نسب الزعيم اللبناني البارز وليد جنبلاط، إلى أحد الدبلوماسيين الروس أن بشار الأسد كان قد أرسل إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي رسالة قال فيها إنه إنْ تم تقسيم سوريا وأُقيمت دولة علوية فإنها لن تشكّل أي خطر على إسرائيل. ويقيناً أن أي متابع للتقلبات في هذا البلد منذ انهيار الدولة العثمانية وحلول فرنسا محلها كدولة مستعمرة في بدايات عشرينات القرن الماضي يتأكد من أنَّ هذا صحيح كل الصحة، وأن قيام هكذا دولة مذهبية بقي هاجساً حاضراً على مدى القرن الماضي بأكمله وحتى الآن وربما إلى عقود مقبلة قليلة أو كثيرة.
كان بشار الأسد قد قال، عندما اشتدت في الضغط عليه وعلى نظامه أضلاعُ المعادلة السياسية في عام 2012، أنْ يصبح عدد سكان سوريا ثمانية ملايين «متجانسين»، أي من طائفة واحدة أو من أقليات طائفية متفاهمة، فإن هذا أفضل من ثلاثين مليوناً غير متجانسين وغير متفاهمين، والمعروف أنه ولتحقيق هذا الهدف «الديموغرافي» قد تم استيراد وعلى أسس مذهبية مئات الألوف من الأفغان والباكستانيين والإيرانيين… وأيضاً العراقيين الذين أصبحوا يشكّلون أحياء طائفية مغلقة في دمشق وحولها.
وحقيقةً إن هذا قد جرى تحقيقه وبدعم روسي ومشاركة إيرانية وحيث تم تهجير ثمانية ملايين من السُّنة وتشتيتهم في أربع رياح الأرض، ويبدو أن الإحصاءات الصحيحة تشير إلى ما هو أكثر كثيراً من هذا العدد، هذا غير القتلى وغير المعتقلين الذين تطفح بهم السجون الأسدية وغير الذين تم تهجيرهم داخلياً إلى المدن والبلدات والقرى والمناطق السورية.
ولعل ما يجب أن يقال في هذا المجال إن الزعيم القومي العلوي صالح العلي كان أحد رموز تلك الدولة المبكرة التي كان قد تم إنشاؤها برعاية فرنسية في عام 1920، لكنه ما لبث أن تخلى عنها وأسهم في إلغائها وبادر ومعه الزعيم العروبي سلطان باشا الأطرش إلى إطلاق شرارة الثورة السورية الكبرى في عام 1925 ضد المستعمرين الفرنسيين التي كان قد انضم إليها «مجاهدون» من كل المناطق السورية وأيضاً من الأردن ولبنان وفلسطين ودول عربية أخرى من بينها العراق بالتأكيد.
والمهم أن الفرنسيين قد حرصوا خلال فترة عشرينات القرن الماضي على إنشاء ما سُمي جيش الشرق الذي اعتمدت فرنسا في تشكيله على الأقليات السورية ومن بينها العلويون الذين كان لهم النصيب الأكبر في هذا الجيش وهذا جعلهم يشكّلون مستقبلاً وبخاصة بعد انقلاب «البعث» الأول في عام 1963 القوة الرئيسية في الجيش السوري وجعلهم يقومون بانقلابين عسكريين لاحقين، كمحصلة للصراعات بين كبار ضباطهم؛ الانقلاب الأول هو انقلاب الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 وكان الأبرز فيه اللواء صلاح جديد، والانقلاب الثاني هو انقلاب حافظ الأسد في عام 1970 الذي جعل الثقل الرئيسي في الجيش السوري هو لضباط الطائفة العلوية.
وفي هذا المجال فإنه يمكن القول إن الضباط العلويين، بعد انقلاب أو «ثورة» مارس (آذار) عام 1963 وبعد تصفية بقايا الضباط الناصريين، باتوا يسيطرون على اللجنة العسكرية التي كانت تشكل قيادة القوات المسلحة السورية بكل أجهزتها وفروعها وحيث بدأ بعد ذلك تلاشي الضباط السُّنة الفاعلين وتحول الجيش السوري عملياً إلى جيش من لون واحد ومع العلم أن العرب السُّنة كانوا في ذلك الوقت المبكر يشكّلون أكثر من 70% في سوريا بينما كانت نسبة العلويين لا تصل حتى إلى 10%.
ولعل ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أنه في فترة الوحدة المصرية – السورية (الجمهورية العربية المتحدة) قد جرى استهداف الضباط البعثيين والعلويين منهم بصورة خاصة ونقلهم من سوريا (الإقليم الشمالي) إلى مصر (الإقليم الجنوبي) وهذا قد دفع خمسة من هؤلاء إلى تشكيل لجنة عسكرية سرية في القاهرة ثلاثة منهم من الطائفة العلوية هم: محمد عمران وكان أعلاهم رتبة، وصلاح جديد، وحافظ الأسد، واثنين من الطائفة الإسماعيلية هما: عبد الكريم الجندي وأحمد المير، التي هي أقل طوائف سوريا (5%) بعد الطائفة الدرزية (2%). وحقيقةً إن هذه اللجنة هي التي كانت قد قامت بكل الانقلابات العسكرية اللاحقة في هذا البلد بدءاً بانقلاب عام 1963 وصولاً إلى انقلاب حافظ الأسد في عام 1970 الذي غدا بعده مهيمناً على الحزب والدولة والجيش والمؤسسات الرسمية والشعبية وكل شيء حتى وفاته وحيث انتقل هذا الإرث كله بعده إلى ولده بشار.
والواضح ورغم أنه منذ عام 2012 حتى الآن قد حدثت متغيرات كثيرة، إنْ في سوريا وإنْ في هذه المنطقة كلها، فإن خيار إقامة الدولة العلوية المنشودة لا يزال قائماً ومع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن بعض رموز أبناء هذه الطائفة يعتبرون أن خطوة كهذه ستكون خطوة انتحارية بالفعل وأنها مستحيلة من الناحية الجغرافية، إذ إن لواء الإسكندرون أصبح منذ عام 1938 جزءاً من تركيا وحيث إن هذه الدولة إنْ هي قامت بالفعل فإنها ستعيش في بيئة إقليمية معادية، فالأتراك السُّنة في الشمال وهناك حلب وإدلب السُّنيتان وحمص وحماة، ثم هناك طرابلس اللبنانية السُّنية، وهذا يعني أن هذه الدولة المفترضة ستدخل منذ البدايات في صراعات طائفية مستمرة ومنهكة.
لكن يبدو أن حسابات بشار الأسد ومَن معه من العلويين غير هذه الحسابات، وهذا ما يجعل متابعين عن بُعد ومن بينهم بعض كبار المسؤولين السابقين، ومنهم عبد الحليم خدام، يرون أن الرئيس السوري إنْ هو شعر بأنْ لا بقاء له كرئيس لسوريا كلها فإنه سيقْدم على هذه الخطوة. ولعل ما يؤكد هذا أن عمليات تركيز القوات العسكرية الكاملة «العلوية» في مناطق هذه الدولة الانفصالية المتوقعة قد بدأت مبكراً، وأنّ كل شيء غدا جاهزاً، وأنّ هذا التحول بات متوقعاً بالفعل وبخاصة إذا تم إخراج الإيرانيين من هذا البلد وإذا تغيرت مواقف الروس تجاه هذا النظام وباتوا يسعون لسلطة غير هذه السلطة تكون للأكثرية السُّنية فيها الكفة الراجحة وعلى أساس أن تصبح هذه الدولة دولة ديمقراطية ولو بالحدود الدنيا.
ثم إنّ ما يعزز القناعة أن بشار الأسد ذاهب إلى خيار الدولة العلوية كخيار نهائي أنه لم يبادر إلى أي رد فعل جدّي بعدما أصبحت هضبة الجولان تحت السيادة الإسرائيلية كهدية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأنه، أي الرئيس السوري، خلافاً لهذا، وحسب ما تردد، قد بعث برسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يطمئنه فيها بأن تقسيم سوريا وإقامة دولة علوية لن يشكّل أي خطر على دولة إسرائيل.
وأيضاً فإن الواضح أن تحويل اللاذقية إلى قاعدة بحرية إيرانية، وتحويل طرطوس إلى قاعدة عسكرية روسية، هدفه من جانب بشار الأسد حماية دويلته الطائفية المنشودة. وحقيقةً إن كل المؤشرات تدل على أن هذا الخيار هو خيار جدّي بالفعل وبخاصة أن الرئيس السوري من غير الممكن أن يبقى قادراً على البقاء بعدما حصل كل هذا الذي حصل.
وهكذا وتحاشياً لأي سوء فهم فإنه في النهاية لا بد من تأكيد أن هناك العديد من العلويين الشرفاء وأنهم يشكّلون أغلبية صامتة لا هي راضية عن هذا النظام ولا هي قابلة بما فعله ويفعله ومن بينه ما قام به من اغتيالات وتصفيات وتهجير وتشريد للعديد من قياداتهم الفعلية. وهنا ولأنه لا يمكن أن تعود سوريا إلى ما كانت عليه ولأنه لا يمكن القبول باستمرار هذا النظام ولا بحكم أقلية مذهبية، فإنه كما هو واضح ومؤكد أنَّ خيار الأسد هو إقامة دويلته «العلوية» المذهبية وبموافقة إسرائيلية.