غرق العرب بدمائهم فضاع منهم حاضرهم وتاهوا عن مستقبلهم!
يفيض الحزن، كما الدم، عن حدود الوطن العربي…
يطوف في زوارق الخطر حتى الغرق في البحار البعيدة هرباً من الوطن الذي كان نشيداً للأمة بأمنياتها وأحلامها بعنوان فلسطين…
تفيض دماء السوريين (والعراقيين واليمنيين والليبيين و…) عن حدود أرضهم المحروقة فتغمر الدنيا…
تسقط البيوت والجامعات، المدارس والمستشفيات، الكنائس والمساجد، والأشجار التي تموت واقفة…
تسقط النساء والصبايا منتظرات الفرح. يسقط الأطفال. يسقط الرجال، شيوخاً وشبانا كانوا عدة المستقبل الأفضل. تسقط الآمال مضرجة بدماء الغد. تسقط الأحلام السنية بسكاكين وحوش الماضي قتلة الحاضر بالأمس والمستقبل بالحاضر.
تسقط المدن مضرجة بأهلها. تسقط أشجار الزيتون والبرتقال وتنطرح الثمار تحت أقدام القتلة. يسقط الياسمين اغتيالاً بالرصاص المسموم. تتهاوى شجيرات الورد بضغط الدوي القاتل…
… ويأتي الدور على أم المدن حلب الأعرق والأعظم رصيداً بالتاريخ كما بالشعر، بالفن كما بالتجارة، بالصناعة كما بالعمران، بالأديان جميعاً، باللغات جميعاً وإن ظل للمتنبي فيها الصدارة مثيراً غيرة أبي فراس الحمداني، وسيف الدولة ينتشي طرباً بالشعر وهو يخوض منتصراً معاركه ضد الغزاة المتسترين بالدين. بالأمس كان الغرب خلف الصليب، ثم تلاه الترك خلف الهلال… وصمدت حلب بأهلها ولأهلها، وبمن اختار أن يرمي سيفه ليكون من أهلها.
تفيض دماء الأهالي عن بلاد الشام.
يخرج أهالي بلاد الشام من «شام الله في ملكه» إلى الأقطار الشقيقة فإذا المنافي أرحم منها. أُسقطت عنهم هويتهم التي اصطنعت التاريخ وصنفهم الأخوة الأشقاء «نازحين»، وداروا بلوائحهم يستعطون الغرب، بينما أصحاب العباءات المقصبة والعُقل المطرزة بالذهب يشكون العَجْزَ في الدخل القومي نتيجة انخفاض أسعار النفط لا ارتفاع منارات القصور والاستراحات الملكية في الصحراء وارتفاع أسعار الأبنية التاريخية في لندن وباريس والرباط وطنجه وماربيا وكان، حيث صار سعر اليخت يكفي لإطعام شعب اليمن.
الشهباء، أم المدن، النغم المنشي حتى الشجن، يا ليل الفرح، يا عين الطرب، يا مصدر الشهادة لصاحب أو صاحبة الصوت الآخذ إلى النشوة، يا أرغن الغناء وقيثارته وعوده بأصوات الشيوخ ومداحي النبي…
كيف يكون التحرير بالأَغراب الذين نذرهم «الخليفة» الدعي لتدمير الحضارة في بلاد الشام جميعاً من بغداد إلى الموصل ومن سامراء إلى الرمادي ومن الرقة إلى حمص وحماه، قبل حلب ومعها يُقتل إسلام محمد بن عبدالله بالذين لا يعرفون لغة القرآن، فإذا عرفوا الحرف سقط منه المعنى، ولا يعرفون من الدين إلا تكفير المؤمنين، ويكرهون المدن وبيوت التاريخ وأعمدة الحضارة فيدمرون كل مَن وما فيها، يسبون النساء ويدربون الفتية على الذبح، يغتالون أنهر الخصب ويقتلون القمح والزنبق، يدمرون الجسور ويحاولون إطفاء الشمس بخناجرهم ويعسكرون الأطفال ليرسلوهم إلى الموت…
بأي دين يجيء هؤلاء السفاحون قتلة القرآن الكريم بالآيات المشرقة بمعنى الإيمان، ذابحو الإنجيل المقدس بسيف التكفير، مدمرو الحضارة وبُناتها الأوائل في أرض الرافدين وسائر بلاد الشام، وقد أسقطوا منها فلسطين بالقصد، ودمروا ما عجزت عن تدميره إسرائيل، وحاولوا إبادة مَن قاتل أنواع الاستعمار المختلفة من العثمانيين إلى البريطانيين و(البرتغاليين) والفرنسيين… فضلاً عمن تستر بالصليب ليموه احتلاله ثم استعماره للأرض المقدسة.
… لكن النهاية تقترب، وسيُفرَض على أبناء هذه الأرض أن يعيدوا تعميرها، مرة أخرى، فهؤلاء «النازحون» يضمون بين طوابيرهم الناجين من الغرق واضطهاد ذوي القربى وعنصرية الأغراب، آلافاً مؤلفة ممن أسهموا في بناء بلادهم والعديد من الأقطار الشقيقة بخبراتهم وكفاءاتهم وعرق الجبين.
الخلود للشهداء الذين افتدوا الأمة جميعاً في بلاد الشام من أقصاها اليمني إلى أرض السواد إلى قلبها الدمشقي وصولاً إلى طرابلس الغرب في ليبيا النازفة.