IMLebanon

نظام «الطائف» بعد ربع قرن.. يترنّح ولا يسقط!

الخارج منشغل والداخل منقسم.. ولا بدائل

نظام «الطائف» بعد ربع قرن.. يترنّح ولا يسقط!

كتب المحرر السياسي:

قبل ربع قرن، وتحديداً في 22 تشرين الاول 1989، وُلد «اتفاق الطائف» بشراكة سعودية ـ سورية أميركية، وبحضور 62 نائباً لبنانياً، من «سلالة» مجلس العام 1972.

بعد 25 عاماً على هذه الولادة، لا يحتاج الحكم على تجربة دستور «الطائف» الى جهد كبير. يكفي قليل من التفحص في واقع النظام والمؤسسات الدستورية في هذه الأيام لاستخراج الخلاصات المريرة، على قاعدة أن الامور بخواتيمها.

شغور في رئاسة الجمهورية، بطالة تشريعية، عجز عن إجراء الانتخابات النيابية، وهشاشة في السلطة التنفيذية المرتكزة على مجلس الوزراء.

هكذا، يبدو نظام «الطائف» كهلاً في عز شبابه الافتراضي، وهو الذي يطفئ اليوم شمعته الـ25.

ومع ذلك، لا تلوح في المدى القريب أي إمكانية للاستغناء عن هذه التسوية التي تستمد قوتها من ضعف البدائل، بل غيابها.

صحيح أن الظروف التي أنتجت «الطائف» تغيرت، وان وضعية الدول التي احتضنته تبدلت، وان موازين القوى التي أفرزته اختلفت.. لكن الصحيح ايضاً ان هذا «الاتفاق» المصاب بكل أنواع الامراض الدستورية والسياسية لا يزال، وسيظل، حتى إشعار آخر، ضابط الإيقاع الوحيد لـ«الفوضى» اللبنانية.

لا يختلف اثنان في لبنان على أن صيغة «الطائف» لم تكن مثالية، لكن لا أحد في وارد خوض معركة حقيقية ضدها في هذا التوقيت، وسط التحولات الاقليمية والحروب الدموية المحتدمة من حولنا.

بهذا المعنى، يبدو «الطائف» هو «الثابت» الوحيد راهناً في محيط متحوّل. أصلاً، ليس هناك في الخارج «المقرر» مَن هو متفرغ للبنان الآن، في وقت تعاد صياغة دول المنطقة، حدوداً وشعوباً.

وإذا كان هناك ما يهم هذا الخارج او يهتم به، فإنه يتعلق حصراً بتثبيت «الستاتيكو» الحالي ومنع العبث به، مع ما يستلزمه ذلك من حماية للأمن على هشاشته، والحكومة على هزالها.. و«الطائف» على علاته.

أما في الداخل «المتلقي»، فإن «القبائل» اللبنانية – التي تكاد أحياناً لا تتفق على تعيين حاجب أو أجير في وزارة او إدارة – لن تكون قادرة بطبيعة الحال على إنتاج دستور جديد، يعيد ترسيم حدود الأدوار والصلاحيات.

وبالحد الأدنى، تدرك القوى الداخلية أنه لا يمكن الخوض في مثل هذه المغامرة قبل أن ينتهي زلزال المنطقة، وتتضح طبيعة «الكيانات» الجديدة وموازين القوى المعدلة التي ستخرج من بين «ركام» الجغرافيا السياسية.

ولعل ما يجري في سوريا سيكون الأشد تأثيراً على مستقبل لبنان الذي بات أمام تحد مصيري يتجاوز «الطائف» الى السؤال الوجودي. ومن نافل القول، أنه إذا انتهى الصراع في سوريا وعليها إلى بقائها في دائرة النفوذ الايراني ـ الروسي فهذا شيء، وإذا انتهى الى اخضاعها للنفوذ السعودي – الاميركي فهذا شيء آخر.

وحتى ذلك الحين، لن يكون بمستطاع اللبنانيين سوى تنظيم الخلاف والتمديد للأمر الواقع، وبالتالي مواصلة العيش بين «قبور» «الطائف»، مع ما يرتبه ذلك من «كوابيس». بل هناك من يقول إن على الشعب اللبناني ان يضحك في سره، لان حداً أدنى من هيكل النظام والدولة لا يزال قائماً – ولو بشكل مترنح ـ برغم ما يحصل في الجوار القريب والبعيد من ضم وفرز، وتفكيك وإعادة تركيب.

ولأن الخسائر والارباح في لبنان فئوية، لغياب صلة «المواطنة»، فإن الموقف من «الطائف» سلباً أو إيجاباً، يرتبط تلقائياً بحسابات الطوائف وحساسياتها، لا بالمعايير العلمية الموضوعية وبمتطلبات الاصلاح والتطوير.

وعليه، يدافع البعض بشراسة عن وثيقة الوفاق الوطني لأنه يعتبر أنها تمنحه مكتسبات لا يمكن التنازل عنها حتى أصبح الطائف مرادفاً لـ«طائفة»، بينما ينتقد البعض الآخر بحدة هذه الوثيقة لانها انتزعت منه صلاحيات وأدواراً لا يمكن تعويضها إلا بتعديلات جوهرية.

وهكذا تصبح «الأنانيات» الطائفية والمذهبية هي أداة القياس في المقاربة، بمعزل عما يحتاج اليه النظام فعلاً من تحسين، علماً ان ما يزيد الطين بلة هو ان «الطائف» لم يُطبق منذ ولادته بشكل كامل ونزيه، حتى تكتمل جردة الحساب.

عوامل الخلل وسوء التطبيق

وقد أدى الغموض «غير البنّاء» في آليات «الطائف» الى إفراز الواقع الآتي:

– اجتهادات في تعريف دور رئيس الجمهورية، وهل يكون صاحب صفة تمثيلية ام وسطياً ووسيطاً، إضافة الى تعدد التفسيرات لآلية انتخاب رئيس الجمهورية، كلما تعذر التوافق، بحيث ترتفع اصوات تدعو الى انتخابه «بالنصف + واحد»، وليس بالثلثين.

– تباينات في تحديد مفهوم المناصفة والشراكة، وبالتالي شعور المسيحيين بالغبن منذ العام 1992 حين جرت الانتخابات النيابية برغم مقاطعتهم لها، ثم شعور السنة بالإحباط في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري العام 2005، وإحساس الشيعة بالتهميش بعد العام 2006 إثر استقالة وزراء «أمل» و«حزب الله» وإصرار الرئيس فؤاد السنيورة على اعتبار الحكومة شرعية، في حين وصفها خصومها بأنها مبتورة وغير ميثاقية.

– إشكاليات في تركيبة الحكومة وصناعة توازناتها، وصولاً الى ابتكار «فريق 8 آذار» «الثلث الضامن»، كما حصل في أكثر من مرة، للتعويض عن غياب الضمانة السورية بعد 2005.

– عدم وجود ضوابط زمنية للتأليف الحكومي الذي ضرب ارقاماً قياسية في هدر الوقت عند تسمية كل من الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام سلام.

– انعكاس الشغور الرئاسي او استقالة رئيس الحكومة تعطيلاً لمجلس النواب، برغم الفصل المفترض بين السلطات.

– تقييد رئيس الجمهورية بمهلٍ زمنية لنشر القوانين والمراسيم وتوقيعها، بينما لا تسري هذه القيود على رئيس الحكومة والوزراء.

تسبب هذا التراكم في عوامل الخلل وسوء التطبيق، في المزيد من التشوه في «الطائف»، فيما بقيت بنود جوهرية في نصه معطلة عن سابق تصور وتصميم، ومنها ما يتصل باللامركزية الادارية، الإنماء المتوازن، تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، إنشاء مجلس الشيوخ، وضع قانون انتخاب عصري بعد إعادة النظر بالتقسيمات الادارية، إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الإدارة باستثناء وظائف الفئة الأولى وما يعادلها، وغيرها من البنود.

لقد أصبح واضحاً من هذا المسار المتعرج، أن «اتفاق الطائف» يفتقر في بنيته الى الانتظام والانسجام وصمامات الامان ومخارج الطوارئ، ما أدى الى انكشاف كل سلبياته ومساوئه دفعة واحدة، مع تراجع تأثير «الراعي» الاقليمي او «الوكيل الحصري» لـ«الطائف» بفعل خروج الجيش السوري من لبنان، وبعد ذلك انفجار الازمة في سوريا العام 2011 ، ليجد اللبنانيون أنفسهم فجأة امام حقيقة عدم أهليتهم لإدارة شؤونهم من دون الاستعانة بوصاية خارجية.

وبعد مرور ربع قرن على انتاج «اتفاق الطائف»، ترى مصادر نيابية في «تيار المستقبل» ان هذا الاتفاق يشكل تطويراً للميثاق الوطني، لافتة الانتباه الى انه كرّس نهائية الكيان اللبناني وعروبته وأقر مبدأ المناصفة ورسخ النظام الاقتصادي الحر وحقق المشاركة عبر نقل السلطة الى مجلس الوزراء مجتمعاً.

في المقابل، تعتبر أوساط بارزة في «8 آذار» ان «الطائف» لم يؤسس دولة وتعرض للمصادرة حتى أصبح امتيازاً لمذهب ووسيلة لمحاولة الاستئثار بالسلطة خلافاً لفلسفته، مشيرة الى ان التطبيق الخاطئ للاتفاق أفضى الى مذهبة المؤسسات وتعطيلها، محملة الرئيس فؤاد السنيورة جزءاً كبيراً من المسؤولية عن ذلك.

ويشدد أحد نواب «تكتل التغيير والاصلاح» على أن «الهدف من المطالبة بتعديل او تطوير الطائف ليس انتزاع صلاحيات من احد، انما تصحيح التوازن بين المكونات اللبنانية، إذ لا يمكن بعد 25 عاماً على إقرار الطائف ان يبقى فريق يشعر بالغبن نتيجة سوء تفسير او سوء تطبيق او حتى سوء نيات. الموضوع يحتاج الى حل في توقيت مناسب».

ومهما تعددت الآراء وتباينت، يبقى الأكيد ان «النظام الطائفي» الذي انبثق عن صيغة 1943 ثم عن وثيقة الطائف اثبت انه أقوى من أي إصلاح حقيقي، وان أقصى ما يمكن فعله من حين الى آخر هو إجراء جراحات تجميلية موضعية تبقى أضعف من ان تلامس عمق الإشكاليات الدستورية والسياسية.

التمديد وبري وخيارات المسيحيين

وما العرض الجديد المنتظر من مسرحية التمديد لمجلس النواب سوى انعكاس إضافي لعجز «الطائف» عن تنظيم الحياة السياسية، وإن تعددت الذرائع الجاهزة «غب الطلب» للتبرير.

في هذه الاثناء، أكد الرئيس نبيه بري امام زواره أمس ان موقفه المبدئي كان ولا يزال ضد التمديد حتى «آخر الدنيا»، لكنه لفت الانتباه الى انه «ليس نبيه بري من يتجاهل موقف مكوّن ميثاقي اساسي رافض للانتخابات يعبر عنه الرئيس سعد الحريري، خصوصاً حين تكون المنطقة كلها مهددة بالفتنة السنية – الشيعية.. لست أنا من يفعل ذلك، ولو كنت غير مقتنع بدوافع التمديد». وأضاف: في حال تراجع الحريري عن خياره، ستجدونني مجدداً من اشد المتحمسين للانتخابات النيابية.

لكن مشروع التمديد لا يزال يواجه معارضة مسيحية واسعة، ترجمها بوضوح موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي في المطار بعد عودته أمس من روما، وتلويح «تكتل التغيير والاصلاح» باللجوء الى الطعن كما يُستنتج من قول النائب ابراهيم كنعان في اعقاب اجتماع «التكتل» بأن كل الوسائل القانونية ستستخدم ضد التمديد.

ويناقش رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع والنائب «سامي الجميل» في السعودية «مكرمة التمديد» مع المسؤولين السعوديين، وسط إحراج يواجه «الكتائب» و«القوات» المحاصَرين بين رغبة الرياض في التمديد وبين الحسابات المتصلة بالتنافس في الساحة المسيحية مع العماد ميشال عون الذي يستقطب اعتراضه على التمديد الأكثرية في تلك الساحة.