أطلق البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي صرخته الشهيرة، داعياً إلى حياد لبنان الإيجابي وعدم أخذه إلى محور سيغيّر وجهه، ما دفع بعض القوى إلى محاولة إستيعاب الصدمة التي أحدثها سيّد الصرح.
لم يكن أحد يتوقّع أن يخرج الراعي بهذا الموقف القويّ الذي وضع الإصبع على جرح لبنان النازف منذ سنوات، فأزمات لبنان بمعظمها، وعلى رغم الفساد الموجود، مرتبطة بأزمات الإقليم وصراعاته. في السنوات الأخيرة، شهد لبنان محاولات تحييد عدّة عن الصراعات الإقليمية، فكانت الـ “س – س”، من ثمّ اندلعت الحرب السورية فأتى مصطلح “النأي بالنفس” و”إعلان بعبدا” الذي تبنّاه مجلس الأمن الدولي في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، لكن شراسة الحرب السورية والليونة الأميركية تجاه إيران حينها، ومن ثمّ تدخّل “حزب الله” والميليشيات الشيعية العراقية لنجدة النظام السوري أسقطت “النأي بالنفس” نهائياً، وما صعّب الموقف أكثر هو دخول “حزب الله” أيضاً في صلب الحرب اليمنية وقيادته جبهة مواجهة السعودية والدول العربية، فسقطت عندها كل مصطلحات التحييد والحياد والنأي.
وأمام استمرار “حزب الله” في أخذ لبنان إلى عمق المحور السوري – الإيراني وتغطية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لـ”الحزب” ما تسبّب بغضب عربي ودولي على لبنان، وبات البلد يعيش شبه حصار، ومن ثمّ إندفاعة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله شرقاً والتخلّي عن الغرب، قال الراعي ما قاله وأحدث تردّدات محلية وإقليمية ودولية قوية. ويحاول عدد من أفرقاء 8 آذار والحكومة الإلتفاف على كلام الراعي ومطلبه الوطني الجامع، إذ باتوا يفسّرونه بما معناه أن البطريرك يطالب بالعودة إلى “النأي”، أو أقلّه تحييد لبنان عن الصراعات، في حين أن الحكومة الحالية تتواصل مع الجميع ويمكن الفصل بينها وبين سلوك “حزب الله”.
لكن بكركي تردّ على كل هذه المحاولات الإلتفافية، إذ تؤكّد أن البطريرك الراعي لم يقل كلاماً عادياً أو يخرج بموقف سياسي من ملف مطروح، بل طرح على أعتاب المئوية الأولى لولادة لبنان الكبير حلاً جذرياً للأزمة اللبنانية، وهو الحياد الإيجابي الذي يُجنّب البلاد الويلات. وتشدّد بكركي على أن الحياد لا يعني الإستسلام أو المهادنة مع أي أعداء يحاولون إحتلالنا وعلى رأسهم إسرائيل، بل إنه يعني أن نصوغ علاقات مميزة مع كل دول العالم من دون أن تتدخّل هذه الدول في شأننا الداخلي، أو أن يشكّل أي فريق أو مكوّن لبناني نقطة نفوذ لأي دولة خارجية أو يستخدم الساحة اللبنانية لتوجيه الرسائل.
وتؤكّد بكركي ان كلام الراعي واضح وضوح الشمس ولا داعي لتأويله أو تفسيره على غير ما هو عليه، وهو يتوجّه إلى كل المكوّنات اللبنانية والمسؤولين وليس إلى الحكومة فقط، لأن هذه الحكومة قد ترحل غداً، وبالتالي فإن الجميع بات أمام مسؤولية وطنية جامعة وهي إنقاذ الوطن وعدم وضعه رهينة في لعبة التفاوض أو الصراعات الكبرى، فكما أنقذت سويسرا نفسها بالحياد يمكننا فعل ذلك على الطريقة اللبنانية، فلبنان كان سويسرا الشرق وبات اليوم منهاراً.
ترى بكركي أن على رئيس الجمهورية مسؤولية كبيرة في ما يحصل، فلبنان لا يمكنه أن يكون مع محور ضدّ آخر أو أن تكون أرضه حقل تجارب للصواريخ، في حين أن شعبه يموت من الجوع ويحلم بالهجرة بدل بناء الوطن، وبالتالي فإن فك الحصار عن الشرعية هو إحدى أهم مسؤولياته، ويجب العمل على بسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وعدم وجود جماعات مسلحة تأسر الدولة، فعصر الإستقواء بالسلاح غير الشرعي يجب ان ينتهي كي تنطلق ورشة بناء الدولة والمؤسسات.
إستشعر الراعي بخطر تغيير وجه لبنان الحضاري الذي كانت بكركي والرهبانيات المارونية إحدى أهم ركائزه، فكانت إنتفاضته الشهيرة ضد حصره بالتوجه شرقاً، والتي ستتفاعل في الأيام والأسابيع المقبلة، خصوصاً أن الترقيع لم يعد ينفع والمطلوب حلّ جذري يُنهي كل مظاهر الدويلة داخل الدولة.