نجح من كان وراء اندفاعة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في تحقيق الخرق السياسي الذي أرادوه من خلال التجمّع الشعبي في بكركي، وفي الكلمة التي ألقاها أمام الرأي العام المحلي، إضافة الى الخارج العربي والدولي، لأن جزءاً أساسياً من هذا الاحتفال كان يحمل في طيّاته رسائل خارجية، حول هذا الانفصال الداخلي بين رؤيتين للبنان، في ظل اهتمام عواصم عربية بهذا التحرك. يطرح الراعي مجموعة عناوين سياسية عامة، تحتاج الى حوار هادئ ونقاش سياسي في تفاصيله. لكن هل ما حصل السبت يعني أن هذا الخرق هو الهدف بذاته، أم أن الرسائل الكثيرة التي حفل بها البيت البطريركي تؤسس لمرحلة مختلفة تماماً عن مشهد 2005؟
أولاً، رغم التحفظات التي كان يبديها كثر من أصحاب الرأي والأنتلجنسيا المسيحية ورجال إكليروس، على أداء الراعي ومسار بكركي منذ أن تولّى حبريّته وعدم تفعيله الإدارة البطريركية والانشغال بالاحتفاليات الكثيرة في لبنان والخارج، انقلب المشهد في الأيام الأخيرة، وبدا مستغرباً احتضان هؤلاء للراعي وطروحاته، بصرف النظر عن أحقيتها. فتحوّل رمزاً يقارنون بينه وبين سلفه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، الذي كان بالنسبة إليهم الأيقونة التي لا تشبه أحداً. ظهروا كأنهم يحتفلون بولادة قائد جديد لـ«المقاومة المسيحية»، زمن الأباتي شربل القسيس والأباتي بولس نعمان حين كانت الرهبانية على كتف «المقاومة»… والراعي ليس من تلك الطينة أبداً. وإذا كان ليس مستغرباً أن تتجمهر حول الراعي مجموعات وأشخاص من الذين يكنّون خصومة غير محدودة لحزب الله، ليستظلّ بعضهم بكركي للتصويب أكثر فأكثر على الحزب، فإنّ من المفاجئ أن تتحول شريحة أساسية وسياسية من أصحاب الوعي خلف الراعي، يميزون بين طروحاته السياسية، وتغطيته لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومسؤوليته عنه، باعتبار أن الانهيار المالي أيضاً يعالج بعد «فك سيطرة إيران على لبنان». وحجة هؤلاء أن ما حققه الراعي من خلال ردة فعل حزب الله والتيار الوطني الحر، أعطى مفاعيل إيجابية، أكبر بكثير مما جرى حتى الآن في السنوات القليلة الماضية، ولا سيما أن الراعي لم يأت من مدرسة عام 2005 بمعناها السياسي. وهذا كافٍ حتى الآن ليؤسس لمرحلة مواجهة مبنيّة على الضغط في اتجاه عنوان واحد هو سلاح حزب الله، ولو لم يصل إلى خواتيمه المرجوة بالمطلق.
ما حصل السبت هو جزء من اصطفاف مسيحي يطال في نهاية المطاف الرئيس عون
ثانياً، من الذي سيحمل مهمة متابعة ما قالته بكركي وما تطالب به؟ وأيّ جهة سياسية مخوّلة حمل هذا الشعار ورفعه كما حصل عام 2005؟ فيوم السبت أيقظت حالة مسيحية نفسها بمواكبة سياسية وإعلامية، من خط واحد، من دون أن يتّضح مستقبلها، وخصوصاً أن الحزبية القواتية، رغم وجود كتائبي متنوع، طغت على حالة الصف المسيحي المتنوع كما كانت حال عام 2005. فالقوات ارتدت لبوس التظاهرات بمعناها المختلف عن 17 تشرين، وهي كانت واضحة في تجييشها الميداني (جس نبض أوّلي عشية الاستعداد للانتخابات الفرعية)، لأول مرة من دون أيّ التباسات، في الحيّز الماروني الصافي، كما كان واضحاً رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في استظلاله بكركي وتصويبه على العهد. ورغم أن ظروف وقوف جعجع الى جانب بكركي مختلفة عن مرحلة ما قبل الطائف، إلا أن النتيجة التي عكسها مشهد القوات في بكركي والتيار الوطني الحر في المقابل، تسفر عن النتيجة نفسها من تكريس حالة الانقسام في الشارع المسيحي. ورغم عدم دخول تيار المردة الجو التنافسي المحموم حول بكركي، إلا أن خطاب الراعي لا يتوافق معه مطلقاً. «المردة» بقي الى الآن محيّداً نفسه عن السجال مع بكركي ولو لم يرقه المشهد القواتي، في موازاة ردة الفعل العونية العنيفة كلامياً في أوساط التيار، على بكركي والقوات معاً. لكن المحصلة أن انتعاش الجو المسيحي لا يزال من دون أفق طالما أن لا أجندة واضحة له تحدد برنامج عمله، ومن دون درس الخيارات المطروحة والأفكار السياسية الواضحة أبعد من الشعارات الشعبوية. وكذلك فإن تقوية النزعة الحزبية في جمهور بكركي تعني تسليماً بأمر واقع وهو أن الجمهور المسيحي كتب عليه أن يكون محكوماً بثنائيات أو رباعيات، وأن تجربة قرنة شهوان الفريدة بتمايزها لن تتكرر، وأن الانتخابات النيابية ستكرس هذا الجو الحزبي.
ثالثاً، رغم بعض المشاركة الطائفية والسياسية المتنوعة، إلا أن عصب ما حصل يوم السبت له بعد مسيحي صرف، نقَل المواجهة السياسية كما حصل عام 2000، إلى مواجهة مسيحية مع الخصم السياسي. والمعني هنا عام 2021 حزب الله. حاول الرئيس سعد الحريري منذ تعثر مفاوضات تأليف الحكومة أن يبقي على «حلفه» مع بكركي وعدم قطع الخيط مع المسيحيين، الذين يستعملهم العهد والتيار الوطني كشعار في معركة استعادة الحقوق. نجح الحريري في كسر هذا الحاجز العوني. لكنه في المقابل بقي على مسافة آمنة في علاقاته مع حزب الله، الأمر الذي لم يلاقَ إيجاباً لدى معارضي الحزب من المسيحيين. بتحوّل بكركي رأس حربة في تحديد خيارات الحياد أولاً، والمؤتمر الدولي ثانياً بخلفية وضع سلاح حزب الله على الطاولة، فإن المشهد المسيحي انقسم بين فريق يعبّر صراحة عن خصومته للحزب، مع امتداد عربي جليّ، وفريق يعبّر صراحة عن خصومته السياسية للحريري والمستقبل، مع خلفية إقليمية أيضاً عبّر عنها رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في إطلالته الأخيرة، كما عبّر عنها أحد وزراء العهد السابقين. هذا الاصطفاف يشكل لحظة أكثر خطورة مما كان عليه الأمر عام 2005. لأنه يأتي في مرحلة أكثر قساوة سياسياً واقتصادياً ومالياً، فضلاً عن احتمالات مفتوحة على تسويات في ظل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لا تدعو الى تفاؤل معارضي حزب الله.
رابعاً، في غمرة كل ما جرى، يبقى هناك شقّ أساسي يتعلق بعلاقة بكركي ورئاسة الجمهورية، ومن خلفها التيار كحزب العهد. ولو أن باسيل الذي يربط خيوطاً كثيرة مع مطارنة ومع رهبانيات، على عكس القوات اللبنانية، ويوجّه رسائل كثيرة الى الراعي ولن يقطع معه حواراً، إلا أن ما حصل السبت هو جزء من اصطفاف مسيحي يطال في نهاية المطاف العهد بتوجّهه السياسي. وهو يُبرِز للمرة الأولى بهذه الحدّة ــــ بعد قطيعة عيد الميلاد وما تبعها من رسائل ــــ حجم الهوّة بين بكركي وبعبدا في ما تبقّى من ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.