بقلم: هاني حمود
قبل انقضاء القرن والألفية الماضيين بعام، أطلق رفيق الحريري جريدته، «المستقبل». يومها كان في المعارضة، في معركة ظاهرها مع إميل لحود، وحقيقتها مواجهة مع نظام الوصاية، ومع مشاريع متقاطعة لشفط النخاع الشوكي من وطن سحر رفيق الحريري بتركيبته وأهله وإمكاناتهما.
بعد ذلك بخمس سنوات، دفع رفيق الحريري ثمن وقوفه في وجه هذه المشاريع، بدمه. ولم تنتهِ المواجهة. تحوّلت جريدته من المعارضة إلى الثورة، ثورة اللبنانيين على واقع كان العالم كله يتواطأ على إقناعهم بأنّ شيئاً لا يمكن أن يغيّره، فإذا بهم يثبتون العكس.
ومنذ ذلك اليوم، واللبنانيون جميعاً، ومعهم جريدة «المستقبل»، يدفعون ثمن الصفعة التي وجهوها لتواطؤ العالم، كل العالم، ذات رابع عشر من آذار، وثمن انتصارهم على مشاريع القضاء على لبنان كما رآه شهيدهم، فيتلقون الضربة تلو الضربة والطعنة تلو الطعنة، لكن لا يركعون.
وبين إطلاق رفيق الحريري لجريدته، واليوم، عشرون عاماً. جيل كامل، ووقت كافٍ لتحولات عميقة، في الوطن والمنطقة والعالم. في التكنولوجيا، والإتصالات، والإعلام. في الكتابة، والأهم، الأهم: في القراءة.
لم نكن يوماً، في لبنان وعالم العرب إجمالاً، أبطال العالم في القراءة، لأسباب عديدة ربما لا مجال لتعدادها هنا. لكن الثورة التكنولوجية التي شهدتها السنوات العشرون الأخيرة – الجيل الكامل – غيّرت حتى في القليل من قراءتنا، وبخاصة للصحافة المطبوعة.
عشرون عاماً حوّلت جيلاً من القراء إلى مستهلكين يشعرون أنّ ١٢٠ حرفاً، أنّ كلمات لا يتخطى عددها مساحة شاشة هاتفهم الذكي، كافية لجعلهم يعرفون. فباتت معركة المحررين اليومية في جريدة «المستقبل» – كما كل صحف العالم على ما أفترض – إيجاد عنوان لا يشعر القارئ أنه رآه في الليلة السابقة، على شاشة هاتفه الذكي، بين رسالة نصية من قريب أو صديق، ومقتطف فيديو غريب وإن مركّب، رافقه إلى وسادة نومه.
وعشرون عاماً، أنتجت في نهايتها جيلاً جديداً، تحوّل من قارئ إلى ناشر، يُنافس الصحف بأخبار ينشرها هو، ويبارز كتابها بآرائه هو، على وسائل التواصل الاجتماعي. جيل لم يعد يقبل أن يقف بينه وبين الخبر محرر محترف في التدقيق باللغة والمعلومات والمصادر، ولا كاتب اعتنق الفكر قضية قبل أن يجرؤ على إبداء الرأي. جيل بعض معرفته من ١٢٠ حرفاً، ينشر الخبر ويبدي الرأي عبر الفضاء الرقمي المفتوح، حتى لو اختلط الخبر بالشائعة ولم يتجاوز الرأي الغريزة.
حسناً، غداً، يبدأ جيل جديد. جيل بلا… «مستقبل» في طبعتها الورقية، وجيل ستنتهي معه، عاجلاً أم آجلاً، كل الصحافة المطبوعة. عشرون عاماً جديدة، تبدأ اليوم، ولن تتنتهي فيها المواجهة. وستبقى فيها «المستقبل»، هذه المرة على منصة رقمية، تتنافس فيها مع قرائها – الناشرين الجدد، تتأقلم مع الفضاء الجديد، وتواكب ثورات التكنولوجيا، والإتصالات، خدمة لثورتها الأصلية، لثورة من أطلقها أساساً، في مواجهة المشروع الأصلي لقتل وطن، لا يموت، بل يتأقلم ويصمد، ويبقى دائماً شاخصاً إلى … «المستقبل».