«حزب الله» و«أمل» يلغيان مناسبات.. وتدابير مشددة للبلديات
«صدمة القاع»: يقظة أمنية تفضح «العورات السياسية»
حبذا لو أن الحكومة ردّت على «غزوة القاع» بالاجتماع استثنائيا في البلدة الجريحة ـ بدلاً من زيارات الوزراء بالمفرّق ـ لكانت عوّضت، بالمشهد الجامع، عن الخلل في آدائها وإنتاجيتها، ولكانت وجّهت رسالة بليغة الى الإرهابيين بأن القاع تحوّلت بعد هجماتهم من بلدة تقع على أطراف الحدود والاهتمام الى عاصمة أخرى للبنان.
وحبذا لو أن الطبقة السياسية تعاملت مع الهجمة البربرية على القاع بما تستحقه من مسؤولية وطنية عابرة للمماحكات التقليدية وللأدبيات الممجوجة، لقدّمت نموذجاً راقياً عن السلوك المفترض انتهاجه في زمن الملمّات والتحديات، بدلاً من التكرار المملّ لمنطق متهافت، لم يعد قادراً على الصمود أمام حقائق الأرض وبلاغة الدم.
لقد أعادت صدمة «القاع» كشف ما يعتري الجسم اللبناني من نقاط ضعف سياسية ووطنية في مواجهة الإرهاب الذي يسعى الى استغلال الثغرات وانتهاز أنصاف الفرص، ليخرج من أوكاره كـ «الجرذان الشاردة»، على حد توصيف مصدر معني.
وإذا كانت المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية قد نجحت حتى الآن في التخفيف من وطأة الانكشاف في الجهوزية السياسية للدولة، والتغطية على عورات دكاكينها المفتوحة، إلا أن المعالجة الميدانية على أهميتها وحيويتها لا تكفي وحدها، ما لم تكن مرفقة بمقاربة داخلية واحدة لمصادر الخطر ولسبل مواجهتها، وهو شرط لا يزال ناقصاً حتى الآن.
وبهذا المعنى، ليس مقبولاً أن يبقى التعاطي مع ملف النازحين السوريين ـ الذي بات عنصراً مؤثراً في الأمن القومي اللبناني ـ عرضة لكل هذه المزاجية النابعة من مصالح طائفية او سياسية او فئوية او مناطقية، فهذا يريد تجميعهم في مخيمات، وذاك يطالب بإبقائهم حيث هم، وآخر يتهمهم بإيواء الإرهابيين او إنتاجهم، ورابع يعتبرهم ضحايا للإرهاب، وخامس يدعو لترحيلهم الى سوريا، وسادس يدافع عن حقوقهم الإنسانية..
لقد حان الوقت لوقف هذا العبث، وتوحيد المقاربة الرسمية للتحدي اليومي الذي يمثّله الانتشار الكثيف للنازحين السوريين على امتداد الجغرافيا اللبنانية.
إن إفساح المجال امام تكاثر الاجتهادات، على المستوى الرسمي وتالياً الأهلي، قد يؤدي الى مظاهر فوضى عارمة سواء في السياسة او على الارض، لاسيما ان تفجيرات القاع أحيت بقوة الـ «فوبيا» من الوجود السوري، وهذا ما عكسته التدابير والضوابط المشددة التي اتخذتها بلدات وبلديات كثيرة خلال الساعات الاخيرة لتقييد حركة النازحين والحد من انفلاشهم، خشية من ان يكونوا مخترقين من قبل خلايا ارهابية.
وإذا كانت الاجراءات المتخذة مبررة، لتحصين المناطق التي يهددها الارهاب الاعمى، إلا انه يجدر التنبه في الوقت ذاته الى ان هناك خيطا رفيعا، لا يجوز قطعه، بين الضرروات الامنية وبين المبالغات في ردود الفعل التي قد تنطوي احيانا على نفحة عنصرية، سواء مقصودة او غير مقصودة.
مظهر آخر من مظاهر التفسخ، عبّرت عنه مداولات مجلس الوزراء أمس، حيث بدا ان لكل مكوّن من مكوّنات الحكومة «موّاله»، حتى اختلط الحابل بالنابل، وأنصار الجيش بالقوات الدولية، والنازحون بالارهاب، في ترجمة للصراع الداخلي على الخيارات السياسية المتعارضة، والتي وجدت في القاع متنفساً لها.
وفيما يُفترض بمجلس الوزراء ان يعتمد «إستراتيجية دفاعية» واحدة في مواجهة الارهاب، وهذا أضعف الإيمان، إذ به يتوزع بل «يتبعثر» خلال جلسته أمس بين من يقترح الاستعانة بمجلس الأمن ونشر قوات دولية على الحدود الشمالية والشرقية، وبين من يدعو الى إنشاء أنصار الجيش ويطلب انسحاب «حزب الله» من سوريا، وما الى ذلك من نظريات، قبل ان يأتي البيان الختامي ليغطي هذه التناقضات بقشرة رقيقة من الكلام المنمّق.
وما يدور في الحكومة هو في نهاية المطاف مرآة وصدى لما يجري خارجها من اشتباك سياسي مفتوح، كانت منابر شهر رمضان مسرحا إضافيا له.
وبرغم انه ثبت بالعين المجردة ان بلدة القاع المسيحية، الخالية من أي وجود لـ «حزب الله»، كانت هي المعنية مباشرة بالرسالة الإرهابية وليست مجرد صندوق بريد، فإن ذلك لم يمنع البعض من توظيف ما حصل في اللعبة المحلية الضيقة، عبر المسارعة الى تحميل الحزب المسؤولية عن استدراج الارهابيين الى الداخل اللبناني، بسبب تدخله العسكري في سوريا.
ولئن كان هذا النوع من النقاش يمكن تبريره في السابق، إلا ان تسارع الاحداث وتطور أنماط الاستهداف الارهابي، باتا يستوجبان «تعليق» العمل بالمناكفات التقليدية، واتخاذ قرار بمنع تجول ليس فقط النازحين وانما ايضا مظاهر الفتنة والتحريض التي تتخذ أشكالا عدة، لاسيما ان «غزوة القاع» تعبّر عن تحول غير مسبوق في نسق العمليات الارهابية، ينبغي ان يواكبه تعديل في الخطاب السياسي ووسائل الصمود والتصدي.
وحتى ذلك الحين، ينبغي استخلاص الدروس والعبر من اختبار القاع، لتحسين شروط المواجهة المتصاعدة مع الارهاب، وبالتالي لإقفال الفجوات التي يمكن ان يتسرب منها الانتحاريون. والاكيد، ان الجيش والقوى الامنية والمقاومة استفادوا من تجربة الاثنين الدامي في اتجاه سد الثغرات المكتشفة وتفعيل خطوط الدفاع، على قاعدة التكامل غير المعلن بين الادوار والمهام.
وفي مؤشر يعكس خطورة المرحلة، ابدى الاجتماع الامني الذي عُقد امس في السرايا برئاسة الرئيس تمام سلام تخوفه الصريح من ان تكون الجريمة الارهابية بحق بلدة القاع فاتحة لموجة من العمليات الارهابية، في ظل معلومات تتولى الجهات الامنية متابعتها واتخاذ ما يلزم في شأنها، مشيرا الى ان الاعتداء الذي استهدف القاع يشكل تحولا نوعيا في الحرب التي يشنها الارهاب الظلامي على لبنان.
وفي سياق متصل، كشف الرئيس نبيه بري امام زواره امس عن معلومات أمنية وصلته في الايام الماضية ومفادها ان مجموعات ارهابية تستعد للقيام بهجمات وتفجيرات تستهدف بعض المناطق وشخصيات لبنانية وقوات «اليونيفيل» في الجنوب، موضحا انه جرى ابلاغ القوات الدولية بهذه المعطيات حتى تتخذ جانب الحيطة والحذر.
ورأى بري ان «ما نواجهه اليوم من خطر ارهابي يتطلب توحيد صفوف اللبنانيين، فاذا لم نتمكن بعد من التفاهم على عدد من الملفات الخلافية، فإن علينا أقلّه التوحد في وجه هذا النوع من السم الذي يهددنا جميعا».
وعلى وقع المخاطر الامنية، قرر كل من «حزب الله» و «حركة أمل» إلغاء احتفالات إحياء ليلة القدر أمس، كما جرى الغاء عدد من الافطارات الرمضانية، فيما اتخذ الحزب، بالتعاون مع الجهات الامنية، تدابير مشددة في الضاحية ومناطق أخرى، لمنع تسلل الارهابيين.
وبينما تستمر التحقيقات لمعرفة هوية منفذي هجمات القاع، أوضح وزير الداخلية نهاد المشنوق ان اربعة منهم على الاقل أتوا من الداخل السوري، وليس من مخيمات النزوح.