سواء تمّ طرد النائب ألان عون بشكل رسمي، وعلني من الحزب الذي كان واحداً من أبرز مؤسسيه، أم أبقى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الورقة في جيبه، كما يفعل مع نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، من باب ترك بازار العرض والطلب مفتوحاً… فالمسألة تعدت تلك التفاصيل الشكلية التي لا تبدّل في الواقع أو في خطّة باسيل: التضييق على النواب المعارضين والمشاكسين حتى تطويعهم أو التخلّص منهم. كل ذلك بسبب هروب باسيل من أي مساءلة داخلية تضع سلوكه طوال كل سنوات رئاسته للحزب، موضع تقييم حقيقي يفسّر أسباب تراجع التيار وتراكم الأخطاء.
هذا هو باختصار عنوان المرحلة بالنسبة لرئيس «التيار» ومن خلفه المؤسس، رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون. أمّا لغز اختيار التوقيت فلا يزال غامضاً لا سيما وأنّ هذا المسار من الاشتباكات الداخلية بين رئيس الحزب وبعض النواب، عمره أشهر وليس ابن ساعته، وبالتالي لا حدث طارئاً أو استحقاق مرتقباً يمكنه أن يبرر هذه المواجهة التي لا تزال مكتومة رغم أنّها مرشحة للانفجار والخروج إلى العلن بكثير من تفاصيلها.
من يعرف حيثيات الصراع الخفي – الظاهر نسبياً، والحاصل بين باسيل وعدد من النواب العونيين، حاملي البطاقة الحزبية، يدرك أنّ الكباش محكوم بقواعد لعبة الشطرنج، بقرار مبرمج من النواب المعترضين، بمعنى أنّ لكل حدفة، حدفتها المقابلة. ولهذا يعتصم هؤلاء النواب بالصمت، ويتركون الركلة المقبلة لباسيل، لتكون من بعدها الكلمة لهم.
في الواقع، فقد دلّت المعطيات في أكثر من محطة سياسية وانتخابية وحزبية، على أنّ «التيار» سيواجه لحظة مفصلية قد تعرّض وحدته الداخلية للتشظي، أقله في ما خصّ التكتل النيابي، الأمر الذي سينعكس حكماً على قواعده الحزبية لا سيما وأنّ حالة التشظي هذه تطال نواباً يشكلون حالة شعبية في مناطقهم وهم أساسيون في تركيبة «التيار»، وبالتالي فإنّ إخراجهم من الحزب لا يعني خروجهم وحيدين، بورقة توت فقط، كما يرغب باسيل، لا بل قد يقسمون الحزب عن بكرة أبيه.
ولهذا، يعدّ باسيل للألف وليس للمئة قبل أن يقوم بأي خطوة، لا عودة عنها، من شأنها أن تثير عاصفة في التيار يصعب تهدئتها. بهذا المعنى بقي قرار طرد بو صعب، موضع تكهنات، مقصود، قبل أن ينضمّ مصير النائب ألان عون إلى قافلة المرشحين للطرد.
بالتفصيل، يتبيّن أنّ مجريات الانتخابات النيابية أظهرت بما لا يقبل الشكّ أنّ رؤوس كلّ من النواب بوصعب، عون، ابراهيم كنعان، سيمون أبي رميا، وضعت على المقصلة لأنهم باتوا يشكلون خطراً على وضعه الداخلي بعد سلسلة الإخفاقات التي ارتكبها في مساره الحزبي والسياسي. ولما كان إخراجهم من البرلمان صعباً، عمد باسيل إلى قصقصة جوانحهم من باب إضعافهم وتطويقهم لإخضاعهم. وبعد خروج الرئيس عون من قصر بعبدا، راحت رقعة الخلاف تتوسّع أكثر بعدما احتكر باسيل، كعادته، الملف الرئاسي وحاول أن يفرض رأيه غير المبني على قواعد مقنعة تحافظ على استمرارية الحزب، على النواب، فيما قرر بعضهم التغريد خارج السرب بحجة عدم قناعتهم بما يقوم به رئيس الحزب. فبدا التمايز بين الفريقين فاقعاً لدرجة أنّ باسيل لم يكن بمقدوره أن يسكت أو أن يلمّه.
ولهذا يسود الاعتقاد أنّ الدوافع التي أملت على باسيل الانتقال في مواجهاته الداخلية من مربّع السجالات المكتومة، المحكومة بقاعدة أنّ ما يحصل في «التيار يبقى داخل التيار»، إلى مربّع القرارات الرسمية المحكومة بقاعدة «عليّ وعلى أعدائي»، هي:
– الشعور بالضعف الذي يسبّب التوتر لجبران باسيل ويدفعه للهروب إلى الأمام لاستعجال وقوع الاشتباك المؤجل مع النواب المعارضين الذين لا يترددون في استفزازه وضرب كل مقومات سلطته وتسلّطه. فيما هو يغطّي مشروع استعادة هيبته بقشرة حفلة العلاقات العامة التي يجريها مع بعض الشخصيات السياسية تحت عنوان الانفتاح، مع العلم أنّه بالتقريش السياسي لا تساوي هذه الحفلة شيئاً لأنّ العديد من هؤلاء استأذنوا على سبيل المثال رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية قبل أن يستقبلوا باسيل أو يزوروه في البترون. كما أنّ استباق الأحداث لفتح باب البيع والشراء في استحقاق العام 2026، فيه شيء من الهذيان خصوصاً وأنّ هذا الاستحقاق سيخضع أولاً لمعمودية رئاسة الجمهورية بما ستحمل من تغييرات في المشهد السياسي وفي خارطة التحالفات.
– مِن قصر النظر الاعتقاد أنّ جبران باسيل في هذه المعركة بلا عضلات الرئيس ميشال عون. فعلياً، العماد عون هو الذي يخوضها باستراتيجيته المعروفة: رفع السقوف إلى أقصى مداها، عدم المساومة. ولهذا يرفض رئيس «التيار» أن يساوم على ترشيح سليمان فرنجية ويلعب أوراقه كاملة، فإما يربحها صولد وإما تكون الخسارة قاتلة. كذلك في الشأن الداخلي، يضغط عون وباسيل قبل الاستحقاق النيابي بسنتين، على النواب المشاكسين، إما للتخلّص منهم وشيطنتهم أمام القواعد العونية، وإما لتدجينهم ليسيروا على المسطرة.
في المقابل، بات هؤلاء النواب يشعرون بأنّ حجم الأخطاء التي ارتكبها باسيل صار لمصلحة قلب الطاولة رأساً على عقب، بعدما ربحوا أكثر من سنتين من الوقت اذا ما افترضنا أنّ قرار «اعدامهم» صدر عشية الاستحقاق النيابي الأخير، والآن حان وقت تنفيذه. ولهذا، يعتقد هؤلاء أنّ التحرك مجتمعين هو الخيار المتاح أمامهم ليفلتوا من حبل المشنقة الذي يطوّق مصيرهم. حتى الآن، الكرة متروكة في ملعب باسيل ليقدم على فصل ألان عون. واذا ما حصلت يفترض أن يكون للنواب المعترضين كلمتهم. ولكن هذه المرة سيُقال في العلن كل ما يُقال في الخفاء. والحبل على الجرار.