قُضي الأمر فانقضت مرحلة الترقب والتحليل والتأويل مع إضفاء رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري فسحة من «التريث» والأمل على أرض الواقع السياسي المأزوم، افساحاً في المجال أمام بلورة شراكة وطنية «حقيقية» تضع مصلحة لبنان فوق كل المصالح وتنأى به «جدّياً» عن نزاعات وصراعات الخارج بشكل يصون استقراره ويجدد الاعتصام بحبل «الطائف» دستوراً ووفاقاً وطنياً وصولاً إلى الابتعاد عن كل ما يُفسد للود قضية في العلاقات اللبنانية – العربية. هي «خارطة طريق» رسمها الحريري بتجاوبه مع تمني رئيس الجمهورية ميشال عون التريث في تقديم استقالته، علّها بخطوطها الوطنية العريضة تُشكل مدخلاً جدّياً للحوار المسؤول بين «أهل الربط والحل» في إعادة بناء الدولة وإعادة ترميم الثقة الأخوية المتبادلة بين لبنان والعرب. ولأنّه يثبت في كل خطوة يخطوها ألا همّ لديه أكبر من همّ البلد والناس، كان الحريري ظهر الأحد أمام «لحظة للتاريخ والجغرافيا» مع «أهل الصدق والوفا» الذين أمّوا «بيت الوسط» من كل أصقاع الأرض اللبنانية ليبايعوا زعامته ونهجه وخياراته على الملأ.. «ومن له عيون ترى فليرَ ومن له أذنان تسمع فليسمع».
إذاً، في يوم الاستقلال قال الحريري كلمته وقال الناس كلمتهم، لتُطوى بذلك صفحة الماضي بكل تردداته السلبية وتُفتح أخرى مشرعة الآفاق نحو المستقبل بكل انعكاساته وآماله المعقودة على روح التعاون الإيجابي بين مختلف المكونات الوطنية تحقيقاً لما فيه مصلحة لبنان أولاً وأخيراً. فصبيحة الثاني والعشرين المجيد، كان جمع الشمل الرئاسي على «جادة» الاستقلال لاستعراض قوى الشرعية، قبل أن ينتقل الحدث الاستقلالي إلى قصر بعبدا حيث عقد رئيس الجمهورية خلوة مع رئيس مجلس الوزراء الذي وصل القصر في سيارته برفقة رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليخرج الحريري بعد الخلوة معلناً التجاوب مع تمني عون «التريث
في تقديم الاستقالة والاحتفاظ بها لمزيد من التشاور في أسبابها وخلفياتها السياسية»، وأردف: «وطننا الحبيب يحتاج في هذه المرحلة الدقيقة من حياتنا الوطنية إلى جهود استثنائية من الجميع لتحصينه في مواجهة المخاطر والتحديات، وفي مقدمة هذه الجهود وجوب الالتزام بسياسة النأي بالنفس عن الحروب وعن الصراعات الخارجية والنزاعات الإقليمية وعن كل ما يسيء إلى الاستقرار الداخلي والعلاقات الأخوية مع الأشقاء العرب»، مشدداً على عدم جواز «التفريط بلبنان الأمانة التي أودعها الشعب اللبناني في ضمائر كل الأحزاب والتيارات والقيادات».
ومن القصر الجمهوري إلى بيت الوسط، حيث تقاطر عشرات الآلاف من مناصري «تيار المستقبل» ومحبي الرئيس الحريري ليجددوا الولاء والوفاء لنهجه الوطني وخياراته السياسية فكانت «لحظة القلب» التي لن ينساها الحريري كما أكد مخاطباً الوفود الشعبية التي أمّت دارته، شاكراً وعيهم وإدراكهم لأهمية الحفاظ على البلد واستقراره وأمنه، مضيفاً: «أنا باقٍ معكم ومستمر معكم لنكون خط الدفاع عن لبنان وعن استقراره وعروبته (…) ليس لدينا أغلى من بلدنا وشعارنا سيبقى لبنان أولاً».
وفي يوم الاستقلال أيضاً، كانت للحريري محطتان أساسيتان، الأولى من دار الفتوى حيث زار مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان مثمناً مرجعيته الوطنية وشاكراً مواقفه التي حصنت الوحدة الوطنية، والثانية في عين التينة حيث جدد الحريري بعد مشاورات دامت لأكثر من ساعة مع رئيس المجلس النيابي التأكيد على «النأي بالنفس» باعتباره «المبدأ الأساس لتجنيب لبنان المصاعب»، منوهاً بالإيجابية الكبيرة التي أبداها بري، وأوضح رداً على أسئلة الصحافيين: «أنا تريثت (في الاستقالة) لأنّ فخامة الرئيس طلب مني ذلك، ولأنني وجدت من الأفرقاء السياسيين إيجابية بالحوار والتشاور»، مشيراً إلى أنه وعون وبري سيرون «مع الأفرقاء السياسيين الآخرين كيف نصل إلى مكان معين»، وأردف: «برأيي قادرون أن نصل، وبرأيي أنّ الأشقاء العرب يفهمون موقفنا ويعرفون ماذا نحاول أن نفعل (…) نحن الآن في مرحلة تشاور وجس نبض، فقد أصبحنا في مكان حساس ويجب علينا أن نحل هذا الموضوع بشكل إيجابي».
وأمس، استقبل رئيس مجلس الوزراء في بيت الوسط رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي أشاد إثر اللقاء «بحكمة الشيخ سعد وأغلبية الفرقاء» لمعالجة «الظرف الاستثنائي الذي مرّ على البلد»، وأضاف: «علينا أن نتمسك بالاستقرار وتثبيت التسوية وتبين كالعادة أن أصدقاء لبنان وأصدقاء الشيخ سعد وأصدقاء الاستقرار كثر جداً في هذا العالم».
وكان «المستقبل» قد عقد اجتماعاً مشتركاً ظهر أمس جمع كتلته النيابية ومكتبيه السياسي والتنفيذي برئاسة الحريري في بيت الوسط، وخلص وفق البيان الذي تلاه نائب رئيس التيار النائب السابق باسم السبع إلى الإعراب عن الارتياح التام لعودة رئيسه «إلى موقعه الطبيعي في قيادة المسيرة السياسية والوطنية»، مثمناً تجاوب الحريري مع تمني رئيس الجمهورية التريث في الاستقالة من رئاسة مجلس الوزراء باعتبارها «خطوة حكيمة لأجل مزيد من التشاور حول الأسباب والخلفيات وإعادة الاعتبار لمفهوم النأي بالنفس والامتناع عن كل ما يسيء إلى علاقات لبنان بأشقائه العرب».
وإذ توجّه «المستقبل» بالامتنان والتقدير للحشود الشعبية التي تقاطرت من كل لبنان إلى بيت الوسط لتجدد الثقة بخيارات الرئيس الحريري، لفت إلى أنّ جمهور التيار «قدّم مشهداً وطنياً راقياً ورائعاً في الوفاء لزعامته وفي تأكيد التفويض لدورها ومكانتها في الشراكة الوطنية»، وختم: «إنه زمن التيار الأزرق الذي ينتفض مجدداً دفاعاً عن استقرار لبنان وسلامة العيش المشترك بين أبنائه وتحصيناً لعروبته في وجه المتطاولين عليها».
وفي نشاط الرئيس الحريري أمس، برزت مشاركته في افتتاح أعمال المؤتمر المصرفي العربي السنوي في فندق فينيسيا حيث شدد في كلمته على كون «المرحلة التي مرّت تشكل صحوة لنا جميعاً للنظر إلى مصلحة لبنان أولاً»، مع التأكيد على وجوب أن تكون «علاقاتنا مع أشقائنا العرب الأساس» وضرورة البحث عن «كل الوسائل للوصول إلى نأي حقيقي بلبنان ليس بالقول فقط ولكن بالفعل أيضاً».
على المستوى الدولي، تلقى رئيس مجلس الوزراء رسالة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمناسبة الاستقلال شدد فيها على وقوف بلاده بثبات مع لبنان الذي كان شريكاً قوياً مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب والتطرف، مؤكداً على مواصلة الدعم الأميركي لجهود لبنان وحماية استقراره واستقلاله وسيادته.
أما عربياً، فأجرى الحريري اتصالاً هاتفياً بأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح للاطمئنان على صحته وللتأكيد على العلاقة الأخوية بين الدولتين، كما تلقى اتصالاً من نائب رئيس الجمهورية العراقية أياد علاوي الذي أشاد بجهود الحريري للحفاظ على استقرار لبنان والنأي به عن الصراعات الإقليمية. في حين استقبل في «بيت الوسط» الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط الذي أبدى ثقته بأنّ «المستقبل سيحمل الكثير من الخير للبنان».
كذلك كانت للحريري مشاورات ديبلوماسية أمس، شملت السفيرة الأميركية إليزابيث ريتشارد والسفير الفرنسي برنار فوشيه.