Site icon IMLebanon

«الممانعة» تستهدف الاقتصاد.. و«الثقة» بلبنان

هلا صغبيني
بعد الانتخابات النيابية في أيار الماضي والعراقيل التي مورست ولا تزال، في وجه تشكيل الحكومة، كان الملف الاقتصادي (لا سيما الحديث عن انهيار مالي واقتصادي وتسارع الضغوط على الليرة والتغيّر الدراماتيكي في بنية الفوائد على الليرة والدولار وقدرة المصارف على استمرار تمويل عجز الخزينة والترويج لسيناريو اليونان في لبنان) «عدة شغل» فريق يريد أن يفرض شروطه السياسية على حساب مصير كل المواطنين، في سعي دؤوب متواصل من هذا الفريق إلى تفريغ الاقتصاد من مقوّمات جعلت منه طيلة السنوات الماضية، وباعتراف المؤسسات المالية الدولية، اقتصاداً مقاوماً على الرغم من كل الأزمات التي مرّت على لبنان بمختلف أبعادها الداخلية والإقليمية والدولية.

هي «عدة الشغل» عينها التي يمارسها فريق الثامن من آذار عند كل استحقاق سياسي. فهو يعتمد حملة مبرمجة منبرها إعلامه، يُشرك فيها اقتصاديين وخبراء ماليين يقومون بالترويج لأخبار غير دقيقة وكتابة تحليلات وتقارير تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار النار في الهشيم. يُشعلون حرباً غير مسؤولة على السياسة النقدية ومن يمثلها في مصرف لبنان ويطلقون شائعات عن إفلاس البلد بهدف نيل مرادهم حتى ولو أدت هذه الحرب إلى حرق البلد بأكمله. وهو ما قصده رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط حين قال في حديثه إلى الزميل مارسيل غانم في برنامجه «صار الوقت»: «الليرة لكل لبنان، الليرة ليست سنية أو شيعية أو درزية أو مسيحية، بل لكل لبنان، هنا الخطر وحينها نُدمَّر كلنا.. أتمنى أن يكون (الأمين العام لحزب الله) السيد حسن نصرالله ملماً بذلك».. وصولاً إلى إشارته قبل يومين إلى أنّ «بعض القوى في لبنان، التي استنهضت نفسها مجدداً، لا يهمها الاستقرار ولا الوضع الاقتصادي، ويبدو أن هذه القوى تريد إضعاف البنية الاقتصادية والاجتماعية للبنان لمزيد من السيطرة».

عند كل استحقاق سياسي، يوضع حاكم مصرف لبنان رياض سلامه في دائرة الاستهداف والتشكيك. تارةً «يُقال» من منصبه وطوراً يتم التعرض إلى صحته أو التركيز على استهداف الاستقرار النقدي في لبنان. هي حملات مستمرة ومستعرة منذ العام 2015 بعد القرار الأميركي بمكافحة تمويل «حزب الله» عالمياً. ففي العام 2016 مثلاً، وبعد صدور قانون العقوبات ضد «حزب الله»، بثت أخبار عبر إعلام الحزب مفادها أنّ سلامه استقال، وذلك تقاطعاً مع بيان لكتلة «الوفاء للمقاومة» يُبشّر بالانهيار المالي. استمراراً في العام 2017، شُنّت حرب شعواء في محاولة لعدم التجديد لسلامه وكانت الليرة سلاحها لكنها انتهت بإعادة التجديد له بعد استدراك القوى السياسية الفاعلة لخلفيات هذه الحرب ومراميها. في أيلول من العام 2018، وبعد قطوع الصراع على التجديد لسلامه، سرت موجات التشكيك بالوضع المالي. إذ بثت معلومات حينها وصفت بالـ«مؤكدة» عن أنّ سلامه وضع استقالته في تصرف رئيس الجمهورية وأنه عزا خطوته هذه إلى الظروف الاقتصادية والمالية التي تحتاج إلى متابعة دقيقة ومستدامة وهو ما لا تسمح به الظروف الشخصية لسلامه. معلومات نفاها سلامه مؤكداً أنّ صحته جيدة، ووضعها في خانة «الشائعات التي تهدف إلى زعزعة الوضع النقدي الجيّد»، مدعوماً بتغريدة لرئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري قال فيها: «لم يبقَ أمام المتحاملين على وطننا إلا بث الشائعات الكاذبة حول صحة رياض سلامه! ألتقيه دائماً، وأكلّمه يومياً واتصلت به للتو: صحته حديد والحمد لله».

أيضاً وأيضاً في استمرار للحملة نفسها، تحوّل الحدث الاقتصادي اللبناني فجأة محور اهتمام الوكالات والصحف الأجنبية العالمية حيث أصبح الحديث يدور حول مدى قدرة لبنان على السداد وعن احتمال إفلاسه. سبب هذا الاهتمام تصريحات من قوى 8 آذار وإعلامها حول إعادة هيكلة الدين العام وإعادة جدولته، ما كبّد لبنان وسنداته في الخارج وفي فترة قليلة، خسائر كبيرة بملايين الدولارات وأفقد ما تبقى من ثقة موجودة لدى المستثمرين باقتصاد لبنان وبقدرته على الصمود. هذه التصريحات نفسها ركنت إليها وكالة «موديز» للتصنيف الدولي في خفض تصنيف لبنان إلى مرتبة CAA1 والتي تشير إلى ارتفاع مخاطر قدرة لبنان على الإيفاء بديونه. علماً أنّ تقرير الوكالة جاء بعد ساعات على إعلان قطري لشراء سندات يوروبوندز لبنانية بقيمة 500 مليون دولار لم يأتِ ذكره في تقرير الوكالة.

واللافت اليوم في سلسلة الحملات المُبرمجة، إقحام القطاع المصرفي من خلال الترويج لعدم قدرته على تمويل عجز الدولة، ما يفاقم نظرية عدم القدرة على السداد. لكن ما تم التغاضي عنه هو تنويه جميع تقارير المنظمات والمؤسسات الدولية المختصة، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين، بمناعة القطاع المصرفي في وجه الأزمات الداخلية والخارجية وبقدرة المصارف على الاستمرار في جذب الودائع لتُساهم بذلك في سدّ العجز في كل من الموازنة والميزان التجاري وفي المُحافظة على الاستقرار الاقتصادي والمالي في البلاد. عدا عن إشادة صندوق النقد الدولي بمصرف لبنان لـ«دوره الحيوي في جذب تدفقات الودائع الداخلة وفعاليته في إدارة الوضع الصعب الذي يواجهه».

المشكلة ليست في الوضع النقدي، بل مالية بامتياز. فعجز الموازنة مرتفع أكثر من إمكانات لبنان، يُضاف إليه عجز آخر مهم وهو ذاك الناتج عن الاستيراد أي العجز في الحساب الجاري. هذان العجزان المزدوجان يفرضان ضغطاً دائماً على معدلات الفوائد وعلى إمكانات التمويل الداخلة إلى لبنان. فعجز المالية العامة الذي ارتفع بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب يجب أن تموّله الدولة، لكن تمويله بات أكثر تكلفة، خصوصاً أنّ الفوائد ارتفعت عالمياً وواكبتها معدلات الفوائد في لبنان لكن بمستوى أعلى، بمعنى أنّ الحاجات الموجودة لتمويل الدولة باتت أكبر بكثير.

باختصار، لا يتوانى فريق «الممانعة» عن استخدام كل أسلحته وأدواته غير المشروعة ويجعلها محط أنظار الدوائر العالمية لجهة استعماله «المحرّمات» في التفاعلات الوطنية، خصوصاً أنها تنال من الاقتصاد الوطني وتُنذر بأزمة معيشية كبرى لا تستثني أحداً.. ناهيك عن تضعضع الثقة الدولية بلبنان وقد أتت باكورة معالمه بالأمس من باريس التي دقّت ناقوس خطر واضح ينبّه السياسيين اللبنانيين إلى ضرورة الإسراع في إنهاء هذا «الوضع السوريالي والمأزق السياسي الذي وضعوا أنفسهم فيه»، حسبما جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان محذراً من أنه «بسبب هذه المأزق السياسي لا نستطيع الوفاء بكل الالتزامات التي قطعناها للبنان، بما في ذلك المالية منها».