خلال عشائه السنوي الثامن والأخير مع مراسلي البيت الأبيض منذ أسبوعين أنهى الرئيس باراك أوباما خطابه بكلمتين «Obama Out» معلناً الخروج من المشهد الدولي – الذي بدأه منذ انكفأ عن المسرح السوري – مكرساً إنهاء كلّ الأدوار التي قد يتراءى للبعض أنّه بصدد الاضطلاع بها ومسدلاً الستار على أيّة إعادة نظر بأي موقف سابق. الفهم الواقعي لذلك يعني استمرار المراوحة والتوتر القائمين في كلّ الساحات العربية، بمكوّناتها المحلية وبلاعبيها الإقليميين والدوليين والحفاظ على توازن القوى المحقق بانتظار متغيّر ما – ليس بالضرورة وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض – يُعيد الرئيس الحالي أو خَلَفه إلى المشهد الدولي.
في هذا السياق يتبادر إلى الذهن تساؤل استنتاجي يبدو مشروعاً، هل من قُبيل المصادفة تزامن تصعيد المواجهات في حلب واندلاع الفوضى داخل البيت الشيعي في العراق والتعثّر غير المبّرر للمفاوضات اليمنية بين الحكومة والحوثيين؟
في حلب، استعادة «جيش الفتح»، وبشكل مفاجئ، المبادرة والهجوم على خان طومان، وإيقاع خسائر فادحة في صفوف الحرس الثوري الإيراني قُدّرت بـ 13 مستشاراً عسكرياً وإصابة 21 آخرين وأسر البعض الآخر، مما استوجب حضور قاسم سليماني إلى حلب دون أن يكون هناك أي تدخّل جوي روسي. التحالف المذكور يتضمن «جبهة النصرة» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» التي رفضت المساعي الدبلوماسية لوقف الحرب المستمرة في سوريا منذ خمسة أعوام.
في بغداد، بدايات تصدّع للبيت الشيعي الذي طالما جاهر أبناؤه علناً بتضامنهم. الصراع بين الزعامات الشيعية لفرض السيطرة على العراق عبر الطائفة – يطرح مقتدى الصدر نفسه إصلاحياً وبانياً لتيّار يتجاوز الطائفة ليشمل العراق – يريد بذلك كتلة عابرة للطوائف تخضع لشيعيته السياسية، لذلك لم يدع جمهوراً من خارج الطائفة، للمشاركة في الإحتجاجات في ساحة التحرير والمنطقة الخضراء. ثورة مقتدى الصدر أدت إلى اندفاع واشنطن لتأكيد دعمها لحيدر العبادي بالتزامن مع تحذير إيراني من المسّ بتركيبة الحكم القائمة في بغداد.
في الكويت، وبرغم المرونة التي يتّسم بها المبعوث الدولي والتوافق على إشراك كافة المكوّنات في العملية السياسية، يستمر التأجيل في جولات التفاوض وعدم القدرة على جمع فريقيّ التفاوض في ظلّ خرق متمادي لوقف إطلاق النار من قِبَل فريق المتمردين، في محاولة لكسب الوقت لربط المفاوضات بمتغيّر آخر أو لتعطيلها.
لا يمكن فصل ما يجري في سوريا والعراق واليمن عمّا نشرته مجلة «ذي أتلنتيك» تحت عنوان «عقيدة أوباما» والتي دعا الرئيس الأميركي العرب من خلالها إلى اعتبار إيران شريكاً إقليمياً والقبول بتدخلاتها الإقليمية والتعاون معها لقتال داعش. عقيدة أوباما في هذا المجال لا تأخذ بعين الإعتبار تاريخ الإجتماع العربي والصراعات التي عرفتها المنطقة عبر تاريخها، واللاوعي العربي المتشكّل والمتجذّر نتيجة هذه الصراعات. المواطن الأميركي المنتمي إلى مجتمع مختلف والمتشكّل بطريقة مختلفة لا يُدرك ثقل هذه الترسبات الإجتماعية والتاريخية وصعوبة تجاوزها. من هنا فإنّ ما يريده أوباما، إذا وضعنا نظرية المؤامرة جانباً، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من الإشتباك الإقليمي غير المحسوب إلا في مصلحة أعداء العرب. لقد كرّر الرئيس الأميركي أثناء القمة الخليجية – الأميركية الأخيرة في الرياض، دعوته لدول الخليج بالعودة الى العراق. العراق الذي خرجت منه القوات الأميركية لتعود إليه بأوامره وإشرافه.
أليست عودة إلى مزيد من الإقتتال في العراق تلك التي يريدها أوباما، حين يُضفي القادة العراقيين كلّ القدسية على الحشد الشعبي ويقوم القنصل الأميركي في البصرة، ستيف ووكر، بعيادة جرحاه ناقلاً لهم «تحيات الشعب الأميركي» وشكره لهم. في الوقت الذي يدعو ائتلاف دولة القانون، بقيادة نوري المالكي، إلى طرد السفير السعودي ثامر السبهان من العراق، لإدلائه بتصريح حول رفض السنّة والأكراد دخول الحشد الشعبي إلى مناطقهم.
الدعوة الأخرى وجّهتها الولايات المتّحدة عبر وزير خارجيتها جون كيري في سبتمبر الماضي لتدخّل بري ضد داعش تقوم به دول سنّية في المنطقة. الأمر الذي كرّره وزير الدفاع آشتون كارتر بدعوة علنية لتشكيل تحالف للدول السنّية لمحاربة تنظيم الدولة. وحين أعلن وليّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، عن استعداد بلاده للتدخل البري ضد داعش في سوريا والعراق، تجاهل الأميركيون الموضوع أمام ردة الفعل الإيرانية السلبية.
الإشكاليات المطروحة في هذا المشهد المعقّد بدءاً من التطور الميداني في حلب وصولاً إلى الساحتين العراقية واليمنية في ضوء الشراكة الروسية – الأميركية الواضحة وضبابية الدور الايراني والرغبة الاميركية بمزيد من التورط الخليجي الميداني وفقاً للشروط الأميركية :
هل يُمكن اعتبار ما جرى في خان طومان نوعاً من المرونة التي تبديها موسكو لاستيعاب أي اندفاع
أميركي – تركي – خليجي نحو تسليح نوعي للمعارضة السورية المعتدلة؟ أو هو مزيد من تهيئة الظروف للإنقضاض على المعارضة المعتدلة السورية؟
هل تستطيع الولايات المتّحدة تحمّل تداعيات سقوط حلب في أيادي النظام، مما سيفقدها السيطرة على القرارات الخليجية أو التركية ؟ سيما إنّ خسارة المعارضة في حلب ستؤدي إلى تعديل ميزان القوى في اليمن.
وفقاً لعقيدة أوباما، الولايات المتّحدة لن تتورط في سوريا وسقوط حلب غير مسموح وغير محسوب النتائج. إنّ ما أسماه كيري بالخطة «ب» هي ترسيم، لأجلّ غير مُسمّى، لخطوط تماس بين المتنازعين في كلّ من سوريا والعراق واليمن ورغبة جامحة في مزيد من استدراج دول الخليج وروسيا وإيران إلى مزيد من الغرق في الوحول الإقليمية؟