قزي: كلّما عارضوه أكثر أصبح صلباً أكثر
منذ أطلّ غبطته عبر نافذة الصرح ليقول “عاش لبنان” حتى “كشّر” كثيرون عن أنيابهم وراحوا يرشقون الصرح بتفاهاتٍ جاهزة وبحساباتٍ وظلامات. لكن، من يعرف بكركي و”سيّاد” بكركي يعرف أنه في كلِ مرة اشتدّت فيها الرياح العاتية على لبنان واللبنانيين وقفت بكركي رافعة عصاها بحبٍّ وبحزم. كيف لا وهي الراعية و”الراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف ولا يتركها للذئب ليخطفها ويبدّدها”.
بدل أن يصغوا بإمعانٍ، هبّوا، كما الذئاب، لينقضّوا على كلام سيّد بكركي البطريرك بشارة الراعي. هكذا هم لا يسمعون. فمن ظنّ أن لبنان، بكليتِهِ، “من فوق لتحت ومن تحت لفوق”، بات سجين “أهوائه” لن يتنازل بسهولة عن مكتسباتٍ أخذها تحت ذرائع “المقاومة” والتهديد بـ”الويل والثبور وعظائم الأمور”.
بكركي دقّت ناقوس الخطر. هي فعلت ذلك في كلِ مرة شعرت بزحف الخطر على لبنان، كل لبنان. واللبنانيون، على اختلاف مللهم، باتوا يعرفون أنه حين “تُظلم” الدنيا وتبهت كل الحلول وتشتدّ الضائقة، هناك صرح يلوذون إليه ويتكلم كلمة الحقّ.
اللبنانيون، المسيحيون منهم وغير المسيحيين، تذكروا أول البارحة، في 27 شباط 2021، أحد أيام آذار 2001، مع فارق مرور عشرين عاماً، ووقوف بطريركين مختلفين كما الرمح في المناسبتين. يومها، قبل عشرين عاماً، رفع المتظاهرون، كل المتظاهرين، شعار “الإنسحاب السوري الآن” و”عدالة وحريّة واستقلال”. العونيون كانوا هناك. هتفوا. ورفعوا صور ميشال عون. القواتيون كانوا أيضاً هناك. هتفوا. ورفعوا صور سمير جعجع. المسيحيون يومها التقوا بعد خلاف. وعادوا اليوم وتفرقوا. لكن بقيت بكركي، أمس واليوم، حين تتكلم (حتى ولو غاب عنها من غاب) “بتحكي صحّ”.
كلام سيّد الصرح أتى أول البارحة واضحاً وضوح الشمس، وهو ذهب بكلامِهِ ابعد حتى مما توقعه الأقربون قبل الأبعدين. ففاجأ “حزب الله” الذي بدا، بردات فعله الأولى، في ضياع. فما رفعته بكركي يرفعه كل إنسان لبناني حرّ. واللبنانيون جميعاً يشعرون اليوم بالضعف والقهر ويريدون تثبيت الكيان اللبناني المعرّض للخطر ويستشعرون محاولات إنقلابية ويريدون الدولة الحقّة والسيادة والسلام والحياة الكريمة والعدالة ومشروع الحلّ لا القتال. العونيون، كما القواتيين، كما السنّة وكثير كثير من الشيعة، يريدون حلولاً تنشلهم من قعر القعر. وطبيعي ألّا يعجب كل ذلك من يظنون أنهم باتوا ممسكين بإحكام، بالرقاب والبلاد.
لبنان أولاً وأخيراً. شعارٌ رفع عالياً في بكركي. ماذا بعد؟
تُرى هل أرسى البطريرك بشارة الراعي بعد ظهر 27 شباط مدماك حلّ أم أسّس لخلاف؟
يستغرب الوزير السابق سجعان قزي موجة الردود الكثيرة على كلام البطريرك بشارة الراعي على قاعدة “عنزة ولو طارت” ويتحدث عن نقطتين يفترض ألّا تغيبا عن بال أحد وهما:
أولاً، كلما واجه البطريرك معارضة، لمجرد المعارضة، بهذه الطريقة كلما أصبح موقفه أكثر صلابة من قبل.
ثانياً، يفترض أن يلاحظ معارضوه أنهم كلما عارضوه زاد التأييد الشعبي العابر للطوائف له. وكل من كان يُشكك بذلك لا بُدّ أن يكون قد أعاد حساباته بعد الحشد الشعبي المتعدد الأعمار والأهواء والإنتماءات والأحزاب والمناطق الذي أتى ليؤكد مدى الإلتفاف الشعبي حول سيّد بكركي.
لا للمغامرات. لا للإنقلاب على الكيان. نعم لجيش لبناني يدافع وحيداً عن لبنان… من خطاب البطريرك في 27 شباط. فهل بكركي التي لم تعتد اللفّ والدوران قررت أن تضع النقاط على كل الحروف مذكرةً “حزب الله” مباشرة أنه ليس الحاكم بأمر البلاد والعباد؟ يجيب قزي “لا أحد يمكنه نكران أن لبنان يعيش حالة إنقلابية، ليست عسكرية كلاسيكية بل هو انقلاب على الدولة والسلطة وعلى كل ما يمثله لبنان كوطن وصيغة ديموقراطية وشراكة وجسر عبور ودولة مدنية. نحن نعيش اليوم إنقلاباً على كل محاور الحياة الوطنية وهذا ما يقلق بكركي التي تستشعر جيداً مدى خطورة ما نحن فيه. ثمة نظام شمولي يحاول السيطرة على دولة غير شمولية. ثمة نظام غير ديموقراطي يحاول أن يستلم دولة ديموقراطية. ثمة نظام أحادي يريد القضاء على دولة تعددية. هذا ما يحصل اليوم وهو ما يحذّر منه البطريرك بشارة الراعي”.
كلام البطريرك ليس موجهاً فقط الى “حزب الله” بل الى كل الدولة اللبنانية وكل من يدورون في فلك “حزب الله” أيضاً من مشاركين وصامتين ومتواطئين. هو أراد أن يقول الى كل هؤلاء “أنظروا بإيجابية الى طروحاتنا وتعاطوا معها بإيجابية وذلك من أجل مصلحة الجميع. أراد أن يقول أيضاً (لمن لم يفهم) وجوب وضع حدّ لهذا الإنقلاب الممنهج الجاري من لبنان الديموقراطي الى لبنان الديكتاتوري”. وهنا يُشدد سجعان قزي بالقول: “أرى أن البطريرك توجّه الى الدولة أكثر من توجهه الى “حزب الله”، ليقينه أن “حزب الله” هو حزب يعمل لمصلحته لكن يفترض بالدولة، بأي دولة، أن تعمل مصلحتها، المنبثقة من مصلحة مواطنيها، ووفق دستورها”.
الدولة يفترض أن تعود دولة. الدولة يفترض أن تتصدى (إذا كانت بالفعل دولة) الى أي حالة إنقلابية. لكن، هل فهم من وجّه لهم البطريرك الراعي كلامه ما قال؟ بدل أن يجيب هؤلاء بكلامٍ فيه بعض من بعض ما حكى عنه سيّد الصرح عن الشراكة والمحبة راحوا يسهبون بالكلام عما سموها “لغة السباب والشتائم” وهي على ما قالوا “ليست من أدبياتهم”. نعم، أن ينادي شباب وشابات لبنان: “إيران اطلعي برا” ليست من أدبيات الإنقلابيين!
لا أحد أكبر من لبنان. عاجلاً أم آجلاً سيفهم هذا الجميع. قولوا الله.
سيّد بكركي “رفع الصوت” بمحبّة وبتحذير بأن لا بكركي ولا اللبنانيين سيسكتون ونادى الجموع “لا تسكتوا”. ويقول قزي “من يمارس فعل الإنقلاب على لبنان صاحب مشروع ويبدو جلياً أنه (أقله حتى هذه اللحظة) لن يتراجع عن أي جزء من مشروعه، وسيعارض كل الطروحات، أكانت داخلية أو خارجية، التي تؤدي الى وقف أو تأخير مسار حركته الإنقلابية”. ويضيف قزي “أعتقد أنه كلما رأى الفريق الآخر المعترض على استرداد الدولة للدولة تصميماً في هذا الإتجاه، من أجل وقف أو تعطيل مشروع إسقاط الدولة، سيصبح أكثر شراسة. ونتمنى ألا تتجاوز حدود هذا “الإستشراس” الإطار السلمي”.
نعود لنصغي الى أصوات نواب “حزب الله” (وبينهم حسن فضل الله) فنسمعهم يكررون رداً على ما قال سيّد الصرح “نحن نمثل فئة وازنة ومن تظاهروا في بكركي لا يمثلون”! الى هؤلاء يقول أحد من شارك في حشد بكركي “صحيح لسنا نحن، من تظاهرنا، من يمثل، بل بكركي هي من تمثل الجميع وهي قالت كلمتها”.
البطريرك مار نصرالله صفير والبطريرك بشارة الراعي إستشعر كلاهما الخطر مع فارق الوقت والظروف. فماذا عن القواسم المشتركة بين الإثنين؟ يجيب سجعان قزي “البطريرك صفير هو البطريرك صفير وظروفه هي ظروفه. والبطريرك الراعي هو البطريرك الراعي وظروفه مختلفة. أما الثابت فهو أنه حين يشتدّ الخطر تستعيد بكركي دائماً المبادرة والرأي العام المتعدد الطوائف الذي يلتفّ حولها. وهذه ثابتة تاريخية”.
بكركي قالت كلمتها. ومن يملك حلاً فليطرحه الآن. البطريركية المارونية تريد الدولة وتريد جيشاً لبنانياً واحداً يحمي الدولة وتريد لبنان الكيان والعدالة والديموقراطية والتعددية ولن تقبل أن ترى الشعب ينقهر ويتألم ويجوع. ماذا يريد الآخرون؟ البطريركية المارونية قدّمت حلاً في الأفق المسدودة. ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن مشروع الحلّ الذي يراه الآخرون؟ إشارة من إيران؟ فليتفق الجميع على مبدأ الحياد. وليتذكر من يتجاهل أن كثيرين كثيرين من اللبنانيين “ولدوا ليعيشوا بسلام لا في ساحات القتال الدائم”. وأن كثيراً منهم “يريدون مشاريع حلول لا مشاريع مشاكل”.