Site icon IMLebanon

حلب بين المصالح الدولية وشرعية النظام

الجلسة الطارئة التي دعا إليها مجلس الأمن بطلب من فرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة، وبرغم الخطابات والإتهامات التي وُجّهت الى روسيا والنظام السوري بارتكاب جرائم حرب في حلب، لم تثنِ المندوب الروسي فيتالي تشوركين عن القول بوضوح إنّ كلّ هدنة سيستغلها الإرهابيون لتعزيز مواقعهم  وأنّ عملية السلام في سوريا باتت شبه مستحيلة. وزير الخارجية سيرغي لافروف عزى في معرض رده على الإتّهامات الأوروبية والأميركية فشل الهدنة الى مطالب إضافية أميركية كما اعتبر إنّ الإتّهامات التي ساقتها كلّ من فرنسا وبريطانيا قد تؤثّر سلباً على العلاقات مع روسيا. وترافق ذلك مع معلومات عن خطة روسية أُبلغت الى واشنطن بإخلاء مدينة حلب من السكان في خلال أسبوعين.

إنّ ما ارتكب في سوريا يفوق بآلاف المرات ما نُسب الى صدام حسين وميلوزوفيتش وعيدي أمين بل يفوق كلّ ما ارتكبه هتلر على امتداد عمر ألمانيا النازية. من أين يستمدّ النظام السوري شرعية الإستمرار بالرغم من المجازر التي ارتكبها على مدى خمسة أعوام وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يقف متفرجاً على ما ترتكبه روسيا الجديدة من قتل وتدمير؟ كيف يمكن فهم هذا الإذعان الدولي أمام كلّ ما يجري ؟ وأين تتقاطع المصالح الدوليّة مع التحالف الروسي الإيراني في سوريا؟

لا يمكن فهم ذلك إلا من خلال  قراءة استيعابية لمصالح النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتّحدة منذ خمسينات القرن الماضي والذي صِيغت وتصاغ على أساسه التحالفات الشرق أوسطية وتوضع من أجله مواصفات الشركاء المقبولين. إنّ العودة الى مسار المصالح الدولية  يُسهم في قراءة بعض نماذج هذه التحالفات التي أُنتجت للإجابة على التهديدات المطروحة. وفي هذا المجال يقدّم التقارب الذي نشأ بين تركيا وإيران في إطار حلف بغداد في خمسينيات القرن العشرين دروساً مدهشة في التوازنات الإقليمية الحالية. لقد قام التحالف الإيراني التركي الذي دعمته باكستان والعراق لفترة قصيرة بوجه مصر الناصرية التي شكّلت تهديداً لمصالح قوى النظام الدولي حتى بداية السبعينات، وقد قدّم هذا التحالف خدمات كبرى لإعادة التوازن للقوى الإقليمية وللعوامل الدوليّة المتعلّقة بهذا التوازن. كما صيغ تحالف آخر بين مصر وتركيا في أعقاب الثورة الإيرانية ليؤدي الوظيفة ذاتها. إنّ أوجه التشابه بين صورة عبد الناصر التي هيمنت على عقد الستينات لدى الغرب وبين صورة الخميني الذي سيطرت على عقد الثمانينات، تجعل من السهل فهم ماهية التحالفات الشرق أوسطية، ويتمثّل القاسم المشترك  لهذه التحالفات في أنّ الدولة التي يتم نبذها خارج التحالف، أو يوجّه التحالف ضدها دائماً هي التي تنتهج سياسيات تهدد إسرائيل. ووفق هذه القاعدة يُمكن قراءة حربيّ الخليج الثانية والثالثة لشطب صدام حسين من المعادلة الإقليمية.

لقد استندت مسألة الشرعية السياسية في العالم العربي  خلال الحرب الباردة إلى أرضية من التوتر بين حلف الناتو وحلف وارسو وبين العرب وإسرائيل. في الحرب الباردة، كانت الوحدة العربية والدولة القومية مرتكزيّن أساسيين لصياغة الشرعية السياسية الداخلية لهذه الدول وسياستها الخارجية . لقد أسفر التفكك الذي حصل داخل الدول العربية ذات الأجندة السوفياتية عن زيادة حدّة أزمة الشرعية بقدر كبير، كما أنّ الحركة القومية العربية التي كانت تضمّ منظومة العناصر المعادية للنظام الدولي شرعت بعد الثمانينات في تطوير شخصية تابعة لهذا النظام  بسرعة متزايدة. الولايات المتّحدة اجتذبت هذه الموجة إلى داخل النظام العالمي من خلال اتفاقية كامب دافيد، ولذا فهي اليوم تدعم محور القومية العربية المتّسق مع النظام العالمي  في مواجهة المعارضة الإسلامية المتنامية والمعادية لاسرائيل. ومع تحوّل القومية العربية إلى نهج تصالحي يتسّم بقدر كبير من المرونة تجاه عملية السلام، لم تعدّ فكرة العداء لإسرائيل كافية لاستمرار فكرة القومية العربية مما أدّى إلى اكتساب حركة المعارضة شخصية إسلامية، وبالتالي فإنّ السلوك المعادي لإسرائيل أصبح بمثابة الإقرار بصحة موقف حركات المعارضة الإسلامية. وتمثّل مدينة حلب اليوم بتياراتها الإسلامية المعتدلة أو المتطرفة، تهديداً للنظام العالمي من الزاوية الإسرائيلية مما يبرر إذعان هذه القوى أمام ما يرتكبه الحلف الروسي- الإيراني في سوريا كما يبرر حرية العمل المطلقة المُعطاة للجيش التركي في شمال سوريا ويطرح سؤالاً كبيراً حول الصمت العربي حيال ما يجري وحيال التحوّل الكبير في وظيفة دول العالم العربي ودورها في الشرق الأوسط الجديد.

لم تعدّ الشخصيات الكارزمية كافية لملء الفراغات الموجودة في البناءات السياسية في العالم العربي، ولم يعدّ العداء لإسرائيل من الجدية لبناء هذه النماذج من الدول. يُدرك الزعماء العرب أنّ الحفاظ على استمرارهم مشروط بالقدرة على تحسّس مسار مصلحة النظام الدولي ولذا يتعهدون نمطاً من العلاقات يحفظ لهم هذه القدرة على التحسس ويتيح لهم إمكانية التراجع في أيّ لحظة طبقاً لما يستشعرون من مستجدات، فسرعان ما تتبدّل صورة أيّ منهم من كاريزماتية ثورية إلى تصالحية مع المحور الأميركي الإسرائيلي لاكتساب الشرعية. فهل تذهب حلب ضحيةً لاكتساب النظام السوري الشرعية الدوليّة؟