذا كانت الانقسامات تخلّف الخيبات، وهي خلّفتها بالفعل على امتداد 12 عاماً بحكم الانقسام العمودي الحاد الذي ضرب الطبقة السياسية اللبنانية بطولها وعرضها، فإن التسويات تصنع المعجزات، وهي صنعتها بالفعل على امتداد سبعة شهور، أنجبت رئيساً للجمهورية وحكومة وتعيينات إدارية وأمنية ومصرفية وقانوناً للانتخاب.
وإذا كانت ملفّات انتخاب رئيس وتشكيل حكومة وإقرار قانون للانتخاب تصنّف من أصعب القضايا الشائكة، التي طالما واجهت النظام السياسي في العقد الأخير، وقد تمكّنت مطحنة التسوية من حلحلتها، فإن الملفّات المرشّحة للإنجاز اقتصادياً وإنمائياً في المديين القريب والبعيد، تبدو أكثر سهولة رغم حساسيّة كل ملف على حدة، ما يعني احتمال أن تكون البلاد على عتبة مرحلة ازدهار توقفت منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري.
بالطبع ليس المقصود من نقد مرحلة الانقسام السياسي توجيه اللوم إلى سياسات 14 آذار أو مكوّناتها السياسية، وقد كانت ولا تزال في قلب الصواب السياسي الذي لا بديل منه للحفاظ على الدولة والدستور والكيان. لكن عدم فصل السياسة عن الدولة، أي الصراع السياسي عن مؤسسات الدولة، حوَّل الأخيرة إلى رهينة تترنّح تحت رحمة هذا الصراع، بحيث انعكس هذا الانقسام سلباً على الدولة وعلى مؤسساتها وعلى شعار 14 آذار نفسه «العبور إلى الدولة».
حصل ذلك مع حلول شبح قديم – جديد يُدعى «الفراغ» في موقع رأس الدولة، جاء نتيجة للانقسام المُشار إليه وأدّى إلى مزيد منه انعكس ترهّلاً في كل مؤسسات الدولة، بحيث بلغت كلفة هذا الانقسام حدّ عجز الدولة عن جمع النفايات من الشوارع، لا بل خطر عدم قدرة عشرات آلاف العسكريين من قبض رواتبهم مرتين على الأقل.
على أن مفاعيل الانقسام لم تنسحب على الفراغ وتداعياته وحسب، وإنما شملت أيضاً تجربتَي حكم قادهما كلّ من معسكري 14 و8 آذار وباءتا بالفشل الذريع، مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي صُنّفت حكومة لـ14 آذار بعد انسحاب الوزراء الشيعة منها، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي وُلدت من رحم 8 آذار ودُفنت تماماً كما وُلدت.
إذاً، وبعد أن أنجبت التسوية العديد من الإنجازات، وضمن مهلة قصيرة من الزمن، لا بدّ من الإقرار بأن التسويات في بلد مثل لبنان، هي الخيار الوحيد المُتاح للإنجاز، تماماً كما كانت على امتداد التاريخ منذ الاستقلال: الانقسامات والصراعات ولّدت حروباً وويلات ما زال بعض من آثارها حيّاً حتى الآن كأزمة الكهرباء، أما التسويات فصنعت مراحل ازدهار يتوق اللبنانيون على الدوام إلى عودتها.
معنى ذلك أننا أصبحنا اليوم أمام تجربة جديدة ومشهدية سياسية جديدة لم يعد ممكناً الحكم عليها بالاستناد إلى القواعد السابقة التي كانت تحكم مرحلة الانقسام، كما يفعل بعض «الشعبويين الجدد» الذين يقوّمون تجربة الحاضر انطلاقاً من حساسيات الماضي، متجاهلين المساحات المشتركة الجديدة التي انخرطت فيها قوى وازنة والتوازنات الجديدة التي أنتجتها التسوية.
وإذا كانت تجربة 7 أيار المشؤومة أثبتت أن «فائض القوّة» لصاحبه «حزب الله» لا يمكن أن يكون حالة مؤبّدة في بلد محكوم بتوازنات دقيقة منذ تأسيسه، فإن التسوية الأخيرة أظهرت أن «فائض الوهم» لدى فريق آخر من اللبنانيين، أيّدوا التسوية أو عارضوها، لا يمكن إلاّ أن يصطدم بواقع هذه التوازنات التي لا مكان فيها للوهم فكم بالحرِي لفائض منه.
والسبب في ذلك بسيط وهو أن الإنجاز (المولود دائماً من رحم التسويات) لم يتأتّ يوماً من «طائفية سياسية» أو «مذهبية سياسية» أو «عائلية سياسية» أو «ريفية سياسية»، أي ولاءات ما قبل وطنية طالما تحكّمت بثقافة شريحة غير قليلة من طبقتنا السياسية، وإنما نَجَمَ على الدوام من «وطنية سياسية» عابرة لكل هذه الحساسيّات قفزت فوق الخاص من أجل العام. ولعلّ أبرز مَثَلين على تلك «الوطنية» في تاريخنا الحديث الرئيس الراحل فؤاد شهاب والرئيس الشهيد رفيق الحريري، اللذان وإن كان لكلّ منهما تجربته أو خصوصية المرحلة التي عايشها، إلاّ أنهما التقيا حول مشتركات كثيرة عابرة للخصوصيات (التعدّدية) اللبنانية التي طالما مثّلت نعمة ونقمة في آن.
هذه «الوطنية السياسية» التي أقرّ الكثير من اللبنانيين للرئيس سعد الحريري باعتناقها، بما في ذلك خصومه، في محطات كثيرة كان آخرها التسوية – «المغامرة» التي خاضها من أجل انتخاب رئيس وعودة الحياة إلى المؤسسات الدستورية، لم تأتِ من فراغ، وإنما من «فائض الاعتدال» الذي جنّبه على الدوام الانزلاق في فائضَي «القوّة» أو «الوهم».