IMLebanon

متى ينتهي زمن دولة «العصفورية»؟

الكوميديا السوداء: رئاسة وحكومة ومجلس ونفايات وحوار!

متى ينتهي زمن دولة «العصفورية»؟

عماد مرمل

لعل الكوميديا السوداء التي بات النائب وليد جنبلاط من نجومها مؤخرا، تشكل، في ظل المفارقات الداخلية المتراكمة، أبلغ تعبير عن الواقع اللبناني من كل «المدارس» الاخرى في السياسة.

إنها دولة «العصفورية»، حيث لا مكان للمنطق والقانون والدستور والنزاهة وانتظام المؤسسات، بل هي فوضى غير منظمة تجتاح كل البديهيات التي تقوم عليها الأوطان الطبيعية.

إنها دولة عبثية تسبح خارج «الجاذبية»، وتحولت مع الوقت الى مجرد رسم كاريكاتوري، يستخرج منا كل يوم ابتسامة مرّة ممزوجة بالوجع، على قاعدة أن شر البلية ما يُضحك.

ولكن.. من أين نبدأ وسط هذا الانهيار الشامل؟

على مستوى انتخابات رئاسة الجمهورية، يبدو واضحا أن «الطاسة ضاعت» وأن الحابل اختلط بالنابل، حتى بات فك رموز هذا الاستحقاق وطلاسمه، يحتاج الى حكمة من أفواه.. المجانين.

سعد الحريري والسعودية اللذان يتمنيان سقوط النظام السوري ويهاجمان دور «حزب الله» في سوريا، يدعمان سليمان فرنجية المتحالف مع بشار الأسد والحزب، بل إن رئيس «تيار المستقبل» يكاد يتحول الى رئيس الحملة الانتخابية لفرنجية.

وسمير جعجع المتخصص في خصومة «حزب الله» والمتطوع للتحذير من مساوئ خياراته، يؤيد ترشيح ميشال عون المتحالف مع الحزب، المدعوم بدوره من إيران التي يعاديها جعجع ويرى فيها خطراً على المنطقة.

وإيران المشتبكة مع السعودية الحليفة لأميركا، التي هي متفاهمة نووياً مع طهران، تصنف فرنجية ـ الذي رشحته الرياض ـ واحداً من حلفائها الاستراتيجيين في لبنان، لكنها في الوقت ذاته لا تتخلى عن عون المحتَضَن من جعجع، المتمسك بتحالفاته الخليجية في مواجهة الجمهورية الإسلامية.

وقطر الراعية لـ«جبهة النصرة» وغيرها من فصائل المعارضة المسلحة في قتالها ضد النظام السوري، تبارك ترشيح جعجع لعون، صديق الأسد و«حزب الله» اللذين يحاربان في الميدان القوى المدعومة من الدوحة.

و«8 آذار» التي قبلت عام 2008 برئيس وسطي هو ميشال سليمان، باتت عام 2016 مخيرة بين حليفين هما عون وفرنجية، في مشهد يكاد لا يمر إلا في الأحلام، لكنها تبدو مربكة ومتخبطة في التعامل مع هذا الإنجاز الاستراتيجي، حتى أصبح حسم الخيار يتوقف على مساعدة سعودية!

ووليد جنبلاط الذي رشح هنري حلو الى الرئاسة ويتمسك به، يثمّن ايضا ترشيح فرنجية ويتفهم ترشيح عون.

إنها أحجية العصر في زمن الغرائب اللبنانية.

وماذا عن تجربة الحكومة؟

لا بد في البداية من تصحيح، فهذه ليست حكومة مطابقة للمواصفات العالمية، بل هي مجموعة حكام أفرزهم الأمر الواقع، بعدما تحول الوزراء الـ24، بفعل الشغور الرئاسي، الى رؤساء ظل للجمهورية، يكاد كل منهم يملك من الصلاحيات ما يفوق تلك التي يملكها الرئيس الأصيل.

هي الجمهوريات اللبنانية المحشورة حشراً في مجلس للوزراء، يشبه كل شيء إلا.. اسمه. إنه أقرب الى «سوق أحد» سياسي، لا تشمله رقابة «حماية المستهلك» ولا معايير حملة «سلامة الغذاء» التي أطلقها وائل أبو فاعور. هنا، كلٌ ينادي على بضاعته ويساوم على السعر، تبعاً لما تقتضيه المصلحة أو ضرورات النكاية بالزميل.

وإذا كانت الأمثلة على التصدع الحكومي لا تعد ولا تحصى، فإن أحدثها قد يكون معبّراً الى حد كبير. الرئيس تمام سلام حمّل قبل أيام إيران المسؤولية عن النزاعات الإقليمية بسبب تدخلاتها في المنطقة، بينما وزير الخارجية جبران باسيل نأى بنفسه ورفض إدانتها، في موقف أثنى عليه «حزب الله»، لكنه أثار غضب «المستقبل». إنها سياسات خارجية عدة لوطن افتراضي لا تتعدى مساحته الـ10452 كلم2، علما أن النفايات باتت تشغل جزءاً لا بأس به من هذه المساحة – الساحة.

مثال آخر، يعكس مدى استفحال مرض «ترقق العظم» الذي تعاني منه الحكومة المقيمة منذ ولادتها في غرفة العناية الفائقة. خلاف على التعيينات الأمنية كان كافياً لتعطيل مجلس الوزراء والإخلال بأمنه السياسي على مدى أشهر، حتى تخال أن المجلس العسكري هو من فروع حلف «الناتو»، أو أنه مؤتمن على «شيفرة» القنابل النووية التي يملكها لبنان.

وأين يقع ملف النفايات من الإعراب؟

هو بالتأكيد ملف تجتمع فيه علامتا النصب والجر اللتان تفوقتا على علامتي الضم والرفع. من الطمر الى الترحيل ثم عودة محتملة الى الطمر.. طريق طويلة تفوح من على جنباتها الروائح الكريهة، المنبعثة ليس فقط من القمامة، بل من سوء الإدارة الرسمية لهذا التحدي البيئي الذي فضح هشاشة السلطة في لبنان، وأدى الى نقيض تصنيفها الحضاري حتى بات يصح اعتبارها من مخلفات القرون الوسطى أو العصر الحجري.

وهذه الفضيحة تشترك في تحمل مسؤوليتها كل المكونات اللبنانية التي تعاطت مع هذا الهم بتعصب وعصبية، ما تسبب في ارتفاع منسوب «الادرينالين» الطائفي والمذهبي في أجسام الكثير من المناطق التي بدت في نمط تعاطيها أقرب الى «دويلات»، لها حدودها وقوانينها، بحيث صارت محاولة نقل النفايات من منطقة الى أخرى تخضع لقواعد التصدير!

وما هو دور مجلس النواب الممدد له، في هذه الصحراء السياسية؟

كان يُفترض بالمجلس ان يكون غزيرا في انتاجه، لتبرير التمديد والتخفيف من وطأته الثقيلة على اللبنانيين، لكن العكس هو الذي حصل، إذ زحف جراد التعطيل الى المؤسسة التشريعية، ليأكل ما تيسر من اليابس، بعدما تلاشى الاخضر منذ زمن طويل.

صحيح ان المجلس التأم قبل فترة بشق النفس، ل»مرة واحدة»، بغية إقرار بعض القوانين المالية الاضطرارية تحت ضغط المجتمع الدولي، لكن الصحيح ايضا انه سرعان ما عاد أدراجه الى ال»كوما»، على قاعدة انه لا يجوز له ان يعمل بشكل طبيعي ومنتظم، في ظل غياب رئيس الجمهورية.

وعليه، إذا كان لا بد من تسجيل إنجاز للمجلس النيابي فهو نجاحه في إقرار قانون تعميم البطالة المؤسساتية وشرعنتها!

وهل استطاعت طاولة الحوار التعويض عن النقص الحاد في المناعة الدستورية المكتسبة؟

انطلقت طاولة الحوار بسقف مرتفع يحاكي محاولة انتخاب رئيس الجمهورية، لتضطر لاحقا الى الهبوط الاضطراري على مدرج المواصفات التي جرى الاكتفاء بتعدادها وتعريفها، من دون مطابقتها على اسم محدد، في انتظار التوأمة بين الظروف الداخلية المؤاتية وكلمة السر الخارجية، ثم تواضعت طموحات المتحاورين مع الوقت، بحيث اصبحوا منشغلين بمتابعة أزمة النفايات وتفعيل عمل الحكومة وربما يتحول اهتمامهم في ما بعد نحو تعزيز النشاط الكشفي..

والارجح، ان أعضاء طاولة الحوار جميعا يدركون ان وظيفتها الاصلية في المرحلة الراهنة لا تتعدى إطار المحافظة على رمزية الصورة الجامعة، مع قليل من تصريف الأعمال، في انتظار «استيراد» المواد الاولية الضرورية لصناعة التسوية المركّبة.