من الخطأ النظر إلى الحركات السياسية والاجتماعية في جانب واحد منها. لكل حركة أو ظاهرة «مشروع» ينشأ عن معطيات واقعية وموضوعية، وكذلك «وظيفة» تتحدد في إطار التفاعلات الأوسع والجهات الأقوى التي تتحكّم في مسارها. هكذا مثلاً لم تكن الثورة العربية عام 1916 إلا صاحبة مشروع قام على تاريخ من النزاع مع الدولة العثمانية، وحين انخرطت في الصراع غلبت عليها القوى الدولية وأخذتها إلى حيث شاءت. فليس من مؤرّخ لتلك الحقبة إلا ويستفيض في الحديث عن أسباب ومقوّمات الثورة العربية لينتهي عملياً إلى الخلاصة شبه العامة «وخدع العرب بالوعود». هذا الأمر ينطبق على كل الأوضاع التي نشأت منذ احتلال «السوفيات» لأفغانستان ونشوء «الحركات الجهادية المنظمة والمسلحة» حتى الآن، بما في ذلك «الثورات العربية» وحركات الإسلام السياسي الجهادي.
نعرف تماماً ما هو مشروع «داعش» فكراً وممارسة، ولكننا لا نعرف القدر الكافي من الجانب الوظيفي الذي يستخدم فيه هذا المشروع من الجهات الدولية، سواء أكان منسقاً ـ ولا بد أن يكون في جزء منه كذلك ـ أم كان بحكم التداعيات. كما نعرف طبيعة مشروع التحالف الغربي في عناوينه الكبرى على الأقل ولا نعرف «الوظيفة» التي تتوزع على مروحة واسعة من الفاعلين وإلى أين يمكن أن يصل هذا المشروع.
المخاطر ممّا يجري واضحة، أكانت مخاطر «الجهادية التكفيرية» أم خضوع المنطقة كلها لتيارين رئيسيين هما «الإسلام السياسي بمنوّعاته وتفرّعاته» وما لذلك من تناقضات هائلة بين الحركات والطوائف وداخل الشعوب وبين الدول، وكذلك للتيار الدولي «الغربي» الذي يستخدم كل هذه المعطيات لإعادة تنظيم أو «هندسة» سيطرته على المنطقة، من دون أن يعني ذلك كمال هذه الهندسة أو نجاحها ولا بالضرورة فشلها.
المسألة الآن أن المنطقة تواجه بمشاريع جزئية فئوية مشتتة متخلفة بالمعنى «القيمي» وبالمعنى المادي، بينما يتقدم الغرب مرتاحاً لإدارة مشكلاتها وأزماتها عن بُعد بواسطة «التكنولوجيا»، ولكن والأهم بواسطة القوى المحلية والإقليمية التي يسيطر على معظم عناصر التحكّم أو التأثير فيها.
يجب البناء على هذه الاعتبارات مرجعيات التفكير والتصرف على مستويات العالم العربي والإسلامي، وخاصة في لبنان، الذي رغم وجوده ضمن هذه العاصفة فلا يزال يملك إمكانات ومقوّمات التحصّن ضدها أو مقاومة الجزء الأكبر من تداعياتها السلبية، إذا عرف كيف يعيد صياغة وحدته الوطنية. نقطة الانطلاق في ذلك تقع خارج كل الخطاب السياسي التقليدي السائد منذ سنوات والذي يحمل في مضمونه الفعلي الانخراط في مشاريع تتجاوز لبنان إلى شكل من «الأمميات». فإذا كان المقصود فعلاً حماية «لبنان» كوطن نهائي أو لنقل ككيان لاجتماعنا السياسي كفئات متنوعة بعد ما شهدنا من أخطار ومآس على الجماعات والمجموعات من هذه الفوضى في المنطقة، فإن الحاجة تتضاعف للتعاون بين هذه المكوّنات لوضع إمكاناتها، وخاصة صاحبة الإمكانات المعروفة، في اتجاه حماية ليس الاستقلال اللبناني بالمعنى التقليدي، بل المجتمع اللبناني الإنساني الذي لا يزال حتى الآن قياساً لما يدور في المحيط والعالم قادراً على تقديم نموذج إيجابي إذا أُحسنت إدارته.
كلما استطعنا أن نتمسّك بالمشروع اللبناني كما يعلن جميع الأطراف شفاهة وكتابة على حساب الجانب الوظيفي للبلد وللفرقاء اللبنانيين كلما نجحنا على الأقل في تجنيب أنفسنا تلك الأثمان التي نراها من حولنا. وهذا كلام لا ينتمي إلى المعاني التي كان يحملها أو لا يزال شعار «حياد لبنان» بمقدار ما ينتمي إلى حماية لبنان من تداعيات حركات وأفكار وتيارات لم يكن يعاني منها.