مواعيد عقيمة.. ومؤسسات مشلولة.. وأزمات متفاقمة
زيارة لـ«دولة الفراغ»: الانتظار المهين!
عماد مرمل
مع انتهاء خلوة الحوار عاد «الخواء السياسي» ليملأ الشغور، حتى أصبح للفراغ دوي، يتردد صداه كل يوم في أودية دولة قاحلة، انقرضت فيها أشكال الحياة السياسية السوّية.
صحيح أن الكثيرين، ومن بينهم المتحاورون أنفسهم، لم يتوقعوا من الخلوة أساسا إحداث أي خرق حقيقي في جدار الأزمة، لكن الطاولة على علاتها وترنحها كانت تلهينا أو تسلّينا أو توهمنا أو تعزّينا.
من الآن وحتى الخامس من أيلول، موعد العرض الجديد، سنمعن في قتل الوقت الثمين والتمثيل في جثته.
حتى الوهم الذي كانت تبيعه لنا طاولة الحوار فُقد من السوق. لا شيء نفعله حتى ذلك الحين، وربما أبعد، سوى الانتظار المهين الذي يشكل اعترافا صارخا بالعجز والتبعية.
مرة نراقب حرب اليمن ومفاوضاتها المتقلبة في الكويت، ومرة أخرى نغوص في معركة حلب وتداعياتها مستفيدين من خبرات المحللين الاستراتيجيين. وبين هذه وتلك، نتتبع أحوال العلاقة السعودية – الإيرانية بحثا عن ابتسامة أو إشارة من أحد المسؤولين في البلدين، قد نستطيع البناء عليها واستخراج رئيس الجمهورية منها.
نرصد أخبار لقاء رجب طيب أردوغان مع فلاديمير بوتين أكثر مما يفعل الأتراك والروس. ندقق في ملامح الوجهين، نحلل مظاهر الاستقبال، نستعين بعلماء النفس، نقرأ بين سطور الكلمات المترجمة لعلنا نجد حيزا لنا، على رصيف إقليمي أو دولي.
وسط الانجذاب للخارج، لا محل للمؤسسات الدستورية في الإعراب. وظيفتها كـ «همزة وصل» تعطلت أو تكاد. لم تعد تصلح حتى لـ «الزينة»، بعدما أقفلت أبواب معظمها، والأخطر اننا نكاد نتأقلم مع موتها السريري، الى حد التغاضي عن عجزها المستشري وإعفائها من واجباتها ومسؤولياتها.
رئاسة الجمهورية باتت تخضع لمنظومة «العولمة». الجلسة التشريعية لمجلس النواب المشلول صارت أشبه بجلسة «تحضير أرواح»، أما عقد اجتماع منتج لمجلس الوزراء فهو طموح رومانسي دونه أمزجة الوزراء – الرؤساء.
قرار لبنان وإرادته هما ايضا من «النازحين». لم يعد من أثر لهما في الداخل. ربما تصادفهما في العواصم المتحكمة بالمصائر، حيث اللاعبون الكبار يحترفون تحريك الخيوط الموصولة الى الدمى، بل .. الدم.
إنها حقاً جمهورية مع وقف التنفيذ، كمباراة من دون جمهور، ولولا آخر مظاهرها الشكلية والمبعثرة لكنا نظن أنفسنا نقيم في «مشاع» يفتقر الى أبسط بديهيات الدولة البدائية. حتى «جمهورية الموز» فقدناها بعدما التهمها الفساد.
بعض اللبنانيين، قرر في مرحلة انعدام الجاذبية أن يتابع معركة حلب كمن يتابع المونديال، والحلوى جاهزة للاحتفال عند تسجيل الأهداف. البعض الآخر ارتأى أن يسافر في إجازة سياسية لا يستحقها وهو العاطل أصلا من العمل. هناك من وجد الفرصة سانحة لتصفية حسابات متراكمة مع خصمه، وهناك من فضّل التفرغ لشؤون تنظيمية معيداً ترتيب أثاث منزله الداخلي، فيما الارض تحته ومن حوله تهتز!
حتى حرب تموز التي كان يُفترض بذكراها ودروسها أن تجمع ما فرّقه السلام الداخلي الناقص، ضاعت في الزواريب اللبنانية. بعد عشر سنوات على الحرب التي انتهت بالانتصار في 14 آب، احتفل البعض بالإنجاز التاريخي وتجاهله البعض الآخر وكأن تموز 2006 كان شهرا للسياحة البيئية أو الاستشفائية في لبنان!
وكذلك المواجهة المصيرية مع الإرهاب التكفيري، الذي لا يميز بين ضحاياه، لم تكن كافية لإحداث الصدمة المطلوبة في الجسد المحنط للطبقة السياسية. هي معركة حياة أو موت، غير ملتبسة، تُخاض ضد قوة إلغائية تجاهر بتوحشها، لكنها في لبنان معركة رهانات مستترة ونيات مضمرة.
قرابة شهر سيمر عبثاً، بل عبئاً، في انتظار موعد عقيم آخر في الخامس من أيلول (طاولة الحوار) والسابع منه (جلسة انتخاب رئيس الجمهورية)، ما لم تحصل مفاجأة سارة.. غير محسوبة.
لا قيمة للزمن في لبنان، بل لا قيمة للإنسان فيه. الدولة تتضاءل يوماً بعد آخر، بينما هموم الناس تتضاعف: أزمة الكهرباء تتفاقم في عز الصيف، حقوق المياومين المستضعفين تترنح، البطالة تتضخم، مياه الأنهر تتلوث، تحديات استضافة النازحين السوريين تزداد، القطاعات الإنتاجية تئن، الهجرة تزدهر، والفضائح تتناسل.. وفوق ذلك كله، هناك من يدفع عن سابق تصور وتصميم في اتجاه إعادة إنتاج قانون الستين، مستكثرا علينا أن نمد العروق المتيبسة بـ «مصل» النسبية.
نعم.. يجب الإقرار بأن لبنان يحظى بقدر مقبول من «الاستقرار التقني» وسط منطقة ملتهبة ومضطربة يشطرها «فالق التفتيت».. لكن ليس بالأمن التقليدي وحده يحيا الإنسان، على أهميته وحيويته في هذه المرحلة..
هناك أنواع أخرى وملحّة من الأمن السياسي والاجتماعي لا يمكن الاستغناء عنها أو التفريط بها، تحت طائلة الانهيار..