لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم التاسع عشر بعد المئة على التوالي.
محمد حمية (22 عاما)، علي أحمد حمادي الخراط (37 عاما) ومحمد عاصم ضاهر (22 عاما)، ثلاثة شهداء جدد للمؤسسة العسكرية، يدفعون بدمهم المسفوك عند الحدود الشرقية، ضريبة الموقع المتقدم لجيش كل لبنان في مواجهة المجموعات التكفيرية الإرهابية.
محمد حمية يسقط، ليل أمس، إعداما بالرصاص على يد «جبهة النصرة» في جرود القلمون. علي الخراط ومحمد ضاهر يسقطان نهارا بانفجار عبوة ناسفة تستهدف دورية عسكرية عند أطراف بلدة عرسال.
ثلاثة شهداء من الجنوب والبقاع والشمال يكادون يعلنون باستشهادهم أن هذه المجموعات التكفيرية لا يمكن الركون إلى وعودها ولا إلى تدثرها بلباس الدين وهو منها براء. مجموعات لا تملك إلا لغة الدم والمال والقتل والتكفير والفتنة، فهل يمكن للتفاوض معها أن يؤدي إلى غير النتيجة التي قررتها مسبقا؟
وحسنا فعل رئيس الحكومة تمام سلام عندما خاطب أهل العسكريين أكثر من مرة بأن يحذروا فخ الفتنة الذي تنصبه المجموعات التكفيرية لهم وللبنان بكل مناطقه وطوائفه ومذاهبه، وأيضا فخ الفتنة بين اللبنانيين والنازحين الأبرياء الذين يدفعون أثمان ارتكابات وحوش لا ينتمون إلى أي بلد أو شعب أو حضارة أو دين.
فإذا كانت الفتنة هي الهدف من الخطف، وإذا كان الإعدام والقتل وظيفتهما الفتنة، صار لزاما على اللبنانيين، خصوصا ذوي العسكريين المخطوفين، لا بل ذوي آلاف العسكريين المنتشرين في كل بقاع الوطن، أن يكونوا موقفا واحدا خلف مؤسستهم العسكرية بقيادتها وضباطها وعسكرييها، لعلها تُقدم حيث لا يجرؤ أهل السلطة السياسية، فلا تهادن ولا تفاوض ولا تساير، بل تعلنها حربا مفتوحة بلا هوادة ضد الإرهابيين حتى تحرير عرسال وجرودها وصولا إلى محاولة استرداد العسكريين أحياء، فإذا نجحت أو أخفقت، سيسجل لها التاريخ أنها حاولت وأعادتهم وعطلت بالتالي مشروع الفتنة اليومية وسيناريو الجثث التي تأتي مقطوعة الرؤوس بين حين وآخر.
هل تملك قيادة الجيش سوى هذا الخيار؟
لا تهدف هذه الصرخة ـ التحية للجيش، لا إلى استدراجه ولا إلى «إحراقه»، ولا تهدف أيضا إلى تدفيع العسكريين المخطوفين ثمن موقف وطني من أجل التاريخ، بل إلى قطع طريق الفتنة التي صارت مشروعا يوميا على الشاشات وفي الطرق، وغدا في المدارس والجامعات وغيرها.
نعم، لتجتمع الحكومة قبل سفر رئيسها إلى نيويورك، ولتبادر إلى تفويض الجيش مجددا اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات، بما فيها إعلان منطقة البقاع الشمالي، ولا سيما عرسال، منطقة عسكرية، تمهيدا لتجريد حملة تهدف إلى تحرير العسكريين وعرسال وجرودها..
�*
محمد حمية ابن بلدة طاريا البقاعية، تطوع في الجيش منذ أقل من سنتين، بعدما عجز عن «تقريش» شهادته «الفندقية»، فشكل لوالده المزارع وعائلته الفقيرة سندا في هذه الأيام الصعبة.
لم يكن محمد يدري أن خدمته العسكرية في عرسال ستجعله رهينة ومن ثم ضحية بالرصاص.. ستجعله «بطل» شريط فيديو، يراد له أن يلقن أقرانه ورفاقه وأهله درسا في الثمن الذي يجب أن يدفعوه لقاء الانتماء لمؤسسة الجيش الجامعة.
هددت «النصرة» بإعدام محمد حمية أكثر من مرة بعد إعدام عباس مدلج، وكان ليل الخميس ـ الجمعة الماضي، آخر موعد للتنفيذ، قبل أن تنجح الوساطة التي قادها اللواء عباس إبراهيم عند الساعة الواحدة فجرا في تجميد قرار الإعدامات عند «النصرة».
لكن ما أن أعلن الجيش عن نجاحه في توقيف خلية إرهابية كانت تأتمر بأوامر عماد جمعة في جرود عرسال، وبينها من هو متورط، بشكل أو بآخر، في جريمتي إعدام الشهيدين العسكريين علي السيد وعباس مدلج، حتى نفذت «النصرة»، وبدم بارد، قرار إعدام محمد حمية بالرصاص، كما أفادت عبر وكالة أنباء «الأناضول» التركية، وعبر الموفد القطري (من أصل سوري) الذي لم يغادر الدوحة في اتجاه بيروت حتى ساعة متأخرة من ليل أمس.
�*
علي أحمد حمادي الخراط، وقبيل انفجار العبوة الناسفة بالشاحنة العسكرية التي كانت تقله وسبعة عسكريين، كان يهمس في أذن أحد رفاقه أنه يريد أخذ إجازة للاطمئنان إلى صحة والده الذي دخل في غيبوبة كاملة في أحد مستشفيات مدينة صيدا. عتبه على والده أنه كان يريده أن يفتخر به يوم خطوبته، ومن ثم زفافه وهو الذي لطالما ألح عليه أن يفعل ذلك قبل أن يقترب من عتبة الأربعين.
غير أن الارهاب قرر أن تكون عودة علي في كفن، فلا يُقبّل يد والده ولا يواعد خطيبته ولا يودع اخوته، بل يعبر شارع دلاعة في رحلة صيداوية هي الأخيرة.
�*
محمد عاصم ضاهر هو رفيق علي الخراط في الدورية التي اصطادها المسلحون بعبوة ناسفة عند أطراف عرسال. لم يكن قد مضى على وصوله الى مركزه الا حوالي الساعة. استغرقت رحلته من عيدمون في عكار الى عرسال أكثر من ساعتين. أقله والده من المنزل الى القبيات في رحلة استغرقت نحو 10 دقائق، انضم بعدها الى رفاقه الذين يخدمون في البقاع الشمالي.
لم يدر «ابو محمد» أنه يمضي في رحلة أخيرة مع حبيب قلبه. حدسه كما حدس الوالدة جعلهما يسارعان للاتصال به لحظة ورود معلومات عن وقوع انفجار بدورية عسكرية. كان هاتفه يرن ولا أحد يرد قبل أن يأتيهم الخبر المفجع. عتبت عليه الوالدة التي أبكت كل أبناء عيدمون لأنها لم تضمه، أمس، الى صدرها. حملت ثيابه التي طلب منها غسلها وراحت تشم رائحته وتبكي حتى جفت مآقيها وكل أسرتها.
�*
ومع العملية الأولى من نوعها باستهداف الجيش بالعبوات الناسفة، كبرت المخاوف في عرسال والجوار، كما في مناطق لبنانية أخرى، أبرزها طرابلس، من نية المجموعات الإرهابية اتباع أسلوب جديد في استهداف الدوريات العسكرية بالتفجير، في مناطق قريبة من تجمعات مدنية بما في ذلك تجمعات النازحين السوريين، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كثيرة حول الخطوات الواجب اتخاذها في المرحلة المقبلة.
وزاد من وتيرة المخاوف ما رصدته الأجهزة العسكرية والأمنية من معلومات حول قيام مجموعات مسلحة تابعة لـ«النصرة» و«داعش» في طرابلس بالسعي إلى استهداف العسكريين ومراكز الجيش بعبوات ناسفة، الأمر الذي استوجب تنفيذ انتشار أمني واسع في عاصمة الشمال.
وكان لافتا للانتباه أن تفجير عبوة عرسال شكل بتوقيته ردا غير مباشر على نجاح الجيش وقوى الأمن الداخلي في توقيف مجموعة إرهابية متورطة في قضية خطف العسكريين، ولا سيما قضية إعدام العسكريين الشهيدين عباس مدلج وعلي السيد.
وفيما تم نقل المجموعة الى بيروت لاستكمال التحقيقات معها، نفذ الجيش سلسلة مداهمات في مخيمات النازحين السوريين في عرسال وتمكن من توقيف عدد كبير من المشتبه بهم(أكثر من 200)، وفي الوقت نفسه، استهدفت وحدات عسكرية تحركات لمجموعات ارهابية في جرود عرسال وتمكنت من ايقاع خسائر في صفوفها، حيث أفيد عن مقتل السوري أحمد دره واللبناني جمال عبدالله الحجيري المطلوب للعدالة.
وتزامن ذلك مع غارات جوية نفذها الطيران الحربي السوري على مواقع المسلحين في جرود عرسال، قبل أن تستهدف المجموعات الارهابية، مساء أمس، سهل اللبوة بصاروخين اقتصرت اضرارهما على الماديات (التفاصيل ص3).
خطف مواطن من الفاكهة
من جهة ثانية، تعرض المواطن علي سكرية من بلدة الفاكهة للخطف، ليل أمس، على يد مسلحين مجهولين نقلوه الى جرد البلدة، وذلك خلال قيامه بزيارة لبعض الاصدقاء في بلدة عرسال. ولم يعرف ما اذا كان الخطف قد حصل على خلفية فدية مالية أم لاعتبارات أخرى.