لا هوية للإرهاب إلا الإرهاب. تتعدّد صور الضحايا، وهوياتهم وبلدانهم وقضاياهم وخياراتهم ويتوحدون بوصفهم ضحايا متساوين في انسانيتهم أمام جريمة الارهاب. من أطفال المدرسة الباكستانية الى صحافيي باريس، مروراً برواد مقهى جبل محسن، وأطفال سوريا والعراق واليمن وليبيا في دمار البلاد وقسوة النزوح.. ودائماً وأبداً في فلسطين الممنوعة على أهلها.
التصدّي للإرهاب واجب. لا مجال لأي تردّد في إدانة جريمة باريس، التي اجتمع العالم كله أمس لاستنكارها في تظاهرة تاريخية جمعت أكثر من مليونين يتقدّمهم كبار زعماء العالم، مثلما لا يمكن أن يكون هناك مجال لتردّد في مجال اتخاذ موقف في غاية الوضوح من جريمة جبل محسن، وقبلها تفجير المسجدَين في طرابلس وكل الاغتيالات التي استهدفت اللبنانيين الشرفاء من باب التكفير السياسي. ثمة رجال وقفوا منذ البداية ضد الإرهاب. يمثّل الرئيس سعد الحريري رمزاً لتلك المواقف. لا تفرقة بين ارهاب وإرهاب ولا تمييز بين ارهابي وإرهابي بصرف النظر عن الدين والمذهب.
لبنان شريك في الحرب على الإرهاب.. وهو ضحية لهذا الإرهاب مثله مثل دول كثيرة. لذلك لم يكن غريباً أمس أن ترفع بيروت صوتها ضد الإرهاب في تظاهرة حاشدة في ساحة سمير قصير تقدمها السفير السعودي علي عواض عسيري وشخصيات وزارية ونيابية وإعلامية، بالتزامن مع التظاهرة التاريخية في باريس، ولم تكن مصادفة أن يشيّع جبل محسن شهداءه، شهداء كل لبنان، بعد يومين من تشييع شهداء جريمة «شارلي إيبدو» في فرنسا.
إذاً احتشد ما بين 1,2 مليون و1,6 مليون متظاهر في باريس، و3,7 ملايين في كل أنحاء فرنسا وفق التقديرات الرسمية، في تظاهرات تاريخية، تعدت مجرد التضامن مع مجلة «شارلي إيبدو»، على الرغم من همجية ما جرى، إلى فضاء الإعلان عن أن حرية التعبير مقدسة يجب ألاّ تمس، حتى وإن شابتها خلافات في كيفية التعبير، وإلى صرامة رفض الإرهاب، أي إرهاب، وأياً كان مصدره.
وربما اللافت في ما جرى في فرنسا أمس، العزلة التي عاشها اليمين الفرنسي المتطرف، بعدم المشاركة في التظاهرة المركزية في باريس، وتنظيمه تظاهرة خاصة به في بلدة بوكير الصغيرة في جنوب فرنسا التي تضم 16 الف نسمة ويرأس بلديتها منذ اذار الماضي عضو في الجبهة الوطنية، وشاركت فيها زعيمة الجبهة مارين لو بن.
واعلنت وزارة الداخلية الفرنسية ان ما لا يقل عن 3,7 ملايين شخص شاركوا امس في فرنسا في مسيرات نددت بالاعتداءات الدامية التي ضربت البلاد خلال الايام الاخيرة، وهو رقم يعتبر الاكبر في تاريخ فرنسا بالنسبة لأي تجمّع.
وقالت الوزارة ان اكثر من 2,5 مليوني شخص احصوا في مختلف المدن الفرنسية، في حين ان تظاهرة باريس جمعت ما بين 1,2 و1,6 مليون حيث كان من الصعب تقديم ارقام دقيقة بسبب التدفق الهائل للمشاركين في المسيرة.
وشارك في المسيرة الباريسية نحو خمسين زعيم دولة، تقدمهم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي احاط به الرئيس المالي ابراهيم ابو بكر كيتا والمستشارة الالمانية انغيلا ميركل.
وشارك في المسيرة ايضا العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني وزوجته الملكة رانيا ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ورئيس الحكومة الايطالية ماتيو رينزي. كما شارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المسيرة التاريخية هذه، كما شارك أيضاً وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل.
واجمع المعلقون وحتى المشاركون في المسيرة على انها «تاريخية» و»لا تصدق» في معرض وصفهم لحدث غير مسبوق من حيث حجمه في العاصمة الفرنسية التي تشهد «مسيرة جمهورية» ضد الارهاب بعد سلسلة هجمات اوقعت 17 قتيلاً وعشرين جريحاً خلال ثلاثة ايام في فرنسا.
وقام عدد من قادة الدول بتحية الحشود وخاصة الذين كانوا على شرفات الجادة التي تقدمت فيها المسيرة.
وتدفق آلاف الاشخاص بعضهم بعيون دامعة الى ساحة الجمهورية نقطة انطلاق المسيرة. وكتب على لافتات رفعها المتجمعون ترحماً على ضحايا الاعتداءات الارهابية بباريس، «ارفعوا اقلامكم» و»حرية، مساواة، ارسموا، اكتبوا».
وتقدمت عائلات الضحايا المسيرة وسط اجراءات امنية مشددة بوجود قناصة على طول الطريق في العاصمة الفرنسية التي انتشرت فيها قوات الامن. ونشر اكثر من 5500 شرطي لضمان امن المسيرة التي انطلقت من ساحة لاريبوبليك (الجمهورية) لتصل الى ساحة لاناسيون (الامة). وتفصل بين الساحتين ثلاثة كيلومترات.
وجرت تظاهرات ايضا في العديد من العواصم الاوروبية والمدن الاميركية حيث تجمع الاف الاشخاص في مدريد ولندن وبروكسل وواشنطن وبيروت ورام الله تضامناً مع فرنسا.
والتقى في باريس على هامش المسيرة الضخمة المندّدة بالإرهاب، وزراء داخلية من اوروبا واميركا الشمالية، للبحث في سبل تعزيز مكافحة الارهاب، اكان عبر تشديد التدقيق على حدود الاتحاد الاوروبي او تبادل المعلومات حول ركاب الرحلات الجوية.
وقبل ساعات من انطلاق «المسيرة الجمهورية» في باريس، جمع وزير الداخلية الفرنسي برنار كازينوف 11 وزيراً من نظرائه في الاتحاد الاوروبي مع وزير العدل الاميركي اريك هولدر ووزير الامن العام الكندي ستيفن بلاني، في اجتماع «استثنائي» الهدف منه التأكيد على «الحزم في مكافحة الارهاب معاً«.
وقال كازينوف بتأثر «لن انسى طريقة وقوف الكل الى جانبنا» بعد الاعتداء الذي استهدف صحيفة «شارلي ايبدو« والاعتداءات التي تلته والتي اوقعت 17 قتيلاً.
وفي ختام اجتماع استغرق ساعتين صدر بيان مشترك شدد على ان المعركة ضد التطرف تقوم «على مكافحة التشدد خصوصا عبر الانترنت، وعلى تعزيز سبل التصدي لنشاط الشبكات الارهابية» خصوصاً عبر عرقلة تنقلاتها.
وقال الوزير الفرنسي في نهاية الاجتماع ان الملف المطلوب تنفيذه «سريعاً (…) هو تعزيز عمليات التدقيق في تحرك المواطنين الاوروبيين لدى عبورهم الحدود الخارجية للاتحاد الاوروبي».
اما وزير الداخلية الاسباني خورخي فرنانديز دياز فطالب من جهته بتعديل اتفاقية شينغن للتمكن من التدقيق في الهويات حتى عند عبور الدول الموقعة على هذه الاتفاقية، بهدف عرقلة تحرك المقاتلين الاسلاميين العائدين الى اوروبا.
واعرب الوزراء عن «قناعتهم بضرورة التقدم نحو وضع» نظام لجمع المعلومات التي يقدمها المسافرون الى شركات الطيران «ما يتيح تبادل معلومات عن ركاب الرحلات الجوية بين الدول الاعضاء».
وسيتيح هذا النظام «متابعة المتوجهين الى مناطق عمليات الارهابيين او العائدين منها» حسب ما قال الوزير الفرنسي مؤكدا «فائدته الاكيدة».
والموضوع الثاني الذي اثير خلال هذا الاجتماع هو دور شبكة الانترنت في تحول افراد عاديين الى التشدد والجهاد. ودعا الوزراء الى اقامة «شراكة» مع مشغلي الانترنت لتحديد وسحب «كل المعلومات الالكترونية التي تحض على الكراهية والارهاب والعنف».
وحرص الوزراء في هذا الصدد على التشديد على ان الهدف ليس فرض رقابة على الانترنت الذي يجب ان يبقى «مكاناً لحرية التعبير«.
كما دعا المشاركون في الاجتماع الى تحسين الرقابة على نقل الاسلحة النارية غير المشروعة داخل الاتحاد الاوروبي، والعمل على توجيه رسالة «ايجابية» لمواجهة الدعاية الجهادية.
وعلم من اوساط عدد من الوزراء المشاركين في الاجتماع ان اعتداءات باريس الاخيرة نوقشت للتوصل الى تجنب تكرارها، خصوصاً وان الولايات المتحدة كانت وضعت «منذ سنوات عدة» الشقيقين شريف وسعيد كواشي على لائحتها السوداء للإرهابيين.
واضافة الى الوزيرين الكندي والاميركي شارك في الاجتماع ايضا وزراء داخلية ليتوانيا والمانيا والنمسا وبلجيكا والدنمارك واسبانيا وايطاليا وهولندا وبولندا والسويد وبريطانيا، اضافة الى المنسق الاوروبي لمكافحة الارهاب جيل دي كيرشوف.
وعلى هامش هذا اللقاء اعلن وزير العدل الاميركي عقد قمة في البيت الابيض تحت اشراف الرئيس باراك اوباما في الثامن عشر من شباط لمناقشة «سبل مكافحة التطرف العنيف» في العالم.
وشهد العديد من مدن العالم امس تظاهرات تضامن مع فرنسا. في بروكسل تجمع نحو 20 الف شخص تحت شعار «معاً ضد الكراهية» في مسيرة بوسط العاصمة البلجيكية خلف لافتة كبيرة كتب عليها بالانكليزية «حرية التعبير».
في برلين تجمع نحو 18 الفا بعد ظهر الاحد امام السفارة الفرنسية في العاصمة الالمانية حيث اضيئت شموع ووضعت باقات زهور منذ مساء الاربعاء تكريماً لأرواح الضحايا ال17.
وحمل المتظاهرون الذين تحدوا الصقيع والذين جاء بعضهم مع اسرهم لافتات كتب عليها «برلين ايشت شارلي» (برلين هي شارلي) او «لا تفاوض على حرية التعبير».
وفي مدريد تجمع المئات في ساحة بويرتا ديل سول حيث لزموا دقيقة صمت قبل ان يرددوا النشيد الوطني الفرنسي ويرفعوا علماً فرنسياً ضخما.
وفي استكهولم تحدى ثلاثة الاف شخص الثلوج وتدني الحرارة الى دون الصفر، ومثلهم بضع مئات في اوسلو، للتعبير عن تضامنهم وقد رفعوا اقلاماً او اشعلوا شموعاً في خشوع صامت.
وفي لندن تجمع نحو الفي شخص امام المتحف الوطني «ناشونال غاليري» المطل على ساحة ترافلغار سكوير بوسط العاصمة البريطانية رافعين اقلامهم نحو السماء تضامناً مع ضحايا الاعتداء على اسبوعية «شارلي ايبدو« الفرنسية الساخرة ودفاعاً عن حرية التعبير.
في ايرلندا شارك الفا شخص في تظاهرة وقد حملوا لافتات «انا شارلي».
في اليونان تجمع 500 شخص في ساحة سينداغما امام البرلمان ونحو الف في سالونيكي حاملين لافتات تقول «انا شارلي».
وفي جنيف تجمع نحو 500 شخص في ساحة بلاس دو نوف كما تظاهر نحو الفي شخص في لوزان.
وفي روما تجمع نحو الف امام السفارة الفرنسية ردد بعضهم النشيد الوطني الفرنسي «لا مارسيياز» كما تجمع الف شخص اخر امام القنصلية الفرنسية في ميلانو (شمال).
وفي لوكسمبورغ تجمع نحو الفي شخص امام السفارة الفرنسية وفي العاصمة البرتغالية لشبونة تظاهر نحو 200 بينهم العديد من الاطفال.
وفي نيقوسيا تجمع نحو 150 شخصاً اضاؤوا الشموع وحملوا لافتات «انا شارلي» في ساحة لفتيريا بحضور السفير الفرنسي.
وفي رام الله، بالضفة الغربية المحتلة، تظاهر عشرات الفلسطينيين وسط المدينة تضامناً مع فرنسا وتنديداً بالعملية الارهابية التي استهدفت «شارلي ايبدو« .
وحمل المشاركون في التظاهرة وبينهم اعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وصحافيون لافتات كتب عليها « فلسطين تتضامن مع فرنسا ضد الارهاب».
في بيروت تجمع ايضا المئات للتعبير عن تضامنهم مع مسيرة باريس وحمل بعضهم اقلاماً ترمز الى حرية التعبير. وفي افريقيا تظاهر 200 الى 300 شخص في بوجمبورا، عاصمة بوروندي، «لرفض العنف». في الارجنتين تجمع المئات ظهر الاحد بالقرب من السفارة الفرنسية في بوينوس ايرس هاتفين «الكل متحد» او «انا شارلي».
وفي اميركا نظمت مسيرات صامتة في واشنطن ونيويورك وفي العديد من مدن كندا.