كتب المحرر السياسي:
باستثناء فارق الصوت الواحد بين سليمان فرنجية والياس سركيس في انتخابات العام 1970، لم ينتج لبنان منذ الاستقلال لا بل منذ زمن «دولة لبنان الكبير» رئيسا صنع في لبنان. فهل بات قرار سعد الحريري، بحل أزمته الشخصية، كفيل بإنتاج «لبننة رئاسية» غير مسبوقة في تاريخ لبنان؟
ندر أن تجد لبنانيا يمكن أن يصدق ذلك. صحيح أن الحريري ليس «قويا» كفاية لا في طائفته ولا في «مملكته» في هذه الأيام، إلا أنه «قوي» بقدرته على التحكم بالمسار الرئاسي.
المعادلة واضحة: طالما أن «حزب الله» يريد ميشال عون رئيسا، فهو يملك القدرة على تعطيل وصول غيره، مثلما يملك الحريري نفسه القدرة على التعطيل أو التسهيل للآخرين، بدليل أن انتقاله من مرشح الى مرشح ينتج حيوية سياسية، ولو أنها لم تصل إلى أية نتيجة منذ سنة حتى الآن.
إنها لعبة عض أصابع مستمرة، إلى أن قرر الحريري أن يكسرها بتبنيه ترشيح ميشال عون، من ضمن سيناريو يعيده هو شخصيا الى السرايا الكبيرة، من دون أن تكون تلك العودة مضمونة النتائج.
السيناريوهات المتداولة محليا كثيرة. يُنسب للحريري بأنه سيمضي في خياره حتى لو عارضه رئيس المجلس نبيه بري ويُنسب لـ «حزب الله» بأنه ماضٍ في خيار «الجنرال» حتى لو صوّت رئيس المجلس ضده في جلسة الانتخاب، ويُنسب لسليمان فرنجية أنه فور تبني الحريري ترشيح «الجنرال» سيعلن انسحابه. غير أن هذه كلها تبدو مجرد تمنيات.
في خضم هذه الفسحة من «الآمال الرئاسية» المبنية على جدران من الرمل والتمنيات، لا بأس من تقديم المزيد من «أوراق الاعتماد»: تمرير هادئ للتعيينات العسكرية سواء بالتعيين أو التمديد. تأجيل التحرك العوني الشعبي ورسم سقف سياسي متواضع له. مشاركة سياسية عونية كاملة (وليس فقط عددية) في جلسة مجلس الوزراء، أمس، بدليل البصم على التعيينات الادارية التي استعجل الرئيس بري إقرارها قبل اعلان موت الحكومة لسبب من الأسباب!
أما «كتلة المستقبل»، فلم تغادر، أمس، مربع تحفظ سياسي يزنّر مواقف رئيسها الذي يبدو متهيبا لكل ما يرسم من سيناريوهات لليوم التالي بعد تبنيه ترشيح عون، ومنها سيناريو الدعوة الى «يوم غضب لبناني» (سني فعليا) في كل لبنان، وهل يمكن أن تتجاوب بيروت وماذا عن الشمال وصيدا والبقاع وإقليم الخروب؟
اكتفى الحريري بسرد عموميات أمام كتلته من دون الخوض في تفاصيل الخيارات التي ينوي الذهاب اليها، تاركا الباب مفتوحا أمام ما تبقى له من محطات للتشاور خارجيا وخصوصا في الرياض، علما أن معظم المتابعين للموقف السعودي يجزمون بأنه لن يكون هناك قرار سعودي نهائي إزاء أي من خيارات حلفائه، في ضوء التجارب السابقة.
بكل الأحوال، فان نظرية «أنا أو لا أحد» سواء في رئاسة الجمهورية أو مجلس النواب أو مجلس الوزراء، لا يسهل صرفها في المعادلات اللبنانية.
لنقرأ ما قالته مقدمة «تلفزيون المستقبل»، ليل أمس: «الخيار العسكري (الأميركي) بات على الطاولة يتقدم على الخيار الديبلوماسي. هذه الروح الأميركية المفاجئة التي دبت في الملف السوري، ربما تنعكس قريبا على الاستحقاقات في المنطقة، ومنها إنضاج القرار الإيراني بتسوية في لبنان، قبل انقلاب موازين القوى أو تغييرها على الأقل».
في المقابل، سألت قناة «المنار»: «هل يقرع الاميركي طبول حرب حقيقية ما استدعى هذا المستوى من الموقف الروسي («اي استهداف للمناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية هو استهداف لنا»)؟ ام انها طبول السياسة الاميركية المجوفة لادارة محرجة بالسياسة والاقتصاد وصولا الى صناديق الانتخاب»؟
رؤيتان نقيضتان وحسابات مختلفة في لبنان والمنطقة، فكيف يمكن أن تقرع طبول الحرب في الاقليم، بينما هناك من يراهن في لبنان، على قرع طبول الحرس الجمهوري ورفع السيوف، ترحيبا بفخامة رئيس للجمهورية، يقيم منذ فترة عند مفترق القصر في بعبدا؟
حتى الآن، لا يبدو أن الأمور قد نضجت، على عكس الكثير مما يقال ويروج. لا بل يصح القول إننا حتى هذه اللحظة ما زلنا بعيدين عن التسويات. لا يكفي حسن النيات ولا التبني الشخصي الفضفاض لهذا أو ذاك من الخيارات. لا بد من روزنامة زمنية ورزمة سياسية كاملة والا يستمر الوضع الحالي مفتوحا على كل الاحتمالات.
هبة باردة من هنا وهبة ساخنة من هناك. هذا هو حال الملف الرئاسي لا أكثر ولا أقل.
في الرابية، أجواء وردية جدا، حتى أن العماد ميشال عون بات ذهنه مشدودا الى خطاب القسم وثمة من يردد أن تشكيلات الحرس الجمهوري أنجزت ورقيا، من دون تجاوز حقيقة وجود مجموعة من المستوزرين الطامحين الذين يتنافسون على تقديم النصائح طمعا بكرسي من هنا أو مقعد استشاري في بعبدا من هناك!
في «بيت الوسط»، يتصرف سعد الحريري بوصفه «صانع الرؤساء». ثقته العالية بخياراته تجعله لا يقيم وزنا لأقرب المقربين إليه ممن يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا قرر المضي في خيار ميشال عون. في حلقته الضيقة جدا، لا بد من حماسة استثنائية عند البعض، وهي غير بعيدة عن منظومة مصالح بدأت ترتسم معالمها في أكثر من «قطاع حيوي»، قبل فترة من الزمن، ومرشحة مستقبلا لأن تزداد توطدا!
«حزب الله» كعادته، يتلقى اللكمات من كل حدب وصوب. من الحلفاء كما من الخصوم. وبرغم ذلك، لا يمانع من تنفيذ عملية أسر رئاسة جمهورية، من ضمن معادلة يكملها رئيس حكومة، بدل أن يبدي حسن النية، لا يتوانى، عن اتهام الحزب بـ «التعطيل الجائر»، من المنابر الدولية والمحلية.
هذه المعادلة بالنسبة إلى «حزب الله» يفترض أن يكون ممرها الالزامي تفاهمات لا تستثني أحدا، خصوصا أن المعادلة ـ الصفقة، تشمل رئاسة جمهورية ورئاسة حكومة لا تقل أهمية عن الأولى، بل ربما تفوقها، من منظور الصلاحيات.. وما تمثله أيضا السلطة التنفيذية في بنيان جمهورية الطائف العتيدة.
وها هو الرئيس نبيه بري، على جاري عادته، يكتسب دينامية ندر أن تتوافر عند غيره من اللاعبين المحليين. خطوطه مفتوحة مع الحريري وينتظر موفدا قريبا من عون، و»أنتيناته» ترصد كل ما يجري على خط بيروت ـ الرياض. لا يعفيه الانشداد إلى كلمة سر خارجية لم تأتِ بعد، من واجب «إعادة شدشدة» العلاقة مع بكركي. لذلك، قرر أن يوفد إلى سيدها البطريرك بشارة الراعي، اليوم، معاونه السياسي علي حسن خليل للقول له إن بيان مجلس المطارنة يلتقي إلى حد كبير مع مضمون سلة التفاهمات التي يدعو إليها.
كل من يسأل بري يأتيه الجواب: لا جديد عندي. عندما يتفقون أدعو الى جلسة رئاسية في غضون يومين، اهتمامي منصب هذه الأيام على التحضير للجلسة التشريعية التي ستتضمن حوالي 80 بندا تندرج معظمها في خانة «تشريع الضرورة». أيضا، يواصل التحضير لمشاركته في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي في جنيف من الحادي والعشرين من تشرين وحتى الثامن والعشرين منه. نظرته الى السلة والمرشحين لم تتغير حرفا واحدا.
وسواء أكان في المختارة أم في كليمنصو أم في الخارج، لا يتردد وليد جنبلاط في إطلاق العنان لتعبيرات سياسية تظهر حماسته لهذا أو ذاك من الخيارات، لكنه وكما قال للحريري، وحاول أن يشرح لبري: «أنا محكوم بمعادلة مسيحية ـ درزية في الجبل، يتحكم في جزء كبير من إيقاعها ميشال عون وسمير جعجع»، لذلك، يريد أن يتفادى «شرهما»، ولو اقتضى الأمر السير بخيار تفاهم معراب الرئاسي، برغم عدم حماسته له.
أما سمير جعجع، فيجلس عند تلك التلة الجميلة في معراب، مراقبا المشهد الى حد الانتشاء بمعادلة «رابح/ رابح». ففي الشارع المسيحي، ترتفع أسهمه، خصوصا في ضوء تفاهمه سياسيا مع الرابية. هو حتما مستعد للقتال في سبيل عدم وصول سليمان فرنجية الى «القصر». تكريس «نظرية الرئيس القوي» لن يكون بمقدور أحد استثمارها من بعد ميشال عون.. الا هو نفسه. ثمة تراكم لا بد منه ولو أدى ذلك إلى استنفار حلفائه. في السياسة، لا صداقات ولا عداوات دائمة. حتى الخصومة مع «حزب الله» ليست أبدية ولو وافقت قيادته على استقباله منذ زمن بعيد، ربما تغيرت أشياء وأشياء.
هذا هو المشهد العام محليا، هل يكفي من أجل «الفوز» برئاسة جمهورية؟
لننتظر الآتي:
- اللحظة التي يعلن فيها سعد الحريري تبنيه رسميا ترشيح «الجنرال»، وهي حجر الزاوية في كل ما يرسم من سيناريوهات.
- الموقف الذي سيعلنه في ضوء ذلك الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله.
- الجولة التي سيقوم بها العماد عون على عدد من الشخصيات وخصوصا الرئيس نبيه بري.
- موقف سليمان فرنجية من أي تطور رئاسي محتمل يقود الحريري في اتجاه الرابية.
- الأهم من هذا كله، تفاهمات الحد الأدنى: رئاسةً وحكومة وقانونا انتخابيا ونظرة الى ادارة الدولة وماليتها العامة، بمعزل عن اسم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المقبلين.