المجموعات الإرهابية تراهن على انهيار الجيش شمالاً ومصادرة ترسانته
«الاعترافات» من «أبو مالك» شرقاً إلى «أبو الهدى» غرباً!
لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثامن والخمسين بعد المئة على التوالي.
صحيح أن الجيش، قد دفع، ومعه طرابلس والشمال، ثمناً كبيراً، لكن تفكيك حلم تمدّد «الدولة ـ الإمارة»، من الشرق إلى الغرب، كان يستحق تضحيات استثنائية كهذه، وتبقى العبرة في كيفية «صرفها» من قبل أهل السياسة في لبنان، في اتجاه تحصين الداخل لمنع تكرار المحاولات الإرهابية مجدداً.
ومع الاعترافات الجديدة التي أدلى بها، في الساعات الأخيرة، قائد «خلية عاصون» في الضنية أحمد الميقاتي الملقب بـ«أبو الهدى»، تستكمل المؤسسة العسكرية رسم ما كان يمكن أن تكون عليه صورة منطقة الشمال، في المستقبل القريب، لو تسنى للمجموعات الإرهابية أن تحقق الهدف المنشود.
ولعل ما ساهم في تثبيت الصورة، هو ما أدلى به عدد كبير من الموقوفين المشتبه في تورطهم (لامس الرقم أمس عتبة الـ 200 موقوف في كل مناطق الشمال)، حيث صار واضحاً أن الموقوف الميقاتي (مصاب بيده وبداء السكري) والمتواريين شادي المولوي (مصاب في قدمه) وأسامة منصور (مصاب في كتفه الأيمن)، كانوا يتلقون الأوامر مباشرة من أمير «النصرة» في منطقة القلمون أبو مالك التلي الذي كان هدّد، في 26 أيلول الماضي بنقل الحرب الى لبنان قائلاً «الحرب تلوح، ولدينا مجاهدون بالآلاف في كل لبنان ينتظرون الإذن للمعركة»، لافتاً الانتباه الى أنّ «معركة الجبهة (النصرة) مع «حزب الله» لم تعد مقتصرة على الحدود والجبال»، مشيراً الى «أنّنا استطعنا اختراق اﻷطواق اﻷمنية في كل المناطق في لبنان»!
هذا «النداء» ترافق مع معطيات ميدانية تمثلت بتسريع وتيرة تشكيل المجموعات الإرهابية وتسليحها وتحديد أماكن تموضعها في جرود المنية والضنية بشكل أساسي، على أن يتولى كل من المولوي ومنصور، تكريس حالة مستعصية لا يمكن لأية جهة أن تواجهها في منطقة التبانة في طرابلس، فيما يتولى الشيخ خالد حبلص مساعدة الميقاتي في المنية وعكار.
وطلب ابو مالك التلي من هذه المجموعات التركيز سياسياً على الجيش اللبناني، من أجل خلق بيئة معنوية ونفسية تشجع على انشقاق العسكريين السنة وفرارهم من المؤسسة العسكرية، سواء عبر زرع مجموعات في الجيش، أو التحريض عبر مواقع التواصل والمنابر الدينية أو بعض «المواقع»، على أن يتم التركيز على مقولة أن الجيش ومخابراته هم أدوات بيد «حزب الله»، وفي موازاتها التركيز على «مظلومية أهل السنة».
كان الهدف المركزي لـ«النصرة» هو محاولة إيجاد «منطقة آمنة» في الشمال، تسمح بفتح جرود منطقة الضنية التي تشكل امتداداً لجرود المنية، على منطقة جرود الهرمل، بحيث تصبح على تماس مباشر هناك مع معسكرات «حزب الله» وقواعده، وبالتزامن، يتولى أبو مالك التلي مهمة اختراق جبهة عرسال بالوصول الى منطقة رأس بعلبك لملاقاة مجموعات الشمال بقيادة الرباعي (الميقاتي، المولوي، منصور، حبلص)، وبذلك يوضع «حزب الله» بين فكي كماشة، بحيث يصبح ظهره في المنطقة المقابلة لعرسال وجردها عرضة للنيران، وفي الوقت نفسه، تقدم هذه المجموعات الإرهابية أوراق اعتمادها «لمن يهمه الأمر» وصولاً الى محاولة تطوير «المنطقة الآمنة» مستقبلاً نحو البحر.
كان الرهان كبيراً عند المجموعات بأن تراكم عمليات الانشقاق والفرار من الجيش، معطوفة على عملية الابتزاز اليومية المتمثلة في تهديد العسكريين الأسرى بالذبح والإعدام، سيؤدي تلقائياً إلى خلق حالة من الإحباط عند العسكريين، وبالتالي عندما يتم تحديد «الساعة الصفر» سيُصار أولاً إلى تفكيك بنية الجيش في الضنية والمنية وعكار وطرابلس، بالترافق مع محاولة إغراء عدد من الضباط بالمال، على طريقة ما جرى في الموصل في العراق، فإذا نجحت الخطة، تضع المجموعات الإرهابية يدها على كل ثكنات الجيش ومواقعه وترسانته العسكرية في هذه المناطق، في ظل تقدير بإمكان الاستفادة من عامل السرعة والسهولة في الحركة في المناطق الجبلية والريفية بعكس مدينة طرابلس.
وفي الوقت نفسه، يمكن الاستفادة من «الزخم» و«النشوة» (على طريقة ما جرى في عرسال بعد الموصل في العراق)، فيُصار الى تجنيد مجموعات جديدة، من خلال عنصر المال الذي كان موضوعاً في الحسبان، فضلاً عن تحريك «الخلايا النائمة».
وتأخذ الخطة في الاعتبار عجز «حزب الله» عن المخاطرة بإرسال أي من مقاتليه إلى الشمال، وفي الوقت نفسه، تعذر الدعم من الجانب السوري، الأمر الذي من شأنه أن يخلق أمراً واقعاً يصعب القضاء عليه بسهولة، خصوصاً أن الجيش اللبناني سيكون في ضوء واقع كهذا مهدداً بانشقاقات كبيرة!
وبيّنت التحقيقات أن هذه المجموعات كانت تراهن على عنصر الوقت، أي أنها كانت تحتاج إلى وقت إضافي (أسابيع وربما أكثر) من أجل اكتمال جهوزيتها، وهو العنصر الذي كانت قيادة الجيش قد وضعته في الحسبان عندما قررت تحديد الساعة الصفر لبدء عملية «البزة العسكرية».
تمثل عنصر المفاجأة من جانب الجيش اللبناني في اختيار الهدف الأول وهو «مجموعة عاصون»، وبدا واضحاً أن ثمة استفادة من دروس «عرسال 1» لمنع وقوع «عرسال 2»، وتجلى ذلك في وضع خطط عسكرية وأمنية، تأخذ في الاعتبار، احتمالات تحول عملية عاصون إلى كرة عسكرية وأمنية متدحرجة، فتم وضع خطة عسكرية محكمة شملت تعزيز الوحدات العسكرية في الشمال بوحدات «النخبة» ووضع كل ألوية الجيش، بما فيها سلاح الجو وسلاح البحرية في حالة جهوزية تامة، فضلاً عن إنشاء غرفة عمليات مركزية بإدارة قائد الجيش مباشرة.
انتهت عملية عاصون وحصل ما حصل في أسواق طرابلس ثم باب التبانة، وسقط للجيش 11 شهيداً، في ما يستمر مسلسل ابتزاز المؤسسة العسكرية وأهالي العسكريين الأسرى، في انتظار أن تصبح المبادرة القطرية جدية وأن لا تقتصر على «السكايب» المفتوح من غرفة أحد فنادق الخمس نجوم في بيروت مع قادة المجموعات في منطقة القلمون.
وها هي وحدات الجيش، من عكار في أقصى الشمال الى صيدا في الجنوب، مروراً بالعاصمة والبقاع والجبل، تواصل محاولة كشف الخلايا الارهابية التي تلقت تعليمات بالتخفي والاستمرار بـ«النوم العميق».