IMLebanon

«الحراك» في عيده الأول: النظام أقوى من رموزه

ايلي الفرزلي

ومعتقلون، لكن أحداً لم يستطع أن يجد مبرراً للعنف المفرط للسلطة سوى وزير سيادي قال يومذاك إن «الغاز المسيل للدموع وإطلاق الرصاص المطاطي يستعملان في جميع الدول الديموقراطية». في تلك الليلة، لم يكن أحد من السلطة أو مما سُمي بـ «الحراك المدني» قادراً على توقّع ذلك التجاوب الشعبي مع دعوة «طلعت ريحتكم» للنزول إلى الشارع اعتراضاً على ما آلت إليه أزمة النفايات في عز آب اللهاب. أحدث العنف المفرط خرقاً في علاقة الناس بالسلطة، وبدل أن يكون رادعاً، أسس لحالة شعبية يصعب على السلطة التعامل معها سوى بالقمع والتضامن بين أركانها المختلفين على كل شيء، والمتفقين على أن «الحراك» غير مسبوق ويهدد منظومة المصالح التي مضى على تشييدها ربع قرن من الزمن. استفاق الناس في 23 آب ولم يكونوا قد استفاقوا من صدمة 22 آب. نزلوا إلى الشارع آلافاً، قبل أن يصيروا عشرات آلاف وربما أكثر في 29 آب، تلك التظاهرة التي كانت الأكبر منذ 14 آذار 2005. أخطاء السلطة ازدادت كما قلقها. بدا ذلك جلياً. يكفي اعتراف أكثر من مسؤول بعدم القدرة على محاصرة حراك متحرر من الولاءات السياسية والطائفية والمذهبية. سقطت خطة النفايات الأولى التي كانت مبنية على المحاصصة، تحت ضغط الشارع، ثم كرت سبحة الحلول الفاشلة، قبل أن يتدخل رئيس مجلس النواب نبيه بري فيعيد ترتيب أمور السلطة تحت سقف طاولة الحوار الوطني. لملمت السلطة نفسها لكن الحراك لم يفعل ما كان منتظرا منه. صحيح أن الحراك كسر حاجز الخوف ولكن ما بعد ذلك، كيف يمكن المضي في مواجهة سلطة ظن البعض لوهلة أنها باتت على مشارف السقوط؟ لم تعد العفوية كافية ولا الارتجال، فصار لا بد من التنظيم والتدقيق في كل شعار وقرار وصورة وخطوة ولقاء. هنا، تبين أن الهدف ليس واحداً ولا الأولويات أو المقاربات. غياب عنصر الثقة، كاد أن يؤدي مراراَ إلى استهلاك ساعات طويلة للخروج ببيان، فيما «الرؤوس الحامية» كانت تخشى على نفسها من الذوبان بين عشرات المجموعات. بين «رفع النفايات من الشوارع» و «إسقاط النظام»، تراوحت المطالب والأهداف والوسائل. كيف يمكن التوفيق بين كل هذه المطالب؟ وكيف يمكن الحفاظ على استمرارية الحراك وثباته؟ وكيف يمكن مواجهة محاولات السلطة التي لم تكتف بالعنف، بل لجأت إلى كل ما يمكن أن يقصم ظهر المتظاهرين و «أبلستهم»؟ أما الحلول التي كانت تقترحها السلطة لحل مسألة النفايات (من فتح مطمر الناعمة إلى استحداث مطامر طائفية وصولا الى الترحيل)، فلم تساهم عملياً سوى في زيادة الشروخ. هذه المجموعة توافق على التفاوض مع السلطة وتلك ترفض. هذه تريد أن تقطع هذا الطريق، وتلك تفاجئ الجميع باحتلال وزارة البيئة. هذه تريد استقالة وزير البيئة وتلك تريد استقالة وزير الداخلية. هذه ترفع صورة هذا الزعيم السياسي وتلك ترفع صور الكل. كان التخبط سيد الموقف برغم وجود شخصيات تملك تجربة سياسية أو نقابية عريقة! من نزل في 22 و23 و29 آب، ترك انتماءه الطائفي والحزبي والسياسي خلفه. هل بدأ فعلاً التسرّب؟ شكّل هذا السؤال بحد ذاته رعباً فعلياً لقيادات بنت سلطتها على تجيير مرافق الدولة ومؤسساتها وقدراتها لمصلحتها، فكانت هي الممر الإلزامي للمواطن إلى حقوقه. خوف السلطة قابله إصابة القائمين على الحراك بحالة من النشوة والسكر. صار أهل السلطة شبه متيقنين من أن المواطن الذي ينزل إلى الشارع لأن النفايات وصلت إلى بيته، سيبقى في الشارع حتى لو بلغ الشعار حد المطالبة بإسقاط زعيمه الطائفي. وفي المقابل، صار كل حراك يعتقد أن هذا الجمهور جمهوره ويتحرك كيفما يشاء وساعة يشاء وتحت أي شعار يختاره له! هنا تحديداً، ثمة من يعتقد أن الحراك بدأ بالانحدار. شخصنة «العدو» لم تكن مفيدة. وحصر النظام برموزه لم يعبّر عن نضج سياسي كاف. تلك الصور التي رُفعت أخافت كثراً وساهمت في زيادة الشرخ بين المتظاهرين، وكسرت أرقام الدراسات التي كانت تشير إلى أن السلطة بمؤسساتها وزعاماتها تتحمل مسؤولية أزمة النفايات، وأن نسبة مؤيدي الحراك من اللبنانيين وصلت إلى 85 في المئة، وفق دراسة أجرتها شركة «آراء» ونشرتها «السفير» في 8 أيلول 2015. كثر يؤمنون بأن النظام صار ولاّدة أزمات، ولا بد من تغييره. هذا مطلب قد يكون مطلب حق من وجهة نظر جمهور حزبي لبناني معين، لكن كيف يمكن الوصول إليه في بلد تحكمه الطوائف ويحظى زعماؤه بالتأييد الشعبي؟ في الدراسة نفسها التي أجرتها «آراء»، ثمة إشارة إلى أن التأييد القوي للتحركات لا ينطلق من رفض الطبقة السياسية الحالية بقدر تعبيره عن تعاظم الرغبة في إصلاح البلد. لذلك بدا مفهوماً أن يؤيد 70 في المئة من اللبنانيين دعوة رئيس مجلس النواب إلى الحوار، وأن يرفض 35 في المئة منهم استقالة حكومة تمام سلام. هل سأل من أرادوا إسقاط النظام أو ظنوا أنه بدأ يتهالك أنفسهم: ما الذي يمكن أن يحدثه إزاحة 6 أو 7 زعماء؟ هل يمكن حقاً أن يسقط النظام إذا سقطوا؟ كثر من أقطاب الحراك كانوا مؤمنين بأن النظام الذي أنتج هؤلاء قادر على إنتاج غيرهم. كل ذلك يقود إلى نتيجة واحدة: نظام المحاصصة بين الطوائف وأصحاب المال والمصارف، المحصن بولاءات خارجية تمد من عمره، ثابت لا يكترث لا بالأسماء ولا بالصور. لا بل على العكس هو قادر على تنقية نفسه من أي اسم لا يخضع له. بعد عام على الحراك، الذي اندثر بعد فترة وجيزة على انطلاقه كحالة شعبية عارمة، يبدو جلياً أنه لم يزل حاضراً كحالة وعي ساهمت وما تزال في تعميم حالة الرفض. وقد عبّرت عن نفسها في أكثر من مناسبة لعل أبرزها الانتخابات البلدية الأخيرة التي شهدت «انتفاضات» أهلية في أكثر من مدينة وقرية على امتداد كل لبنان، نجحت في تثبيت نفسها في وجه ماكينات السلطة، وكانت «بيروت مدينتي» أبرز تجلياتها. وليس بعيدا عن الحراك البلدي والاختياري، ذلك الحراك الذي تشهده بعض أحزاب لبنان، وخصوصا العلمانية كالحزب الشيوعي الذي وصل الى أمانته العامة قائد نقابي من رموز «الحراك» بالإضافة الى عدد كبير من الناشطين الذين يحتلون مراكز قيادية بارزة فيه، وهذا ما يسري على «حركة الشعب»، ناهيك عن كسر حاجز الخوف في الحزب القومي! الحملات المنبثقة عن الحراك ما تزال حاضرة، ليس بالحجم الجماهيري، لكن بالصوت العالي الرافض للفساد. والحراك حاضر أيضاً كفعل تراكمي، بدأ مع حملة إسقاط النظام الطائفي قبل أكثر من عشر سنوات، واستمر مع حملة «لا للتمديد»، مروراً بنضالات «هيئة التنسيق النقابية» وغيرها من التحركات النقابية المتقطعة، وهي حملات بدأ ينضم إليها حراك ما يزال خجولاً، يدعو إلى اعتماد نظام انتخابي عادل، مبني على النسبية ولبنان دائرة واحدة. أي بمعنى آخر، يدعو إلى إصلاح النظام من الداخل بما يؤدي إلى فتح نوافذ وخرق حصرية التمثيل وإعادة إعلاء الحياة الدستورية التي غيّبتها المحاصصة منذ الطائف حتى الآن.