لارا، عمر، غنى، أديب وحلم الثورة
إنكسر قلبها وظهرها وأصبح العالم في عينيها باهتاً والعذاب كله تجسد في كلمة واحدة: أنا. هي. لارا علاء فخر الدين تلحّ عليها في هذه اللحظات، مع ذكرى بدايات ثورة ظنتها مجيدة، فأبت أن تفعل بانسيابٍ مفاعيلها! لارا، التي تتألم مع كل مطلع شمس، غاصت في الماضي القريب، في ماض تجسّد كله في لحظة، في أقل من لحظة، حين هوى علاء، البطل علاء، الزوج والحبيب والشهيد بين ذراعيها وهو يهتف: ثورتنا لبنانيي… ثورة علم وخبز وحرية… مات علاء أبو فخر وهي تموت بعده، بدل المرة، مرات!
“شو بدي قول… شو بدي خبرك… شو بدي اشكي وأنا عمببكي دم”. بهذه الكلمات تنطلق زوجة الشهيد علاء أبو فخر في سرد قصّة علاء وأولادهما الثلاثة عمر وغنى وأديب مع ثورة السابع عشر من تشرين وتلك اللحظة التي هوى فيها كل شيء.
ننتظر انتهاءها من “جلسة نفسية” تخضع لها منذ هوى علاء بين يديها، ونظر وهو يسقط صريعاً في عينيها. فهي لم تستطع بعد مرور أحد عشر شهراً وخمسة أيام على رحيله أن تنسى نظرته التي تلاقت مع نظرتها فتوحدت النظرتان الى الأبد.
لارا، التي رأيناها في مأتم علاء قوية وهي تُمسك بكفيها أصابعه وتتدلل بدموع كالشلال فوق جثته، تخضع الى علاج “الخروج من الصدمة” مع أطفالها الثلاثة. الجلسات النفسية تمحورت حول إخراج العائلة من الحزن، وها قد دخلوا في علاج الخلاص من الغضب، فبعد الحزن يشتد الغضب وبعد الغضب ستأتي مرحلة ما يختلط فيها كل شيء، مع كل شيء، قد تستعيد فيها العائلة القابلية للحياة. قد، ونشدد على كلمة قد، ففي لبنان لا شيء منطقياً حتى في علم النفس.
يا الله على أنين لارا. نتألم كثيراً ونحن نصغي الى حجم وجعها. نتألم لصوتِها، لعينيها، وللقهر الهائل الذي يستمر هائلاً فيها. تقول “خسرت الكثير، خسرت كما خسر الكثيرون، لكن مصرعه بين يديّ زاد الألم ألماً. لكن، منذ استشهد علاء، زاد أيضاً إيماني كثيراً. بتّ أقرب الى ربّ العالمين. بتّ أضع بين يديه كل همومي وشجوني وأتركه يرعاني وأطفالي كما يشاء. أتألم؟ كثيراً لكن لولا إيماني لانتهت حياتي. ثمة صوت يناديني، في كل لحظة انهيار: كوني قوية. اصبري. قاتلي أقله من أجل أطفالك. وهذا ما يجعلني أضحك أرقص أغني أمام صغاري لأعود وأقف ليلاً، وحدي، أمام المرآة وأبكي كما أشاء. أحاول أن أقنع أطفالي أن الحياة لم تنته. وبأن الثورة حياة. وبأن علاء، والدهم، أعطى الثورة دماء طاهرة، وبأن لا شيء أبداً ينتهي إلا إذا استسلمنا ولن نفعل”.
جميل ما تتفوه به لارا، لا بل رائع، لكن، كيف تستمد من الضعف قوة؟ كيف لها أن تبكي وحدها وتبتسم أمام كل الآخرين؟ تجيب “إيماني هائل أن الله الذي خلقنا سيأخذ حقنا من القتلة. وهذا ما أخبر به أطفالي. أخبرهم أن البابا بطل. إنه شهيد و”حقّاوي” وهوى وهو يطالب بحقوقهم وبمستقبل آمن لهم ولأترابهم. أخبرهم بألّا يفكروا في الإنتقام بأنفسهم. أخبر طفلنا عمر (12 عاما) بألّا يُصغي الى كل الكلام الذي يسمعه عن الأخذ بالثأر. أحدثه عن الطيبة وعن وجوب المضي على خطى أبيه. علاء كان طيباً جداً وأريد أن يكبر عمر وغنى وأديب كما علاء. علاء كان حبيبي وزوجي وبطلي ورفيقي وأخي وكل حياتي. تعرفنا على بعضنا في الجامعة العربية. وتزوجنا قبل 18 عاماً. وحبي له زاد وزاد واستمر يتّقد. علاء كان شهماً كريماً جباراً ويصنع من الضعف قوة. أحاول أن أفعل ما كان يفعل. أحاول تقليده. أحاول أن أبقيه بيننا كما لو كان لا يزال حياً”.
يُقال أن الشهيد يُصبح، لحظة استشهاده، نجمة تشع في السماء. فهل تنظر لارا حين يشتد وجعها الى السماء لتتلمس وجه علاء أبو فخر؟ تجيب: “عينا علاء لا تبارحانني. كان يقول لي “انشاالله موت ع حضنك… انشاالله موت كرمال لبنان”. تجهش في البكاء وتتابع: “الحياة صعبة كثيراً. هو دفعني جانباً خوفاً عليّ من الرصاصة التي رموه بها وهوى على الأرض وهو ينظر إليّ. ولدنا أديب (7 سنوات) فقد القدرة على الكلام طوال شهرين. أريد لأولادي أن يعيشوا عمرهم. وأن يكبروا في لبنان جميل يستحقونه. نتحلق كل يوم عند العصر حول بعضنا وأسرد عليهم حكايات بطل إسمه علاء. اخبرهم ما هو “صحّ” وما هو “خطأ” في هذه الدنيا. ولكثرة ما يرددون بابا قلت لهم لا تنادوني ماما بل بابا إذا كان ذلك يريحكم”. مؤلمٌ ما نسمعه ولكن، هل سأل عمر وغنى وأديب والدتهم إذا كان استشهاد والدهم قد ذهب سدى؟ هل سألوها إذا كانت الثورة تستحق منهم كل هذا الألم؟ تجيب: “أسئلة صغاري لا تنتهي وأحاول أن أردّ بأجوبة مقنعة غير أنني أشعر في داخلي بغضب هائل. الغضب من كل شيء وبدءاً من حالي. فأنظر الى المرآة وأرى كل شيء بشعاً. أقول لنفسي: كم أصبحتِ يا لارا نحيلة وقبيحة. أنظر في المرآة وأسأل الله: لماذا خلقتني وكسرت خاطري؟ وأغضب أحياناً على علاء نفسه وأناديه مقهورة: وعدتني بألا تتركني، بألا تتركنا، فلماذا لم تفِ؟ اقول له: لماذا ركضت أمام الجميع نحو الموت؟ أكرهك أكرهك… أقول له ذلك ولا ألبث أن أسقط أرضاً مرددة: لا تصدق ما قلت لك… أحبك أحبك… صدقيني لا أملك أي ملابس من رائحته لأننا كنا في مرحلة انتقالية بين الخريف والشتاء وكل ملابسه مغسولة. بحثت كثيراً عن قطعة له، عليها رائحته، فلم أجد. والثياب التي كان يرتديها يوم قُتل لم يعطونا إياها. وليس لدي إلا القطعة التي كنت أرتديها أنا وامتلأت بدمائه الزكية لحظة احتضنته بقوة. وفي كل مرة أشعر فيها أن قواي قد خارت ألجأ إليها، أتنشقها، أقبل دماءه فأستمد القوة”.
نسمعها بإصغاءٍ شديد وبإحساسٍ هائل. فهل نبكي لبكائها أم نحاول أن نمنحها القوة والعزاء؟ يقف المرء، بصدقٍ، عاجزاً أمام مشاعر لارا. تُرى، كيف ستعيش هي واطفالها لحظات انبعاث الثورة في السابع عشر من تشرين الأول ثم لحظات إستشهاد علاء أبو فخر في الثاني عشر من تشرين الثاني؟ نسترجع معها صوت الشهيد وهو يهتف “يا سارق مالي وحالي بدي غيّر هالحالة… الشعب اللبناني جريح وثورتنا هيي ثورة”. صدى صوته ما زال يملأ كثيراً من الفراغ. نسمعها تُردد مع صوته أناشيد الحرية ثم تقول “أنزل أحياناً الى ساحات الحرية وأمشي فأشعر بأن قلبي يمشي أمامي وبأن روح علاء تحوم حولي. وأتذكر في كل مرة أرى صوره معلقة بما قاله لي منذ تعارفنا وأحببنا بعضنا: أتمنى أن اموت شهيداً. كان يقتل نفسه من أجل إنجاح الثورة والبلدية والماراتون. كان مقداماً مندفعاً. أحياناً أردد في قرارة نفسي أن دماء علاء، ومن هم مثل علاء، قد ذهبت هدراً لكن أعود وأتمنى ألا يترك الثوار دمه ينشف. علاء قال لي قبل يومين من قتله: إذا استشهدتُ فداء الوطن عيشي بعزّ وكرامة”. وتسقط مجدداً في دموعها مرددة: وجعي لا ارضاه حتى لأعدائي. وأقول لهم، لمن قتلوا علاء ومن شجعوا على قتل علاء، إنني أنتظر عدالة الرب لا عدالة أهل الأرض. ودعوة المظلوم لا تُردّ”.
نتركُ لارا، المرأة الصلبة جداً أمام الملأ، المليئة بالمشاعر أمام المرآة، الحزينة، الغاضبة، لكن المؤمنة جداً بأن دعوة المظلوم مستجابة. ونتابع سنة جديدة في عمر الثورة على صدى صوت شهيد الثورة علاء أبو فخر وهو يهتف في آذان كل «مسؤول» غير مسؤول: «أرض بلادي منا لعبي… صعبي تكسر شعبي صعبي… ثورة ثورة ثورة».
دم علاء لم ينشف بعد. روحه ما زالت تحوم فوق ساحات الثورة والحرية في وطن ينزف بالشهداء من دون أن يرف لمسؤول فيه جفنٌ.