بينما تعجز المؤسسات الدستورية عن لعب دورها الإنقاذي وتتغاضى عن المشكلة الأساسية التي تضرب البلاد دافنةً رأسها في الرمال، تحرّك البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي لإنقاذ لبنان الكبير الذي يواجه حرب تغيير هويته.
إختار البطريرك الماروني اللحظة التاريخية الأهم ليضرب ضربته متخطياً كل الحواجز النفسية والسياسية التي توضع أمامه، وعاد إلى الجذور وإلى المقرّ الأهم للبطاركة الموارنة على مشارف الوادي المقدّس مقابل أرز الربّ وصخور الجبّة ليقول ما قاله عن الحياد، وليفتح اللعبة السياسيّة على مصراعيها، ولتشكّل بكركي والديمان محجّاً لأهل السياسة والسفراء والداعمين لمواقفه وحتى المستفسرين عنها.
والأكيد أن الراعي، بحسب تأكيدات بكركي، مصرّ على موقفه الداعي إلى الحياد وكرّره في عظة الأمس، لأنه يعتبره خشبة الخلاص لبلاد الأرز، وبالتالي فإن المراهنين على تبديل البطريرك لمواقفه يأتيهم الجواب من الصرح البطريركي بعبارة لطالما ردّدها الموارنة في الجبال وهي “وُلِدنا في الصخور ورؤوسنا كالصخور”.
إذاً، الديمان هي وجهة كل سياسي أو سفير يريد أن يستفسر أو يدعم مواقف بطريرك الموارنة، وكان الراعي، وإحتراماً لمقام رئاسة الجمهورية طلب خلال زيارته الاخيرة من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون التحرّك لإنقاذ الوضع، لكن البطريرك لم يحصل على جواب واضح من عون لأن الأخير يعتبر أنه يتصرف من موقعه كرئيس للجمهورية ويجب ان يكون على تواصل مع الجميع بمن فيهم “حزب الله”، في وقت يرى الصرح البطريركي أن الأمور لا تحصل بـ”كبسة زرّ” وعلينا ان ننتظر كيف ستتصرف بعبدا وبقية المؤسسات في المرحلة المقبلة. لكن الإستنتاج يبقى حتى إشعار آخر أن العهد لن يغيّر سياسته الخارجية ولن يلاقي بكركي إلى منتصف الطريق لتحويل الحياد إلى أمر واقع، والنتيجة الاساسية هي أنه لا فكّ ارتباط بين العهد و”حزب الله”، والسياسة الخارجية ستبقى كما هي، وسيبقى المسؤولون يأخذون لبنان رهينة للمحور الإيراني.
وحملت زيارة رئيس “التيار الوطني الحرّ” النائب جبران باسيل إلى الديمان دلالات عدّة، وإذا تمّ ربطها بالمواقف الاخيرة لـ”التيار” ونوابه من بعض سلوك “حزب الله” فإن هذا الأمر يدعو إلى القراءة بين سطور خطاب باسيل من الديمان وتأييده للحياد ودعمه مواقف الراعي غير المرحّب بها من “حزب الله”، في حين يرى آخرون أن موقفه المؤيّد لكلام الراعي حمّال أوجه ويحمل دلالات غير جدية، خصوصاً خلال قوله أنه طبّق ما ينادي به البطريرك من حياد خلال توليه وزارة الخارجية، بينما الحقيقة أن أحد أسباب القطيعة مع الدول العربية هو تحوّل باسيل إلى وزير خارجية النظام السوري و”حزب الله” وإحداثه إشكالات مع العرب، كما أن كلامه يحمل تحذيراً مبطناً من أن الحياد قد يُحدث مشاكل داخلية وأزمات جديدة تزيد التأزم بدل أن تكون مشروع حلّ.
أما اللقاء المهم الآخر فقد حصل يوم السبت بعدما طار رئيس الحكومة حسّان دياب إلى الديمان للإطلاع على موقف الراعي، وبعيداً من المجاملات والكلام الملطّف، فإن الراعي أبدى عدم رضاه عن أداء الحكومة، وكرّر هذا الامر في عظته أمس، لأن الحكومة الحالية لم تجد أي حل للمشاكل الإقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد، خصوصاً أن الوضع الإقتصادي، كما الإجتماعي، يزداد تردياً والحكومة غائبة عن المعالجات الجذرية، كما أنها لم تقم بالإصلاحات المطلوبة في مؤتمر سيدر والتي يحتاجها الشعب، ولم تقم بأي خطوة أيضاً لإصلاح علاقات لبنان بالعالم الغربي والعربي، وبالتالي فإن لقاء الراعي – دياب، وإن كان هناك توافق على أهمية فهم الجميع لمبدأ الحياد وتطويره، إلا أنه لم يأتِ بنتيجة حاسمة أو وعد من قبل دياب بأن حكومته ستعمل وفق نصائح البطريرك في ما خصّ السياسة الخارجية.
أما الإيجابية الأساسية فتمثلت بالإحتضان الشعبي والسياسي من قِبل “القوات اللبنانية” لمواقف الراعي، خصوصاً أنه حصل لقاءان في أقل من 24 ساعة بين رئيس حزب “القوات” سمير جعجع والبطريرك الراعي، الأول في حدث الجبة والثاني في الديمان، وأبدى جعجع كل الدعم لمواقف الراعي والعمل وفق خريطة طريق لتحقيقها، بينما أكد البطريرك ثباته على مواقفه التي يستلهمها من أسلافه البطاركة، ومن شهداء المقاومة اللبنانية الذين وقفوا على خطوط النار لحماية الكيان.
وبعد الزيارات المتتالية للشخصيات السنية وعلى رأسهم الرئيس سعد الحريري وتأييد المجلس المذهبي الدرزي لخيار الحياد، باتت مواقف الراعي عابرة للطوائف لأنها وضعت الإصبع على الجرح وأشارت إلى المشكلة الأساسية التي يعاني منها لبنان، وهي إدخاله في سياسة محاور لا يريدها، ومصوّباً على “حزب الله” الذي يهيمن على السياسة اللبنانية ويُدخل البلد في سياسة المحاور.
ولم تنفع زيارة السفير الإيراني محمد جواد فيروزنيا في الحدّ من إندفاعة الراعي، إذ كان السفير مستفسراً عن ماهية مواقف البطريرك والغاية منها، فشرح له الراعي الأسباب التي دفعته إلى اتخاذها ورفضه حشر لبنان في محور محدّد لا يريده، وتأكيده الإصرار على عودة لبنان إلى هويته وعلاقاته الطبيعية مع الغرب والدول العربية، وعدم مساومته على إستقلال البلد وسيادته، فخرج فيروزنيا من اللقاء وأدلى بكلام ديبلوماسي لا يعكس جو اللقاء قائلاً إن بلاده لا تتدخل في شؤون لبنان. وقد ردّد الراعي على مسامع السفير الفرنسي برونو فوشيه مطالبه خلال قداس عيد القديسة مارينا، علماً ان فرنسا داعمة لمواقف الراعي، وسيجتمع البطريرك مع وزير الخارجية جان ايف لودريان لشرح الموقف وطلب المساندة في رحلة الحياد الطويلة والصعبة. وإذا كانت إنتفاضة سيد الصرح لاقت إستحساناً محلياً، فإن العرب وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية توقفت عند هذا الكلام، والذي فرمل إندفاعة من كان يريد أن يأخذ البلاد شرقاً، وما لقاءات الراعي مع السفير وليد البخاري سوى تعبير عن الحرص العربي لعودة لبنان إلى حضنه الطبيعي. وتُبدي بكركي إرتياحها لتلك اللقاءات خصوصاً وأن العرب لن يتخلّوا عن لبنان شرط العودة إلى الحياد، وأن المساعدات المالية الكبرى حاضرة لكن بعد تحرير الدولة من سيطرة الدويلة وإخراج لبنان من المحور المعادي للعرب. فتحُ الراعي ثغرة في جدار الأزمة يحتاج إلى متابعة عملية وعربية ودولية، ويبدو أن الدول الناشطة مثل الفاتيكان والسعودية وفرنسا قد تلقّت كلام الراعي بمضمونه الحقيقي، وبدأت التحرك من أجل العمل وفق مقتضيات هذا الكلام وتحييد البلاد عن صراعات المنطقة وحروبها.