موقف كرامي یؤسِّس لأرضیة إیجابیة ویحمي المرتفعات الإستراتیجیة من الإختراقات الأمنیة
لا یمكن مقاربة ملف القرنة السوداء والأحداث الجاریة من دون تحلیل الأبعاد الإستراتیجیة والسیاسیة التي حملتها التطورات المرتبطة به، سواء لجهة إندلاع الخطاب الطائفي والتحریض المناطقي، أو لجهة البحث في عمق هذه المظاهر الملتبسة والملیئة بعناصر التفرقة والتفجیر.
فمن الناحیة الشكلیة، إستحضرت كل أشكال التعبیر الطائفي، وعدنا نقرأ ونسمع مصطلحات «الجبل الماروني» وإستعادة رفع الصلیب على القرنة، مقابل قدوم شباب من الضنیة أقاموا الصلاة وأعلنوا أنهم سیصلون الجمعة في البقعة التي تشهد النزاع، وكل هذا حصل بالتوازي مع تخریب نصب الجیش الموجود في تلك النقطة، وهذا مسارٌ مخالفٌ لطبیعة العلاقة السائدة بین أهالي بشري والضنیة..
عند التدقیق في مسار الأحداث، بات مؤكداً أن هناك من أراد تفجیر الموقف، من خلال خطةٍ مدروسة، تتمثل في نقل الأعمال من بركة العطارة المتفق علیها والمتوافرِ تمویلُها، إلى بركة سمارة، الكائنة في منطقة مصنفة بأنها من المناطق الطبیعیة الخاضعة لحمایة وزارة البیئة؟
كیف أمكن تصویر الإعتراض من بلدیة بشري على نقل الأعمال إلى هذه المنطقة على أنه عملٌ معادٍ لأهل الضنیة، وهل أبناء الضنیة على درایة بخلفیات وبأهداف هذه العملیة؟
أین أصبح العمل في بركة العطارة، ولماذا تجاهل ما وصلت إلیها الأعمال فیها وضرورة إستكمالها؟
مع العلم بأن الخلاف على تحدید المساحات العقاریة یسلك مساره القضائي وأعلن الطرفان قبولهما بنتائج حكم القضاء، وبالتالي فإن تسعیر الخلافات بهذا الشكل كان الهدف منه إشعال فتنة كبرى من شأنها أن تطیح بالسلم الأهلي..
في البعد السیاسي، كان حضور رئیس كتلة نواب «حزب لله» في دارة حلیفه النائب جهاد الصمد لافتاً، خاصة أن قدوم رعد جاء عشیة زیارة النائبین ستریدا جعجع وجوزیف إسحاق للرئیس نبیه بري.
یذكر العارفون بأن «حزب الله» یضع عینیه على المرتفعات الإستراتیجیة لمنطقتي بشري والضنیة، وهو سعى لإنشاء نفقٍ یربط الهرمل بعكار، لیس بخلفیةٍ إنمائیة، وإنما بهدف إسقاط القیمة الدفاعیة للمناطق الجبلیة في الضنیة وجوارها، وتسهیل إنتقال مقاتلیه إلیها عند اللزوم.
فخٌ أمني – سیاسي
تتجمع معطیات تدفع للإعتقاد بأن ما كان یجري هو نصبُ فخٍ أمنيّ سیاسيّ لإیقاع الصدام بین أهل السنة والموارنة السیادیین في بشري، في إستغلالٍ فاضح لإشكالیة الخلاف العقاري القائم منذ عقودٍ طویلة.
تمكنت القوات من ضبط شارعها، لكن حلفاء «حزب الله» في بشري قاموا بملاقاة حلفائه في الضنیة، لیدفعوا بإتجاه الصدام، في مسعى لتكرار حادثة الجبل، قواتیاً، وللسماح بحصول إختراقاتٍ أمنیةٍ وسط الفوضى المنتظرة مع إندلاع المواجهة.
لا یمكن التساهل أو التخفیف من خطورة ما جرى، وإن كان الجیش قد حوّل قمة القرنة السوداء إلى معسكرٍ للتدریب، مانعاً الجمیع من إستخدامها ساحة للمنازلات، وهي خطوة حكیمة ومطلوبة، فإن هذا لا یعني عدم التدقیق بمسار هذه القضیة.
الوعي السیاسي:
آن الأوان
في ختام النقاش، یمكن إستخلاص الآتي:
– عقاریاً: إن الخلاف العقاري حول حقوق قضاءي الضنیة وبشري یسلك مساره القضائي، والطرفان سیقدمان ما یمتلكان من أدلة تؤكد الحقوق، والحكم سیكون في النهایة بما یتوصل إلیه القضاء. وهذا المسار هو الطریق الصحیح لإنهاء هذا الخلاف، ولا یجب إرفاقه بأي تصعید میداني.
– بیئیاً: وبغض النظر عن النتائج في حقوق الملكیة العقاریة، فإن القرنة السوداء، لبنانیة، وهي محمیة طبیعیة لا یجوز العبث بها ولا إخضاعها للصراعات، والواجب هو إبقاؤها على نقائها ومنع تلویثها بأي شكلٍ من الأشكال.
– معیشیاً: إن ترمیم بركة العطارة، یحل مشكلة المیاه أهل الجرد في الضنیة، ویئد الفتنة المشتعلة عمداً بسبب الأشغال في بركة سمارة، فالواجب إستكمال الأعمال النهائیة في بركة العطارة، والتراجع عن ضرب المنظومة البیئیة من خلال المشروع الجدید البعید عن المواصفات البیئیة الضروریة.
– سیاسیاً: آن الأوان لأن یتمتع اللبنانیون جمیعاً بالوعي الكافي لفهم وإدراك اللعبة التي یستمر حلف الممانعة في إدارتها، وهي تسویق الفتنة والتفرقة، ولو تحت شعاراتٍ دینیة یقوم بإثارتها أتباعه من كل الجانبین، للوصول إلى هذه المناطق الإستراتیجیة، وهذا غیر ممكن إلا من خلال إذكاء الصراع بین بشري والضنیة.
وبینما یخترق «حزب الله» المناطق السنیة، یتراجع تیار المستقبل، حتى كأنه غیر موجود، كما هو الحال في أزمة القرنة السوداء. في السیاق السیاسي والإجتماعي أیضاً، فإن دور المجتمع المدني في الضنیة وبشري یجب أن یكون فاعلاً وواضحاً في التصدي لكلّ أشكال الفتنة، ویجدر برواد هذا المجتمع التحرك لرأب الصدع ودفن الفتنة، وتحمیل عیدان ثقابها لحمّالي الحطب من النواب والوزراء، ولیبني هؤلاء «حیطانهم»، بعیداً عن سماء الضنیة النقیة وعن أرض بشري الأبیة.
فالأهم في كل هذا المحافظة على الوحدة الوطنیة ورفض الإنزلاق إلى التناحر الطائفي والمناطقي، وإذا كان النائب فیصل كرامي قد سلّم باللجوء إلى القضاء، فلماذا الإنجرار إلى التصعید المیداني.
ربما تكون هذه الأحداث فرصة لرأب الصدع الوطني من خلال التفاهم على مصالح أبناء الضنیة وبشري، وكلام النائب كرامي یؤسّس لأرضیةٍ إیجابیة ویحمي المرتفعات الإستراتیجیة من أي إستغلال أمني لغیر أبناء المنطقة، فالجمیع بحاجة إلى المصالحة وإطلاق مبادرات التضامن والتنمیة.