Site icon IMLebanon

بيكفي إنك لبناني

 

يشهد لبنان منذ فترة طفرة لا سابق لها في استهلاك المشروبات الروحية سواء في الحانات والمطاعم والبارات او في البيوت، وقد أجّج وصول أكثر من مليون ومئتي مغترب وسائح هذه الفورة بحيث بات «الكاس» دواء اللبناني في غياب الدواء و»رفيق» المغترب والسائح الذي به يتوه عن مشاكل البلد وعيوبه ويسكر بجماله. وإذا كان هذا الأخير قادراً بدولاراته الفريش على استهلاك أفضل أنواع الكحول فهل اللبناني المقهور لا يزال قادراً على تحمل تكلفة المشروب الباهظ أم أنه وجد له بدائل؟

من يهوى السكر لا يعد الكؤوس ومن يطلب الترف لا يشرب إلا من رأس العين…أمثلة ألفناها في الماضي ولكن، لا الوصول الى النبع سهل اليوم ولا عد الكؤوس ممكن. إنها الأزمة تلقي بظلالها الثقيلة على قطاع المشروبات الروحية المستوردة التي تضاعفت أسعارها أكثر من عشرين مرة وانتقل سعر زجاجة الويسكي الحمراء المعروفة من 15000 ليرة الى 350000 والحبل على الجرار وسعر زجاجة الجن العادية من حوالى 11000 الى 300000 ولا يزال العد التصاعدي مستمراً….تجاه هذا الواقع كان لا بد من اجتراح حلول فإما التقنين في الاستهلاك، أو اللجوء الى خمور ملغومة مشبوهة المصادر بنوعيات دنيا او العودة الى البلدي… وصار في لبنان جن بلدي وويسكي بلدية وفودكا صنعت بكل فخر في لبنان.

 

مرة جديدة يعرف اللبناني كيف يستفيد من الأزمة بشكل إيجابي ويعيد تصويب الأمور نحو الأحسن. فقد فتح غلاء أسعار المشروبات المستوردة الطريق واسعاً أمام انتاج الخمور المحلية التي باتت مطلباً ملحاً لتلبية حاجة السوق الواسعة جداً. الشطارة والخبرة والسعي الى التطور ميزات ساعدت على إيجاد نوع جديد من صناعة الخمور بات قادراً على المنافسة بشكل جدي داخل لبنان وخارجه. وإذا كانت صناعة النبيذ اللبناني لم تعد بحاجة الى أوراق اعتماد والعرق المشروب الوطني قد سبقنا الى أنحاء العالم فإن مشروبات روحية مثل الجن والفودكا وحتى الويسكي صار يحق لها ان تتغنى بأصلها اللبناني.

 

ثورة المشروبات الروحية

 

في جولة على الأسواق وفي أحاديث مع بعض الشباب الذي اعتادوا السهر في الحانات تبين لنا أن بعض اسماء الجن اللبناني بشكل خاص صارت أكثر شهرة في هذه الأوساط من المستورد منه. بدورنا سعينا الى التواصل مع أحد مصنعي ماركة معروفة من الجن المحلي تحمل اسماً رمزياً هو O17 ويعني به تاريخ انطلاقة الانتفاضة اللبنانية عام 2017 وشعارها «كل جيل يحتاج لثورة». «هذه الانتفاضة هي التي جعلت الكثير من الشباب يفكرون بإطلاق شركاتهم الصغيرة يقول زياد متري مؤسس ومدير عام شركة O17 وإطلاق صناعات وطنية تغطي النقص الذي تسببت به الأزمة. وكشباب نحب السهر فكرنا كيف يمكننا مواجهة غلاء أسعار المشروبات الروحية، ومن هنا انطلقت الفكرة لتلبي حاجتنا أولاً وحاجة السوق اللبناني خاصة وان لبنان يتميز بالضيافة والسهر. وما شجعنا رؤيتنا أن المستقبل مفتوح أمامنا لنطور انتاجنا. وهكذا بدأنا صناعة الجن والفودكا وحتى الويسكي محلياً»

 

المعمل في منطقة المتين ليس مستجداً يملك خبرة 50 عاماً في صناعة الخل والسبيرتو وبعض أصناف المشروبات الروحية المعدة للتصدير الخارجي. لم يستطع يوماً منافسة المشروبات المستوردة لا لنقص في النوعية او الخبرة في التصنيع بل لأنه مثل كل الصناعات الوطنية تتلقى الضربات العنيفة نتيجة سعر صرف شجع على الاستيراد وغياب سياسة ضرائبية ناجعة تحمي الانتاج المحلي. وهكذا غرق السوق باسماء عالمية اعتادها اللبناني ولم يعد يرضى عنها بديلاً.

 

« في لبنان يؤكد متري صناعة للمشروبات الروحية تتميز بمواصفات عالمية ونوعية عالية جداً لكن حمايتها غير موجودة. ففي حين يبلغ سعر زجاجة الجن المحلي في جزيرة قبرص 5 يورو يرتفع سعر المستورد منه الى 20 يورو ما يجعل المحلي الأكثر استهلاكاً في السوق. نحن نصنع الجن في معملنا بمواصفات عالمية ونستورد المواد الأولية من إيطاليا للحفاظ على ثبات النكهة وانتاجنا مهم جداً وقد استطعنا العبور به الى خارج الحدود بكل ثقة».

 

لكن المشكلة التي يعاني منها كل صناع الخمور في لبنان تتلخص بعدم وجود جهات مختصة لتقييم النوعية وفق معايير محددة وبالتالي تصنيف المشروب وتحديد مستواه ومصداقيته، ولا وجود لمقاييس واضحة لصناعة الخمور تفرض على العاملين في هذا القطاع. لذلك فالسوق متروك للجيد كما للسيئ ولا من حسيب أو رقيب وحده ذوق المستهلك والعاملين في مجال المشروبات هو الذي يحدد نوعيتها أو إذا حالفها الحظ الخضوع لمعايير خارج البلد. ولا عيب في القول ان ثمة مشروبات محلية هي أقرب الى السبيرتو منها الى اي شيء آخر لكن استهلاكها يأتي من باب أن «لا افضل من البقلاوة إلا الخل ببلاش». ويقول مروان وهو «بارتندر» يملك خبرة في المجال أن استخدام الأنواع المحلية هذه على علاتها يبقى أفضل بمئات المرات من انواع المشروب «المضروبة» والسيئة التي تدخل لبنان وتباع بأسعار متدنية فتسبب المشاكل الصحية لمن يشربها وأفضل من الغش واستخدام نوعيات مستوردة سيئة وبيعها باسعار مرتفعة، فيما استخدام الأصناف المحلية يوفر على الزبون ويتيح له خيارات هو حر بقبولها أو رفضها. لكن عموماً من «يعرف طعمة تمه» يستطيع التفريق بين المحلي الجيد والمستورد السيئ.

 

«دخلنا سوق دبي يقول متري وهنا وعلى مدى ستة اشهر كان يتم فحص كل مواصفات الجن الذي نقدمه من نسبة الكحول الى الطعم الى تطابق المواصفات مع التسمية المذكورة على غلاف الزجاجة وغيرها وقد دهشوا لعدم توقعهم أن لبنان قادر على الوصول الى صناعة بهذا الطعم المميز. وهذا ما أعطانا دفعة ثقة بأنفسنا وجعلنا نذهب الى أبعد ونخطط للوصول الى أفريقيا والبرازيل واوروبا «. هذه التجربة الناجحة تدفع بالمصنعين الآخرين لتحسين انتاجهم وتطويره ليصبح قادراً على المنافسة محلياً ودولياً بدل استغلال وضع السوق المتأزم لتقديم انتاج محلي بنوعية رديئة في حين أن صناعة المشروبات الروحية يمكن أن تشكل رافداً حقيقياً للاقتصاد شرط ان يتم كما يقول الجميع رفع الضرائب على الكحول المستورد.

 

نعم للبلدي

 

الخارج تقبل مشروبنا اللبناني ولكن ماذا عن الداخل هل تغيرت عادات الشرب كما تغيرت كل العادات الإستهلاكية في لبنان؟ يقول نائل وهو مسؤول عن توزيع المشروبات الروحية في إحدى الشركات الكبرى أن أكثر من 50% من السوق اليوم يعتمد المشروب المحلي وذلك وفق أرقام البيع في السوبرماركت والتوزيع على الحانات والمطاعم التي تشكل نسبة الاستهلاك الأكبر، حتى أن بعض الماركات المحلية الصنع تعتبر بين الماركات الخمس الأكثر مبيعاً. وحين نقول ذلك لا نعني أعداداً متواضعة لأن استهلاك الكحول في لبنان شبيه بأية دولة سياحية وضعها ممتاز ويكاد يكون غير طبيعي في دولة مثل لبنان تعاني ما تعانيه من أزمات. ملايين الزجاجات تباع سنوياً يشكل الجن ثلثها والباقي مقسم على الأنواع الأخرى من المشروبات. ووفق احصاءات غير رسمية كان لبنان منذ 8 سنوات يستورد بحدود 400000 صندوق ويسكي في العام و250000 صندوق فودكا وأكثر منها من الجن. اليوم لا إحصاءات دقيقة حول الإستيراد ولكن بحسب حركة المرفأ فإن استيراد الماركات العالمية المعروفة قد تراجع بشكل ملحوظ ما بين 30 الى 40% لحساب ماركات جديدة غير معروفة بأسعار أقل بكثير.

 

«الوضع الاقتصادي السيئ فرض علينا كأصحاب مصالح وكمصنعين أن نجد حلولاً» يقول السيد زياد قرداحي وهو صاحب ريستو بار Hole in the Wall المعروف. «كلفة التشغيل اليوم مرتفعة جداً والمصاريف هائلة ما بين الإيجار والمولد والمواد المستعملة وهامش الربح ضيق. الواقع فرض علينا ألا نتكبر كما كنا في السابق وأن ننفتح على منتجات جديدة بنوعية جيدة وأسعار تنافسية، وجاء المنتج المحلي ليلعب هذا الدور. بخبرتنا نحن قادرون على التذوق والتعرف على المنتج الجيد. وحين يأتينا شباب يقومون بعمل ممتاز ويقدمون منتجاً جيداً لا يمكن إلا أن نرحب به. سابقاً ما كان ذلك ممكناً كنا نبحث عن أرفع الماركات العالمية لتقديمها للزبائن اليوم نقدم له الجن المحلي كخيار ونعرف أنه سيحبه ويطلبه لاحقاً لا بل ثمة الكثير من الزيائن صاروا يطلبون هذه الماركات بالإسم».

 

وإذا كان الجن قد أثبت جدارته في السوق عبر أسماء باتت معروفة جداً مثل O17 و JUN و «وطني» فإن الويسكي «البلدية» لا تزال في بداية الطريق. فالويسكي مشروب دقيق وطريقة تصنيعه اصعب من الفودكا والجن وكما عرفنا هناك اسم او اثنان لماركتي ويسكي محلية وجدتا لهما مكاناً بين المستهلكين فيما الباقي يتخبط ولكن حسبما قيل لنا فإن الويسكي لا تصنع في لبنان بل تتم تعبئتها محليا ولكن مهما يكن من أمر لا شك ان المصنعين يعملون على تطوير منتجاتهم على أنواعها وتجربتهم مدعاة للفخر كما يقول زياد قرداحي وفي غياب القروض المصرفية والدعم الرسمي لا مجال إلا للتطور لا سيما أن أزمة الإستيراد على ما يبدو ورفع سعر الدولار الجمركي لا يوحيان مطلقاً بتحسن الأحوال ورب ضارة تكون نافعة للصناعة الوطنية.