“الله معك يا شهيد… الله معك يا شهيد”. كثيرون يتذكرون هذه العبارة التي ترددت في محطات تتالت. وهذه المرة، البارحة، كان الشهيد الذي ودعه ثوار لبنان: علاء أبو فخر. الشهيد علاء رحل مسطراً حكاية جديدة من حكايات ثائر وثورة وأحلام…
هو الرابع عشر من تشرين. الحرّ شديد. الحرارة فوق العادة والمشاعر “تتلخبط” بين حارّة وباردة. هي مشاعرٌ مفرطة. هي أحاسيسٌ قوية لا أنصاف فيها. نمسحُ العرق المتصبب غزيراً ونتابع صوب المدينة الحزينة حتى الغضب. تلال الشويفات الجبلية حزينة حزينة حتى العظام. والوجوه عابسة والصمت يُصبح حاجة حين تتطاير الأوراق وتتحطم ابجديات الأرض. الصمت هو سور الحكمة. يا الله كم بدت الشويفات البارحة صامتة حزينة.
النساء متشحات بالسواد وبمناديل بيضاء حول الأعناق. والرجال، يحاولون إخفاء دموع متمترسة بين الجفون. عبثا. بكاء الرجال يدمي. نلحق مواكب السيارات فنستدلّ الى مكان وداع الشهيد. أشجار صنوبر. أشجار شربين. أشجار كينا…. هي طبيعة الشويفات الجميلة بدّت البارحة أكثر جمالا وألقا. الطبيعة أنثى والأنثى ثورة والثورة صار لها، في الشويفات، طابع خاص جداً.
نتابع طريقنا صعوداً، الى حيث يرقد البطل علاء (علاء أبو فخر) في وداعه الأخير. أوراق تحدد الإتجاهات: نحو المأتم… ونحو كنيسة مارمخايل… باصات تنقل الناس، صعوداً صعوداً، في عرس الموت. وناس يمشون حاملين علم لبنان. أعلام لبنان توزّع على المشاركين. والأحمر في العلم اللبناني وكأنه زاد حدّة قليلاً. هي دماء علاء زادت اللون قوّة. يا ضيعان شبابك يا بطل. هتاف يرتفع. نُمسك بعلمٍ لبناني ونتابع صوب مكان ركون النعش. النشيد الوطني يتكرر. الرجال الى اليمين والنساء الى الأمام. نتابع نحو الأمام ومعنا كثير كثير من الرجال. كلّ المشاركين في مأتم البطل يريدون أن يودعوه. نعشٌ بنّي وشابٌ، مثل البدر، يتمدد فيه. وأصوات بكاء ونحيب. نقترب أكثر. نلمس النعش. ندنو بعد. ننظر في الوجه، في اليدين، في التفاصيل. هو علاء راقد وكأنه في نومٍ عميق. وجهه هادئ. ننظر فيه أكثر. هناك قطعة شاش على الصدغ، لجهة اليمين، بين الأذن والعين. هنا أتت الإصابة. إصابة أتت قاتلة. يا لذاك الحقد الذي قضى على شاب حلمه لبنان وعلمه لبنان وقلبه لبنان ودمه سال في أرض لبنان. يرتفع النشيد الوطني اللبناني مجدداً. كلنا للوطن للعلى للعلم. الحرّ يشتدّ أكثر. نقترب من لارا. نقف الى جانب شقيقات الشهيد الأربع: عبير، تغريد، خلود وأنيسة. ننظر في وجوه الوافدين. نصغي الى الكلام المنثور ورداً وإلى المرثيات والى آهات الألم. ننصتُ الى الصراخ بين حين وآخر: وين الصليب الأحمر؟ وين الصليب الأحمر؟ عشرات النساء غبن عن الوعي. إمرأة مسنّة متكئة على حائط رددت حين رأت وجه إمرأة ينقلها شباب الصليب الأححمر على عجل: هذه إيمان… علاء إبن خالها. هو التأثر الشديد؟ هو الحرّ الشديد؟ أم هو تأثير الشهيد علاء على كلّ من عرفوه؟ كلّ من عرف علاء أحبّه. هو نصير الفقراء من زمان. هو نصير الأرامل والموجوعين. وهو نصير الحرية. أكاليل الورد الأبيض تصل تباعاً. إكليل وصل للتوّ من القدس مذّيلا باسمِ المطران عطاالله حنا، رفعوه عالياً مرددين: حتى فلسطين تشاطر الشويفات حزنها. تفاصيل تفاصيل لكن البوصلة تبقى واحدة. نتجه نحو الشهيد. وننظر في يد لارا (زوجته) الممسكة بقوّة يده اليمنى. تفرك فيها. تحاول أن تعيد الحرارة إليها. تقبلها. تتدلل عليه. تُحمّله علماً. تحمله علماً ثانياً. ترمي عليه أوراق الورود. وتعود وترفع بين الفينة والأخرى الأغصان الخضراء وترميها بعيداً. وتعود وتفرط أوراق الأزهار. والدتها إكرام تجلس حول النعش وتصرخ في شكل متتالي: “الله يرحمك يا قلبي… كان معيّش بنتي ملكة”.
شقيقاته حزينات حزينات. والمياه ترمى على وجوههن لإعادة بعض الرمق إليهنّ. وإحداهنّ تبدو كأنها تعدّ أصابعه أو كأنها تغني له أو كأنها تحاول هي أيضاً أن تعيد إلى الأصابع واليدين والوجه بعض السخونة، بعض الحياة. مشاهد تلوي قلب من له قلب. عمر. عمر. وين عمر؟ يصل طفله عمر الذي بدا، في يومين، وكأنه أصبح رجلاً. يتقاطر الرجال لرفعه على المنكبين. نشعر به وكأنه يحاول أن يشيح بعينيه عن النعش. ينادونه. علاء علاء. يصفقون له. يزلغطن له. ترفع لارا، الوالدة، عينيها صوبه وتصرخ فيه: إرفع رأسك إرفع رأسك يا قلبي يا ماما. يرفع رأسه. يؤدي تحيّة الحزب الإشتراكي. ينظر في وجه والده الشهيد. ويحاول مجدداً أن يحيد بناظريه. البطل عمر إبن البطل علاء لكن موت علاء غدراً لم يستوعبه بعد عمر.
لعلاء شقيق واحد هو إيهاب. يا حبيبنا يا إيهاب. تصرخ النسوة. أما شقيقة علاء فتنظر حولها مرددة: هذه ليست المرة الأولى التي يحاولون إيذاءه لكنهم نجحوا هذه المرّة. “تعرضوا من قبل لخيي”. وفد الحزب الإشتراكي وصل. تيمور جنبلاط. مروان حمادة. وائل أبو فاعور. أكرم شهيّب. رامي الريّس… دنا حمادة من وجه علاء وقبّله على جبينه. عمر، الطفل- الرجل، تقبّل التعازي من الوفد الإشتراكي. وعاد ورُفع على المناكب على هدير أصوات: الله معك يا عمر… الله معك يا عمر… الله معك يا علاء… الله معك يا شهيد…
إبنة علاء “غنوجة البيت” رُفعت هي أيضاً على الأكف. حاولت أن تحجب عينيها هي أيضاً عن والدها. بكت. رفعت أصابعها بعلامتي النصر وهي تبكي. صرخت: بابا بابا بطل. صرخت جدتها إكرام: برافو يا تاتا… برافو يا تاتا… أما شقيقات علاء فصرخن عالياً: الله يقويكم يا عمتو…
لحظاتٌ صعبة جداً. لحظاتُ الموت دائماً صعبة فكيف إذا جاء على شكلِ فاجعة وغدر؟
“نيالك نيالك”. المعزون نادوا بهذا. والهتافات كلها جزمت بأن الثورة باقية باقية ودماء الشهيد لن تذهب سدى. معلمات مدرسة الناشونال كولدج بعقلين مروا جنب النعش. صاحت بهنّ لارا بحبٍّ: انتبهن الى عمر إنتبهن الى عمر. أجبن: أولادكِ وأولاد علاء في عيوننا. تكفلت المدرسة بتعليم الأطفال الثلاثة مجاناً الى حين تخرجهم. “أبيات الشعر” التي تليت من الجموع الزاحفة في وداع الشهيد كثيرة. وعبارة تكررت “عبر الشهيد الجسر”. وهتاف: “شعبك واقف متل الصخر… ودماؤك يا أبو فخر… رح يبني لبنان جديد… قسماً قسماً يا شهيد”.
مسبحة ٌ وصليب وضعا على صدر الشهيد. وهدير هتاف الجموع على صدى واحد: “عن هالثورة ما منحيد”. الساعة الواحدة علا الصراخ. حان الوقت. في هذه اللحظات سيعبر الشهيد الجسر بجسده أيضاً. غمروه. عصروه. والدته، التي بدت في هدوء ظاهر وإن كان وجعها لا يضاهيه وجع، صفّقت له كثيراً. عمر رُفع مجدداً على الأكفّ مرتدياً “تي شيرت” والده ووشاحه. وسار الجميع وراء النعش. يا لهذه اللحظات. يا الله يا الله. غادر الشهيد، شهيد الثورة، هذه الدنيا. الثورة لا تزال حيّة. لارا وعدت أنها ستنضمّ إليها من جديد. هذا وعد منها الى علاء. عُمر، وعد والده أن يرفع رأسه أيضاً عالياً. لبنان الذي تلقّى، من أقصاه الى اقصاه، موت الشهيد – الثائر، كما الفاجعة، أقسم اليمين بأن تبقى روح علاء حيّة. لكن، قبل أن يغادر الجميع سمعوا عالياً من يحييهم مردّداً بيتاً شعرياً أنهاه بعبارة: “أبو تيمور رح يطفي النار”.
علاء أبو فخر شهيد الثورة.